صفحات الرأي

الثورات: الآن، ما العمل؟/ محمد الحدّاد

يوم 17/12/2010، أقدم شاب مغمور من سكان مدينة فقيرة على إضرام النار في جسده، احتجاجاً على وضعه الاجتماعي وقلة اكتراث السلطات لحاله. مئات من المحتجين خرجوا في مدن تعبيراً عن استيائهم وسخطهم أمام هذه المظلمة، ثم لمّا توفّي الشاب بعد أيام بسبب حروقه، تحوّل التعاطف إلى حراك اجتماعي عارم انطلقت معه أولى الثورات العربية من تونس، مفتتحة ما دُعي آنذاك بـ «الربيع العربي».

كم نحن بعيدون اليوم عن هذه البداية بمكوّناتها الواقعية والرومانسية في آن، فما دعي بـ «الربيع العربي» تحوّل إلى حمام دماء، النار لم تلتهم جسد محتجّ أو عشرة محتجين أو مئة، بل تحوّلت إلى حريق هائل يعصف بالأخضر واليابس ويهدّد المجتمعات العربية بأن تصبح بعد سنوات حقل دمار، والجميع مستعدّ ومتأهب لمنازلة الجميع، والكلّ يحلم بإبادة الكلّ، لا صوت إلاّ وهو يردّد أنّ الأيادي المرتعشة لا تصنع التاريخ وأن حروف التاريخ مزوّرة إذا لم تخضّب بالدماء… فأصبح عدد القاتلين مهولاً، سواء الذين يمارسون القتل أو يتمنّون ممارسته يوماً، وبالضرورة أصبح عدد القتلى أيضاً مهولاً، فكأنّ من لا يقتل سيُقتل، وأصبح ثانوياً أن يسأل المرء نفسه لماذا القتل والدمار وهل هو حتمي؟

لماذا لا يمكن بلدان الثورات العربية أن تحقّق ما حققته شعوب أوروبا الشرقية بعد أن تخلصت من الأنظمة الشمولية الشيوعية؟ أو ما حققته شعوب أميركا اللاتينية بعد أن تخلّصت من الأنظمة الديكتاتورية العسكرية؟ أو ما حققته جنوب إفريقيا بعد أن تخلّصت من نظام الفصل العنصري البغيض؟ لكنّ مرجعياتنا ليست من هذا العالم، فنحن دخلاء فيه وهو دخيل علينا، مرجعياتنا حرب البسوس وداحس والغبراء والفتوحات والغزوات وكربلاء والخوارج والحجاج بن يوسف. إسلاميونا يحملون أبناءهم في الاعتصامات ليقدموهم قرابين لأرباب صنعوها بأيديهم، وليبراليونا يرون شيئاً واحداً: الكتاب والقلم والمدفع والدبابة. إلى أين نحن ذاهبون في وسط هذا العماء الهائل الذي يحيط بنا؟ ما آخر هذه الحرب ضدّ الحضارة التي نخوضها بأنفسنا ضدّ أنفسنا؟

كانت الآمال في البداية حقيقية وواقعية. تونس كانت عام 2010 بلداً متماسكاً لولا ثلاثة منغّصات كبرى: حرية سياسية شبه معدومة وسوء توزيع للثروة الوطنية بين الجهات واستشراء فاحش للفساد المالي. كان يمكن حكومة راشدة تأتي بعد الثورة أن تصلح هذا الوضع في سنوات معدودة، ولكن بدل ذلك شغلوا البلد بقضايا مغشوشة وأغرقوه في متاهات الأيديولوجيا البائسة وجاء من يريد أن يعيد كتابة تاريخه منذ عقبة بن نافع، وكثر الشيوخ غير المباركين ومناضلو الساعات الأخيرة والدجالون من كل صنف.

وليبيا كانت (وما زالت) أكبر احتياط نفط وغاز في شمال إفريقيا، وعدد سكانها في حدود ستة ملايين نسمة، بما يعني أنها لا تحتاج إلى حكومة عبقرية كي تجعل ذلك العدد المحدود من البشر يعيش أفضل عيشة، يكفيه أن يستغلّ ما حبته به الطبيعة من ثروات هائلة. كان يحتاج فقط أن يتخلّص من العقيد القذافي الذي كان يبدّد ثرواته في مشاريعه المجنونة. ومصر بلد التعددية والتنوّع، كان بديهياً ألا يستأثر طرف واحد بحكمها وإدارتها، وكان يمكنها، بما تزخر به من عمق حضاري وتجربة عريقة في الدولة، أن تسلك على الأقلّ سبيل الهند، فتحوّل التنوّع إلى عامل قوّة، وتعيش كما تعيش الهند اليوم: ديموقراطية مستقرة على رغم الكثافة السكانية، واقتصاد حيوي على رغم ارتفاع معدلات الفقر. وسورية، جارة العراق، كان يفترض أن يتعظ جميع أهلها بما حصل في جوارهم ويدركوا معنى التدخل الأجنبي وإشعال نيران الفتنة الطائفية والدينية. عسكرة الثورة هناك كانت خطأ جسيماً وساذجاً، فلم يكن وارداً أن تتدخل القوات الغربية في بلد يتاخم حدود إيران وروسيا ولا أن يتخذ أي زعيم غربي قراراً بإرسال أبناء بلده للموت من أجل حرية السوريين.

استمرت المقاومة السلمية الديموقراطية في بورما من 1988 إلى 2011، ونظاما نايبيداو ودمشق متشابهان في الطبيعة والتركيبة، فكان على مَنْ يريد تغيير التاريخ ألا يستعجل النتيجة، ومن استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. ماذا سيستفيد السوريون من بلد دُكَّ بأكمله ومن استبدال نظام الأسد بإرهاب «القاعدة»؟

أخطّ هذه الكلمات لأقنع نفسي قبل غيري بأن «الربيع العربي» كان أمراً ممكناً، لكنّ أطرافاً داخلية وخارجية هي التي اغتالته، ولم يبق لنا اليوم إلاّ أن نتسلّح بالواقعية والشجاعة لنراجع سقف انتظاراتنا وطموحاتنا ونعيد ترتيب أولوياتنا، وأهم شيء اليوم وقف مسلسلات العنف الأعمى المتأجج في كلّ مكان، والبحث عن سبل للتعايش قد تكون مخيّبة وغير عادلة لكنها ستحقن على الأقلّ جزءاً من الدماء المهراقة وتخفّف أعداد الضحايا، وقد أنهكت جميع الأطراف بما يجعلها قابلة للتنازل وإن تظاهرت بعكس ذلك.

ونحتاج أيضاً إلى قبر عبارة «الربيع العربي»، فهي لم تعد تفيد شيئاً، فالربيع فصل جمال وأمل غمرته سيول الدماء والدموع، وعلى كلّ بلد أن يتدبّر أمره بنفسه وفق طبيعة أوضاعه، وأن يعالج أزماته من دون تأثر بما يحصل قربه وإلاّ تعقدت أكثر فأكثر، كما حصل في تونس التي زادت الأزمتان السورية والمصرية على أزمتها، فكل وضع هو كارثة بذاتها ولا فائدة ترجى من متابعة كوارث الآخرين.

ويتحمّل المثقفون جزءاً من مسؤولية انهيار «الربيع العربي» لأنّ كثيرين منهم، مع التشديد على استثناء بعضهم، لم يسعوا إلى بناء ثقافة تحترم التنوّع والتعددية وتنفتح على الآخر مهما كان مختلفاً وتميّز بين شجاعة الموقف ووضوحه واحترام الموقف المخالف. رجع كثيرون إلى صحفهم الأولى، الصفراء منها أو الحمراء، ينفضون عنها غبار السنوات الخوالي، ويستعيدون بها أحلام الطفولة الأيديولوجية، مع فارق أن الأحلام أصبحت هذه المرّة جرعات حنظل تتجرّعها الأجيال الناشئة التي لم تحلم بشيء، وإنما أرادت فقط أن تعيش بشيء من الكرامة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى