صفحات العالم

الثورات العربية، لبنان وقضية الفلسطينيين


زياد حداد

لوحتان لاسماعيل شمّوط. لم يفوّت منتقدو الثورة في سوريا فرصةً للتذكير بأن الثورات العربية، التي كانوا دعموها بكل حناجرهم، لم ترفع شعارات المعركة مع اسرائيل ولا حتى تحرير القدس، واستنتجوا تالياً أن إسقاط حلفاء الغرب في المنطقة (مبارك وبن علي، وأخيراً القذافي الذي تعرّى من برامجه التسلحية وقدّم عقود النفط السخية للشركات الغربية) إنما هو مؤامرة من الغرب عينه للنيل من المقاومة والممانعة ومحور الصمود.

هذا التحليل يغفل أن ظروف المعركة وأهدافها، في إسقاط الأنظمة، كانت واضحة ومحصورة ولم يكن من داعٍ لإشغال من يواجهون الموت بصدور عارية في مواجهة رصاص الطغاة بإثبات وطنيتهم وقوميتهم وعروبتهم وبأهداف خارجة عن إطار معركتهم. كما يغفل هذا التحليل عن ضرورة بناء دول قادرة على الدفاع عن مثل هذه القضايا مقدمة للوقوف إلى جانب الفلسطينيين، وهذا ما فهمته الشعوب العربية بعد عقود من استغلالها باسم القضية من دون أن تتقدم القضية شبراً سوى نحو التفتت وتكرار الهزائم. غير أن سطحية التحليل لا تعفي من ضرورة التفكر في مآل هذه القضية، المركزية في وجدان العرب وفي شعورهم بالغبن، في ظل هذه الثورات وما سيليها. في هذا الإطار، كما في سواه، يشكل لبنان حالة استثنائية ينبغي إفرادها بنظرة مستقلة.

الثورات العربية تطرح مقاربة جديدة لقضية الفلسطينيين

لا شك أن الدول العربية في الأربعينات، برغم محدودية هوامش الحرية والحركة الحزبية والفكرية فيها، كانت أكثر تقدماً وأرحب صدراً بمعارضيها من الأنظمة القمعية التي عرفناها. إلا أن تلك الدول العربية آنذاك كانت لا تزال قاصرة عن امتلاك أدوات الدولة وحقوقها على الصعيد العالمي، فكان أغلبها تحت الانتداب أو الوصاية أو الاحتلال، وكانت قدراتها العسكرية لا تزال جنينية، مثلما كان نضجها السياسي. وما كان في إمكان مثل هذه الدول آنذاك أن تقف في مواجهة المشروع الصهيوني المدعوم أوروبياً. لذا كان إنشاء الدولة الصهيونية ذريعة للعسكريين العرب، أو للحالمين بعسكرية لم يعيشوها كما صدام حسين مثلاً، للقفز على انظمة ملكية أو جمهورية كانت فيها نواة من الحرية السياسية والفكرية ومساحة للعمل والنقاش، كما لو أن الحرية كانت عامل الضعف. وبحجة بناء جيوش لقتال اسرائيل، أنشأ هؤلاء الطغاة كتائب نخبة خاصة بهم وبأولادهم، وأجهزة أمنية وحشية، واحتلوا الفضاء الإعلامي والسياسي بمفردهم معلنين أن بقاءهم في السلطة أبدي وأنهم أمل الأمة وحرّاسها وزعماؤها الخالدون. لسنا نحتاج كثير تأمل لنرى ما أفضى إليه هذا النمط من المواجهة: هزيمة الجيوش العربية في حزيران 67، إضاعة فرصة تشرين 73 بالتفرد المصري والعناد السوري ثم معاهدة كمب ديفيد، احتلال اسرائيل للعاصمة العربية الثانية، بيروت، في خضم صمت عربي مدوٍّ، تدمير مقدرات العراق في حروب لا تنتهي وصولاً إلى تدمير الحرس الجمهوري والجيش وكتائب صدام وولديه على ما سيصير نموذجاً لاحقاً مع كتائب القذافي وأبنائه الذين رفضوا انتفاضة الشعب الليبي وألجأوه إلى دعم خارجي له أكلافه الباهظة، تحويل سوريا من طليعة النهضة الدولتية والثقافية والإعلامية والفنية في العالم العربي إلى مرتعٍ للمتزلفين إلى رأس النظام وإلى مافيا الفساد العائلي والاستخباراتي التي تدافع بشراسة دموية مجرمة عن امتيازات لاشرعية اقتطعتها لنفسها عالمةً في قرارة نفسها أن هزيمة النظام باتت حتمية، والسؤال هو عن الكلفة اللازمة لعقد صفقة على الطراز اليمني، والحال شبيهة، بذرائع أخرى ربما، في اليمن والبحرين والجزائر وغيرها، ما يشير إلى القرابة في الدم بين كل أنظمة القمع العربية.

ثورات الشعوب العربية وشبابها اليوم تكنس منظومة القمع وأجهزتها كما تكنس منظومة الأفكار التي فرضتها، تلك التي تعتبر الحرية فوضى وضعفاً والاستبداد قوة وعامل كرامة. وتعيد هذه الثورات الاعتبار إلى حقوق فردية في الكرامة والحرية والمبادرة هي، واقع الأمر، الأساس في ضمان كرامة الدولة وحريتها ومنعتها، كما تفرض، فكرياً، ضرورة المحاسبة ومحاربة الفساد. في هذا، تفترق الثورات العربية وما تؤول إليه من تغيير للأنظمة عما حصل في العراق، حيث تضافرت عوامل الاحتلال الأجنبي المباشر وتدخل الدول المجاورة وخواء البنى الاجتماعية العراقية بعد حكم البعث وكون التغيير لم ينتج من حراك داخلي شبابي منتج لأفكار وطموحات وحركات جديدة. الثورات التونسية والمصرية، والسورية اليوم، هي كفاح يومي ولقاح حقيقي ضد الخوف من التجربة العراقية في تغيير الأنظمة، وهي دليل مستمر ومتواصل على قدرة الشباب العربي على المبادرة بوعي إلى تجربة جديدة يجري فيها تشبيك جماعاتهم وتأطيرها في أُطرٍ غير قمعية وغير تخوينية اقصائية. غير أن هذه الثورات لم تصل بعد إلى منتهاها ولن يتأتى قطف ثمارها قبل أعوام حين تصل الكوادر التي تولد من رحم هذه الثورات إلى نضج سياسي كافٍ للحلول محل السياسيين الحاليين المنقلبين على تحالفاتهم السابقة مع النظام.

يفرض هذا الأمر أن تنقسم المقاربة لقضية فلسطين مرحلتين: الأولى، الحالية، حيث لا تزال دول عربية أساسية في مرحلة التكوين الجديد ما بعد الثورة، ففي مصر وتونس، حيث سقط النظام، وفي سوريا حيث سقوطه المحتوم، وفي ليبيا الباحثة عن تسوية اجتماعية ما بعد القذافي، سيلعب الشباب العربي دوراً في الرقابة على تصرف الأنظمة وفي الحث والدفع على وقف الامتهان الفعلي الذي قبلت به الأنظمة المعتدلة والممانعة في التعامل الدولي مع هذه القضية، وهذا ما تجلى مع الموقف المصري الجديد من اسرائيل ومن قضية الأسرى كما في صفقة شاليط. كما أن الاحترام الجديد الذي كسبه الشباب العربي، والمتجلي في وسائل الإعلام الغربية كما في حركات الساخطين والداعين إلى “احتلال وول ستريت” تيمناً بميدان التحرير، سيشكل رصيداً مهماً في وقف التفرد الاسرائيلي بالتعاطف الدولي ويفرض نظرة دولية أكثر تعقيداً وتركيباً إلى قضايا الشرق الأوسط، أي أكثر ميلاً إلى الاعتراف بالحقوق العربية، بما يمكّن الدول العربية، بما فيها فلسطين، من اللجوء إلى الوسائل الديبلوماسية وإلى المحاكم الدولية المتعددة سعياً وراء تكريس هذا الاعتراف.

في المرحلة الثانية، أي تلك التي يتمكن فيها الشباب الذي يتخلق اليوم في حركاته الواعية والمتشربة لمبادئ الحقوق الفردية ولخطاب الحرية وبناء المؤسسات، فإن دولاً جديدة ستولد تكون مكتملة الشرعية في نظر شعبها، فلا تعود مفتقرة، كما كل الأنظمة العربية اليوم تقريباً، إلى شرعية أو حماية خارجيتين لها ثمنها فساداً وصفقات وإذعاناً. والبناء المؤسساتي والديموقراطي للدول سيمنح مواقفها وزناً أكبر وصلابة أمتن من المواقف اللفظية التي اعتدناها طويلاً، كما سيمنحها جيوشاً وأجهزة لا تنحصر مهامها في حماية الحاكم، بل في حماية البلدان وخوض الحروب إذا ما احتاج الأمر بكفاءة أعلى. يمنح ذلك كله دولنا المقبلة اكتمالاً للحضور الدولي بما يسمح لمواقفها بأن تكون أكثر وزناً وبأن تلقى احتراماً أكبر دفاعاً عن قضايانا ومطالبة بتحويل الاعتراف الدولي والقانوني بالحقوق الفلسطينية والعربية مواقف عملية تنهي الصراع على أساس عادل ومقبول من أهله.

بالطبع، هنالك خطران محدقان بهذه الرؤية إلى مرحلتي المستقبل العربي. الأول، أن تؤدي أطماع حركات إسلامية إلى حرف المسار الديموقراطي الذي تطلبه الشعوب نحو مواجهة على احتكار السلطة ما بين هذه الحركات والعسكر، بدل القبول بمبدأ تداول السلطة سلمياً ومدنياً قبولاً لا تراجع عنه. والثاني، ألاّ يترافق الاندفاع العربي نحو المستقبل مع اندفاع فلسطيني شعبي وثوري ينتج منه أيضاً تطوير قيادات فلسطينية بديلة أكثر إيماناً بضرورة الحرية وعدم التخوين والإقصاء واللجوء إلى العمل السلمي، واعتبار المقاومة المسلحة آخر الحلول وأردأها بما لا يبيح اللجوء إليها في غير حالة الهجوم المباشر على المدنيين الفلسطينيين. وحده المزيد من الانخراط الشبابي في العمل السياسي المدني والديموقراطي يتيح تفادي هذين الخطرين بتشكيل ضغط مباشر على الجيش والإسلاميين، وبتشكيل مثال ناجح يمكن الفلسطينيين تطويره.

الاستثناء اللبناني بين مقاومة “حزب الله” وحقوق الفلسطينيين

لا شك أن لبنان يشكّل، في الشأن الفلسطيني، استثناءً على الوضع العربي عموماً، لأسباب مفهومة: صغر حجم البلد وضخامة وزن الطوائف فيه وخوفها من انضمام كتلة فلسطينية سنية وازنة إلى موازينها، وارتفاع عدد الفلسطينيين اللاجئين إليه بالنسبة إلى عدد اللبنانيين بما يفوق نسبتهم في دول أخرى كالأردن وسوريا كانت أقدر ديموغرافياً واقتصادياً وسياسياً على استيعابهم، والكلفة الضخمة التي تكبدها لبنان جراء الاجتياحات الاسرائيلية، ولكن أيضاً جراء ممارسات التنظيمات الفلسطينية وجرّاء استخدام اللبنانيين المسألة الفلسطينية ذريعة للانقسام والاقتتال ما بينهم. يشكّل لبنان أيضاً استثناء عاماً على حراك الشعوب العربية الحالي، بالنظر إلى غياب أي حركة شعبية شبابية غير طائفية قادرة على تحريك الشارع أو على الضغط في اتجاه دولة أكثر حداثة وأقل فساداً. ويشكّل لبنان أيضاً حالة حدّية في تهميش الفلسطينيين اللاجئين وفرض قوانين ظالمة وقواعد جائرة تحرمهم أبسط حقوقهم في العيش الكريم، بذريعة الخوف من التوطين.

ما تغفل عنه الطبقة السياسية اللبنانية اليوم، أن في إمكان الموضوع الفلسطيني أن يعود ليكون ذريعة لمواجهة طائفية، ذلك أن تمسك السنة بلبنانيتهم، بعد اغتيال الحريري، وعداءهم للنظام السوري، لا يعنيان بحال من الأحوال انكفاءهم الدائم عن الصراع على السلطة في لبنان ولا نكوصهم عن دعم قضية الفلسطينيين، كما أن ايديولوجيا “حزب الله” الحاكم بأمره في الجمهورية السعيدة، وإن كانت مترعة بالرموز الدينية، لا يسعها التخاذل طويلاً عن نصرة الفلسطينيين، رغماً عن أنف التفاهم مع ميشال عون. والتوجه الشبابي والعالمي اليوم نحو قيادة الثورات باسم الحقوق الإنسانية والكرامة الفردية والحريات، لا يمكنه أن يتجاهل طويلاً موضوع الحقوق الفلسطينية الطبيعية في العيش في لبنان، بما سيعيد هذه القضية إلى الضوء من زاوية العيش البائس المفروض على الفلسطينيين.

احد نماذج هذا البؤس وضع مخيمي البارد، القديم والجديد، حيث لم يتم اعمار أكثر من ربع المباني المهدمة أثناء المواجهة مع “فتح الإسلام”، برغم المساعدات الدولية، وحيث يتم فرض قواعد قانونية تمنع على الفلسطينيين إعادة البناء كما كان، في حين يتم تجاهل هذه القواعد حن يتعلق الأمر بإعادة اعمار الضاحية الجنوبية. هذا الوضع المتفجر، الجامع ما بين الفقر والتشرد والحرمان من المأوى ورفض الاعتراف بحقوق مشتراة أو مكتسبة للفلسطينيين في المخيم وامتداده، لا يمكن تجاهله طويلاً ولا يمكنه سوى أن يولّد مزيداً من احتمالات التفجّر في البلد، مضافة إلى مشكلة السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها، التي لا يمكن حلها من دون الاعتراف بحقوق إنسانية طبيعية للفلسطينيين اللاجئين إلى لبنان.

على اللبنانيين المتنورين أن يضمّوا مطلب العيش الفلسطيني الكريم إلى مطالب تحديث الدولة والمجال السياسي فيها، بما يتيحه ذلك من حل لمشكلة البؤس وما تولّده من تطرف ومن احتمالات التدخلات الخارجية والتفجر الداخلي وبما يتيحه ذلك من حل لمعضلة السلاح الفلسطيني والبطالة الفلسطينية فضلاً عن ضخّ يدٍ عاملة رخيصة تحل محل العمالة السورية التي يفترض توجيهها للعمل داخل سوريا حين تهتم الدولة السورية العتيدة بداخلٍ لها. لا عذر للبنانيين، ولا لحزب المقاومة اليوم أو لحكومة ميقاتي، في عدم البدء بحل مشكلة الفلسطينيين في لبنان، واعادة اعمار مخيمي البارد وإنشاء إطار قانوني غير عنصري بما يضمن حقوق جميع سكان لبنان في العيش بحرية وكرامة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى