صفحات مميزة

الثورات العربية وإعادة الشان العام لمجاله الشعبي


عبد السلام اسماعيل

مضى العام مسرعا بخفة رغم أيامه المثقلة بالأحداث العظيمة والجسيمة، والمشبعة بدماء الشهداء وآهات الأمهات والهادرة بهتافات الثوار، التي أعلنت عن معجزة الشعب الذي يعود للحياة للمرة الأولى في تاريخه!

ولا تحمل العبارة السابقة في طياتها على أية مبالغة، فاستثنائية العام المنصرم تأتي من أمور عديدة، يأتي على أولها عودة الشعوب العربية الغائبة والمغيبة عن ساحة الشأن العام منذ فجر التاريخ. فشعوب الشرق عامة والشعب العربي خاصة عُرف بدلالة مصطلح “الرعية” الرائج في أدبيات التراث. حيث ينطوي المصطلح على سلبية واتكالية هذا الجمع البشري وحاجته الدئمة إلى راع يقوده إلى صالح عام يرتأيه. ويرسخ في تاريخ ثقافتنا أن الحاكم هو ابن الله فرعون مثلا، وفي أحيان أخرى ثلثه إله كجلجامش في الميثولوجيا البابلية، أو مفوض بالحكم بتفويض إلهي كسسلسة الخلفاء الذين تعاقبوا علينا بدءا من الحكم الأموي، ولعل الألقاب التي حملها خلفاء بني العباس تعبر تماما عن الفكرة، ويكاد يكون الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه –على حد علمي- هو أول من وصف السلطة كهبة إلهية حينما رد على من طالبه بالتنحي: ما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله.

فالمسألة لا علاقة لها بالتقوى والإيمان، إنما نابعة من ثقافتنا الراسخة والممتدة امتداد تاريخنا المدني عن مفهوم السلطة وعلاقتها بالشعب. أرجو ان تكون هذه الفكرة واضحة في أذهان التيارات الإسلامية المتأهبة لولوج المعترك السياسي. ورغم التطور الحضاري الكبير الذي حققه الإنسان، وانتشار المفاهيم الحديثة عن فصل السلطات والشرعية والدولة المدنية واعتبار الشعب مصدرا للشرعية ومحلا لتفويض الحاكم بالسلطة، ورغم امتلاء دساتيرنا بهذه الرطانة، بقي الحاكم هو القائد الملهم، والضرورة، وغالبا ما يوصف بالأب القائد أو الأخ القائد. وبقي الشعب أيضا بعيدا كل البعد عن الشأن العام، يستثنى من ذلك فترات التحرر من الإستعمار، حيث لم يكن القائد الرمز التاريخي يجد كرسيا ليجلس عليه، رغم أنه يملكه في وعينا الجمعي وثقافتنا العامة.

ويكاد يكون تاريخنا، تاريخ يملأه الرضى بالإستسلام للسلطة، وعدم الإكتراث للشأن العام. حتى أن أرسطو وصف شعوب الشرق، بالشعوب ذات الإستعداد الفطري للعبودية. فالشعب اعتاد على أن القضايا العامة ذات الصلة بالمجتمع والسياسة والإقتصاد والثقافة، مسائل لا تعنيه ولا تدخل ضمن نطاق فاعلية اهتماماته ويعتبرها شؤون خاصة برجال الحكم والنخبة، لهذا ولأسباب أخرى لا يتسع المقال لذكرها، يكاد يكون الفقه الإسلامي –باعتباره الممثل لمرحلة مشرقة من تاريخنا الحضاري- فقيرا حد الجدب بالدراسات المتعلقة بالحكم وعلاقته بالشعب إلا اللهم علاقة الإنقياد وعدم جواز الخروج على الحاكم، وفي الشأن الٌإقتصادي، أحكام حول البيع والشراء تدور حول الأمر الإلهي بعدم جواز الربى، دون أن ترقى لتشكل نظرية إقتصادية متماسكة. وعلى ضحالة هذا التناول كان مصوغا بصياغة الأوامر والتعليمات الصادرة من سلطة عليا إلى عامة الشعب الذين لا محل لهم سوى التنفيذ، كتكريس لاستمرار وقوع المجال العام خارج دائرة الإهتمام والتأثير الشعبي.

والسلطة بدورها اعتادت على غياب الشعب هذا، فأصبح التدخل بالشأن العام حقا حصريا للسلطة لا يشاركها فيه أحد، وأي محاولة لكسر هذه النمطية تأتي كخروج سافر عن الثقافة والتقاليد العامة تستدعي أقسى العقوبات من الحاكم دون أي إستهجان شعبي، فالشعب معتاد ومتقبل لطغيان السلطة، ويدرك بلا شعوره وحتى شعوره الواعي أن الحديث بالشؤون العامة بما لا يعجب السلطة مسألة محفوفة بالمخاطر تستوجب العقاب من حيث المبدأ، وتبقى قسوة العقوبة هي القابلة لإبداء الإمتعاض حولها –سرا في أغلب الأحوال- وليس مبدأ العقاب أو حق الشعب في ذلك، فالشعب لا حق له في ذلك. وهذا يفسر القبول الشعبي لكثير من الممارسات السلطوية المهينة للكرامة الإنسانية، مثل لطمة يتلقاها مواطن من عنصر أمن أو مسؤول ما على سبيل المثال لا الحصر.

 ويكاد يكون الشعب نسيا منسيا في حسابات السلطة، فهو مجرد حشد بشري يصلح لأعمال السخرة، والتكسب ويصلح أيضا للتصفيق لإنجازات القائد، ولا يتعين على السلطة تقديم الإهتمام به إلا من باب المكرمة والتفضل، فالمجال الداخلي والشعب أساسه، ليس هو موضع الإهتمام، إنما المجال الخارجي الذي يكون عادة هو مجال الإهتمام وميدان ملائم لبناء المجد الشخصي للحاكم. ويرسخ في ذهن السلطة أن الشعب مجرد نكرة وصنيعة للحاكم، واعتقد أن مرد هذا الأمر بجانب أساسي منه يعود إلى غياب الشعب عن المجال العام.

فعندما ثار الشعب التونسي مثلا، استهل بن علي خطابه قائلا: لقد فهمتكم! مما يعني أن الشعب لم يكن يوما مهما حتى يحاول الرئيس فهمه قبل اليوم. ومثله مبارك قال: سأبقى حتى أسلم السلطة لأضمن استقرار البلد. عبارة تعبر عن لا ثقة كاملة في الشعب وبقدرته على تسيير أموره بنفسه. أما القذافي فقد عبر تماما عن موضع الشعب في الذهنية السلطوية، بقوله: من أنتم؟!

وبشار الأسد: قال في مقابلته مع الواشنطن بوست، لا أشعر بالذنب إنما بالأسف، ليعبر بذلك عن مدى هامشية إحساس السلطة بالمسؤولية تجاه الشعب وما يحدث له، بصرف النظر عن كونه هو الفاعل.

ويعتبر بشار الأسد نموذجا معبرا، عن موضع الشعب في حيز اهتمام السلطة، فهو ومنذ اندلاع الثورة في سورية وسقوط آلاف القتلى، لم يجد نفسه ملزما بتوجيه أي خطاب مباشر للشعب! وكل خطاباته كانت عبارة عن مقابلات مع وسائل أجنبية أو خطابات غير مباشرة تمر عبر وسطاء لتصل رسالته في النهاية إلى الشعب بطرق ملتوية!

فضلا عن كون الحالة السورية عموما، نموذج يلخص كل ما ماسبق ويمثل طريقة تعاطي السلطة مع الشعب وفقا لموروثنا الثقافي، فالشعب العربي لم يثر يوما في تاريخه على حقوق سياسية ولم تكن الحرية أبدا قيمة تستدعي التضحية في سبيلها مقابل سلطة محلية تحتكرها. ولا يذكر التاريخ أن الشعوب العربية قامت بثورة “شعبية” على سلطة تحكمها، بل مجمل ما كان يحدث ثورات مسلحة بقصد الحصول على السلطة، أو احتجاجات على سوء الأحوال المعيشية، أي على قضايا مرتبطة بالحاجات الأساسية من مأكل ومشرب، ولو أمن الحاكم هذه الأشياء فلن يجد معترضا عليه مهما استبد في حكمه!

وهو ما عبر عنه بشار الأسد بدهشة في خطابه الأول، حينما قال: أنا ألتقي الكثير من السوريين وكانت كل مطالبهم تدور حول قضايا معيشية، ولم يتطرق أحد للحقوق السياسة !

مرة أخرى، الشأن العام ليس شأنا شعبياً!

وان كانت الثورات العربية بجانب مهم منها ردا على سوء الأوضاع المعيشية والفساد الهائل الذي حاصر الناس في لقمة عيشهم. الا إنها بجوهرها كانت ثورات لرد الإعتبار وانتزاع الإعتراف بوجودها إزاء سلطة لم تشعر بوجود الشعب واعتباره يوما . هي ثورات الكرامة كما وصفها ياسين الحاج صالح مرة.

إن صيرورة وسيرورة التطور الحضاري وانتشار مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، والديمقراطية وتداول السلطة . . الخ وتحولها بفعل تحول العالم إلى قرية صغيرة إلى مفاهيم عالمية من جهة، وتغول السلطة وطغيانها الهائل واحتكارها لكل شيء في هذا العصر المفتوح من جهة أخرى ساهم في تحفيز الشعب على أخذ زمام المبادرة، ودخول المنطقة التي كانت محظورة لآلاف السنين. ومن هنا نفهم أيضا وحشية السلطة في ردها على الشعوب التي حاولت تحرير الشأن العام من السيطرة الأزلية بقصد المساهمة في تشكيله وصنعه بما يتوافق وتطلعاتها. لقد دخلت الشعوب في المنطقة المحظورة لآلاف السنين وعليه هي تستحق كل العقاب بما يتناسب وحجم تدخلها السافر!

لذلك كان الشعار الأول: الشعب يريد إسقاط النظام معبرا أفضل تعبير عن إرادة الشعوب في جعل الشأن العام مجالا شعبيا، وكان الشعار الثاني: الشعب –السوري- ما بينذل، تعبير آخر لإرادة رد الإعتبار لهذه الحشود المنسية على مر العصور.

**********

الإستثنائية الثانية للثورات العربية، طبيعتها السلمية – فيما لو استثنينا المثال الليبي- وحجم الحشود البشرية المساهمة فيها، فلم يشهد تاريخنا يوما ثورة سلمية أو ثورة ساهمت فيها هذه القطاعات العريضة والهائلة من الشعب. ومن ثمرات هذه النقطة، التأسيس لمفاهيم المدنية والنضال السلمي في تحقيق الأهداف والتغلب على العقبات، بما يضمن مستقبل أفضل للمنطقة فيما لو تجذرت هذه الثقافة، وأيضا تحطيم مفهوم القائد والواحدية التي حكمت ثقافتنا على مر التاريخ، فالثورات العربية اليوم هي ثورات بطلها الشعب من خلال احتشاده وعدم حاجته إلى القائد الضرورة. ويكاد يكون معظم الأشخاص الذين عرفناهم كمساهمين فاعلين في الثورة – وليس هذا بالتعميم – هم أقل الناس فاعلية فيها على مستوى الفعل على الأرض، فالأبطال الحقيقيون أو الأشخاص الأكثر مساهمة غالبا ما يكونون مجهولي الهوية، وما بروز بعض الأسماء على الساحة إلا بفضل الإعلام أكثر من كونه بفضل فاعليتهم في مسار الأحداث، دون أن يبخسهم هذا حقهم أو يقلل من قيمتهم.

**********

الإستثنائية الثالثة، تأتي من اعتبار الربيع العربي كرد ورسالة حضارية طال انتظارها من قبل العرب إلى العالم بأسره، وما انتشار عدوى الربيع العربي الحميدة في دول العالم إلا خير دليل على ذلك.

http://www.3bdulsalam.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى