صفحات الثقافة

الثقافة الفاسدة… وشم الكراهية على الخريطة السورية/ عمار تباب

 

 

إذا كان من الصعب عليك اقناع إنسان بأن يقحم نفسه بصراع ربما يكون فيه منتهاه، فإن الأمر ليس بهذه الصعوبة إذا ما حاولت إقناع مجموعة من الناس بالدخول في هذا الصراع، لأنك ستجد حينها مئات المداخل لإقناع جزء منهم بما تريد، وسيتولى هذا الجزء مهمة تطويع الآخرين، ولو بدون اللجوء إلى سياسة الاقناع التي غالباً ما يُستعاض عنها بسياسة القطيع. ولذلك مخطئ من يظن أن بناء الوعي الجمعي للمجتمعات أكثر تعقيداً من بناء الوعي الفردي للأشخاص المكونة لها، فالعلاقة بين تعقيد عملية البناء من جانب واتساع دائرة الجمهور المستهدف من جانب آخر، أقرب ما تكون للعكسية منها إلى الطردية.

وعليه كانت مهمة من أراد تشويه البناء التآلفي للفسيفساء المرسومة في دول شرق المتوسط بسيطة، رغم امتداد مدَّة تنفيذها التي استغرقت أجيالاً بكاملها، وفيما لو أخذت سوريا نموذجاً بحثياً فيمكنني القول إن محاولة التأثير على الفسيفساء السورية استغرقت أجيالاً، واعتمدت على مواد تاريخية وثقافية انقطعت تعليلاتها عن المحيط الاجتماعي الذي سُوَّقت واستُهلكت فيه فأهلكته.

وفيما لو سلطت الضوء على تسويق ثقافي ليوم واحد سأكون قادراً على التمثيل لما أُقدِّم، وهو يوم عاشوراء. ما زلت أنظر إلى نفسي في ذلك اليوم في حارة عتيقة من حارات دمشق عاصمة الأمويين، حاملاً الطعام الذي أعدته جدَّتي فرَحاً بذلك اليوم وترقباً لفضل من الله، أُنقِّل الخطى على مهل مرتدياً البياض، تفوح منَّي رائحة الطعام الذي أحمل، لم يكن هذا الطفل الذي ترقص عيناه تحت ستائر الكحل يدري أن الطعام الذي يقدِّمه لأهل صديقه سيُحال مسكوباً على الأرض، وسيكون سبباً ليوم يلمح فيه الحقد في عيون صديقه بعد أن سرت حرارة الشباب في دمائه، وسرت معها حرارة الثورة في جسد الشعوب العربية. لقد بقي لغز الوعاء المسكوب مجهولاً لديَّ حتى عرفت صدفة أن صديقي كان شيعياً، أو كما قال جدِّي كان «رافضياً» دون أن أعرف مؤدى هذه التعابير التي كانت تتسلل إلى أذهاننا بدون إذن وبدون تعليل، وأمام هذه الصفة التي صَنَّفَت صديقي رافضياً، صُنِفت أنا ناصبياً لديه ولكن بدون إذن منه أو مني وبدون تعليل.

يوم عاشوراء.. يحكى أنه يــــومٌ أنقذ الله به العالم من طغيان الطبيعة حين استوت سفينة نوحٍ على الجودي، ويوم انشق فيه البحر لموسى فأنقذ الله به العالم من طغيان الاستبداد المتمثل في فرعون وحزبه، إلا أن طغيان الكراهية أشدُّ من ذلك، الكراهية التي تسللت إلى اللاوعي الاجتماعي من خلال تصنيفات وتوصيفات انقطعت علاقتها بحامل التصنيف أو الوصف.

لم تكن جدتي حين أعدت الطعام أو أمي حين رسمت بالكحل عيني أو جدي حين نشر الرحمة فينا حينها، يفترضون النكاية بأحد أو الشماتة بمقتل من لو خُيِّروا كانوا فداء له، إلا أنني لو ناقشت الموضوع من جهة الطرف المقابل لوجدت أن الرسالة التي وصلت إليه تقتضي ذلك، في ما لو عطلنا دور العقل المحكِّم.

قلَّبت الصفحات الصفراء والبيضاء والالكترونية بحثاً عن أصل هذه الثقافة الاجتماعية التي تفرض جعل هذا اليوم يوم فرح، فوجدت أن خيوط المسألة تنعقد لعدد من الأحاديث التي أصّلها الفقهاء وعلماء الحديث على أنها موضوعة (ملفّقة) إلا أنها لم تزل موجودة في بطون المؤلفات، ليبقى أثرها على رأي العامة حاضراً. العامة التي كانت بيدقاً بيد اللاعب، منفعلةً لا فاعلة في يدي رسام، رسامٍ رسم الكحل في عيني ورسم الابتسامة على وجوه من حولي، ورسم الحقد في عيون آخرين في يوم كان الأجدى أن يكون يوما للسلام لا للحقد أو الابتسام.

إن هذه اللوحة الزيتية سرعان ما تملكتها شرارة الكراهية فكان زيتها وقوداً لنارٍ يحرسها الكهنة، وسرعان ما أُحِيل هذا الزيت دماً مسكوباً في بلدٍ قالوا عنه مهد الحضـــارات وعنوان التسامح، ولكنَّ المهدَ انهدَّ والعنوان ضاع وكأن الحبَّ الذي كانوا يتحدثون عنه كان تلفيقاً، وكأن كلمة أحبك التي سمعتها من صديقي ذات يوم بلَّلنا فيه ماء بردى، كانت على سبيل الكراهية.

ليست المسألة مسألة تاريخ أسود أو راية سوداء ولا حتى عمائم سود، بل المسألة مسألة قلوب سوداء هجرها الحب، قلوب رفضت أن تعطي المتهم حق الدفاع عن نفسه بحجة ما سموه التقيّة، التهمة الرديفة التي تضع الجميع أمام قباحة العدالة المفترضة التي أصدرت الحكم بالقتل كرهاً، أو الكره المؤبد في حال التخفيف. الأمر الذي تمثل رفضاً اجتماعياً متبادلاً وهدم الثقة التي يقوم ويُؤسس عليها العقد الاجتماعي المفترض بين مكونات المجتمع، إن المسألة بموروث للكراهية ألبسناه لباس الدّين، إن المسألة بأحاديث أثبت الجميع كذبها، واحتفظ بها الجميع محركاً لانفعالاتهم اللاواعية ، ليست مسألة عاشوراء ما يهمني، إلا أن مسألة الانسان الذي تجرَّد من انسانيته باسم الدين ما يعنيني.

علام نلقي بأبنائنا إلى أتون حرب طائفية لن تُبقي ولن تذر إلا الخراب؟

علام يشار إليَّ بالاتهامات عن جرائم ارتكبت في عصرٍ لم أكن به جسداً ولا مضغةً ولا علقةً ولا نطفةً ولا حتى فكرةً في ذهن أحد؟

علام لا تزال مؤلفاتنا الموروثة زاخرة بثقافة الكراهية؟

علام نولد وقد تبادلنا ثقافة الكراهية؟

علام نُقتل ويذكر علينا اسم الله؟

 

٭كاتب سوري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى