صفحات سوريةياسين الحاج صالح

الثورة، الإسلام، وامتلاك السياسة: في نقد “التيار المدني” والاستقطاب المدني الإسلامي

 

ياسين الحاج صالح

هنا “الإشكالية” التي طرحها الملحق على الكتاب العدد السنوي

تكشفت الانتفاضات والثورات العربية عن تيارين كبيرين، ثقافيين وسياسيين، في كلٍّ من البلدان المعنية: التيار المدني بألوانه الليبيرالية والعلمانية واليسارية، والتيار الإسلاموي – الإخواني – السلفي.

في ضوء الواقع الراهن، بتعقيداته المحلية، والإقليمية، وتناقضات المصالح الدولية، أين نحن كمثقفين من المأزق المقلق الذي يواجه هذه الثورات، وكيف يمكن كلٌّ من الشعوب المنتفضة والثائرة أن لا يقع في فخاخ ديكتاتوريات جديدة بديلة، ترفع شعارات الدين وترتدي أقنعته الزائفة، وأن ينجز مؤسساته الديموقراطية، في دولة الحق والعدل والقانون والحرية؟

***************المقالة

لا أرى، بداية، أن الكلام على “تيار مدني” متعدد الألوان يتقابل مع تيار إسلامي متعدد التيارات الفرعية منتجٌ معرفيا أو سياسيا. من شأن ذلك أن يُغفِل تمايزات كبيرة ضمن كلا التيارين، يتواتر أن تتغلب على التمايز الكبير المفترض بين “مدنيين” و”إسلاميين”. محور الاستقطاب الرئيس في السياق العياني للثورة السورية اليوم هو الذي يفصل بين من هم مع الثورة إلى حين إسقاط النظام الأسدي، ومنهم مدنيون” و”إسلاميون”، وبين من هم مع النظام، ومنهم “مدنيون” يحصل أن يُعرِّف بعضهم نفسه بالليبرالية واليسارية، وبالعلمانية خاصة، ومنهم “إسلام” حكومي داجِن ومدجِّن.

ولعل الأمر لا يختلف جوهريا عن ذلك في مصر وتونس. فليس الاستقطاب المنتج هو ذاك الذي يفصل قطاعين من النخبة تميزهما اعتبارات عقدية، مؤمنين مقابل ملحدين مثلا، أو إسلاميين مقابل علمانيين، أو شرع الله محل القوانين البشرية، على ما قد يفضل طرح الأمر إسلاميون تسلطيون ومدنيون تسلطيون. معيار التمييز اليوم هو الثورة في سورية إلى حين إسقاط النظام، وهو الكفاح الديمقراطي في مصر وتونس، أي بين من يعملون من أجل مساحة اكبر للمبادرات والفاعلية الشعبية في حياتنا السياسية والعامة وبين تسلطيين إسلاميين ومدنيين تفكيرهم متمركز حول الدولة المربية، وحول فرض العقيدة الإسلامية أو “المدنية” عبر الدولة.

هل توفر “الإسلامية” أساسا متميزا للطغيان؟ و”المدنية” أساسا تفضيليا للديمقراطية؟ لا أقول إن العكس هو الصحيح، لكن أتشكك كثيرا في هذا التقدير.

1

ليس صحيحا بحال أن “التيار المدني” ديمقراطي لمجرد كونه غير إسلامي، أو مناضل من أجل الديمقراطية. الواقع أن تاريخ متن هذا التيار طول العشرين عاما الماضية على الأقل يضع طيفا واسعا منه في موقع أقرب إلى النظم الحاكمة، وإن بتحفظ متفاوت عليها. فإن كان من توجه سياسي يمكن نسبته للتيار المدني المزعوم فهو “الاستبداد المستنير”، أي نسخة من الاستبداد أقل انحطاطا مما عرفنا في العقود الماضية، لكنها محبة للثقافة والمثقفين، وتعمل على “تنوير الشعب”، ولا بأس في أن تتعامل معه بغلظة أبوية. لزوم “التربية”. والفاشية ليست نهجا تفضه أجنحة من “التيار المدني” في التعامل مع انتفاضات العامة، على نحو تظهره الثورة السورية أيضا.

أما الخصم النوعي لمختلف مكونات هذا التيار فهو “الإسلاميون”.

يمكن التكلم على تناقض بين الطابع المفتوح لتفكير هذا التيار والطابع المغلق لسياسته. لكن فكره خلال الجيل الأخير ليس منفتحا في الواقع، ولا يحوز مبدأ انفتاح أصلا على ما يصير ويتحول. لقد اغتال التيار المدني نفسه بنفسه حين وقف على أعتاب الدولة الاستبدادية المنحطة في مواجهة الإسلاميين وأي “مدنيين ديمقراطيين” (إثبات ذلك ميسور من أعمال مثقفين سوريين مكرسين).

بالمقابل يحمل التيار الإسلامي المعاصر تناقضا بين وجه شعبي مكتسب في مقاومة الطغيان، وبين منزع سلطوي متجه نحو الهيمنة والاستئثار. وضمن هذا التيار تيارات فرعية، تشغل مواقع متفاوتة بين طرفي التناقض، مع كونها أقرب جميعا إلى المنزع التسلطي بحكم تكوينها الفكري، المفتقر بدوره إلى مبدأ انفتاح. كلما عرف الإسلاميون أنفسهم بدلالة معتقدهم الديني حصرا كانوا أميل إلى التسلط (الجماعات السلفية والجهادية) والانعزال عن غيرهم، وكلما عرفوا أنفسهم بمناهضة الطغيان والمطالب الاجتماعية كانوا أقرب إلى  سند لحياة سياسية منفتحة وإلى الشراكة مع غيرهم. وتنجذب قطاعات من الجمهور إلى الإسلاميين اليوم لأنها تجد عندهم طاقة احتجاج نشطة، وانضباطا أخلاقيا، ومغايرة جذرية للنظم النخبوية التي حكمت بلداننا خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، فيما لم يشكل “مدنيون” غير الجناح المعتدل للنظم النخبوية نفسها، ودون طاقة احتجاج عامة، ودون أن تكون لهم دعوة اجتماعية وأخلاقية عامة من أي نوع.

2 وليس الانطلاق اليوم من استقطاب إيديولوجي مدني إسلامي بالأمر المحايد سياسيا. فهو في الواقع يضع هياكل الحكم النخبوي في موقع الحكم الأعلى بين “تيار مدني” فاقد للعزيمة السياسية ولا مشروع إيجابيا لديه، وبين إسلاميين صاروا تجسيدا للمعارضة السياسية الأكثر جذرية. وهذا يناسب تماما النظم الاستبدادية المنحطة التي اجتهدت في العقدين الأخيرين، وفي سنوات ما بعد أيلول 2001 بخاصة، على تصوير نفسها متراسا “متمدنا” ضد محكوميها المتوحشين، الإسلاميين بخاصة. وليس في الكلام على نظم منحطة انزلاقا نحو الهجاء، بل هو محاولة لإظهار افتقار هذه النظم إلى أي مبدأ أو فكرة عليا تسمو على البقاء المؤبد في الحكم وامتلاك كل الأشياء. إنها انحطاط منظم. ويناسب الطرح نفسه “مدنيين” عاجزين عن المبادرة الفكرية والسياسية، ومن شأن بقاء الأوضاع كما هي أن يحجب عجزهم عن تغيير أي شيء في أنفسهم أو في العالم حولهم. لكنه يناسب أيضا التيارات الأكثر تسلطية بين الإسلاميين حين يظهر أنهم المعارضون الحقيقيون والأكثر قربا من الشعب.

الطرف الذي يدفع ثمن هذا التركيب الإيديولوجي- السياسي هو “مدنيون ديمقراطيون”، إن جاز التعبير، مشاركون في مقاومة الطغيان، ومخاصمون للتيار المدني الداعي إلى الاستبداد المستنير، وللإسلاميين ومبادئهم الدينية السياسية التي لا تفيض عن نظام “الاستبداد العادل”: نظام “يطبق الشريعة” و”ينزل الناس منازلهم” و”يعطي كل ذي حق حقه”. ويخسر أيضا إسلاميون ديمقراطيون، مثقفون أفراد ومجموعات صغيرة، لا تشكل تيارا منظما، حالها في ذلك حال “المدنيين الديمقراطيين”.

3

لكن فلنعد إلى جذور المسألة.

لماذا شغل إسلاميون هذا الموقع الكبير في المجتمعات العربية الأكثر تحديثا؟ وكيف حصل أنهم أخفقوا في أية تمردات قادوها بأنفسهم (في سورية بين أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، وفي مصر أواسط السبعينات، ثم على نحو متقطع في الثمانينات والتسعينات…)، بينما تقودهم ثورات لم يفجروها والتحقوا بها متأخرين ومترددين إلى مواقع الصدارة السياسية؟ غير ما سبق ذكره من المغايرة السياسية والأخلاقية الجذرية للنظم المنحطة القائمة، وطاقة احتجاج كبيرة، من أهم سوابقها التمردات الفاشلة المشار إليها، شكّل “الإسلام” استراتيجية كبرى لا مثيل لها لامتلاك السياسة في مجتمعاتنا من قبل جمهور مستبعد ومفقر سياسيا وماديا. المقصود بامتلاك السياسة امتلاك التنظيم والرأي والقضية الواضحة، حيازة مبدأ عدالة أو تمرد ضد “الظلم”، وطاقة لتشكيل مجتمع مختلف عما هو قائم. قد نختلف قليلا أو كثيرا في الحكم على “التيار المدني” المتعدد الألوان، لكن هل هناك من يعتقد جديا بأنه يحوز مبدأ مغايرا لتنظيم المجتمع والدولة عما نعرف منذ عقود؟ أو أنه حائز على قدرات خاصة في مجال التنظيم والتعبئة المجتمعية الواسعة؟ أو أن قضايا الحرية والعدالة للجميع تشغل بال أعلامه وعموم المنتسبين إليه؟ وإذا كانت هذه النظم بلغت المدى الذي نعلمه من الانحطاط، مما لا يكاد يتشكك فيه حتى دعاة “الاستبداد المستنير”، وإن فسروه غالبا بطريقة تضع عبء الانحطاط على المحكومين لا على الحاكمين، إذا بلغت مدى الانحطاط المعلوم، ألا يقتضي الأمر إعادة نظر جذرية في فلسفتها التحديثية الدولانية (المماهاة بين الدولة والحداثة أو العقل)، وفي أولوية الهدف (التماثل مع النموذج الحداثي) على الممارسة العملية لملايين البشر وحياتهم وصراعاتهم؟ وعلى حساب القضايا الاجتماعية وقضايا القيم؟

لقد توافقت هذه الفلسفة التي يواليها “التيار المدني” وتطبقها النخب المنحطة مع إنتاج “عالم أول داخلي” صغير، لا يكاد يتعدى عشر السكان، يتمايز عن عالم ثالث داخلي يعتبر متوحشا ومهددا للمتحضرين في العالم الأول الداخلي الوكيل، الذي يتماهى مع العالم الأول الأصيل. وينبغي إخضاعه بعنف استعماري نموذجي، مما بلغ فيه النظام الأسدي مرتبة لم يضاهها الاستعمار الفرنسي، ولا إسرائيل. وبين العالمين هناك عالم ثان ليس شريكا في العالم الأول، لكنه يخاف كثيرا من العالم الثالث، ويغلب أن يكون عونا للعالم الأول عليه. امتلاك السياسة عنصر مقاومة وتحرر في مواجهة نظم تعتمد في دوامها على تجريد محكوميها من السياسة، من التنظيم والرأي والمغايرة. وفي سورية حيث أضحى امتلاك الحرب شرطا لامتلاك السياسة، توفر تنويعات من “الإسلام”، تتراوح بين الإسلام الشعبي إلى الإسلام السلفي والسلفي الجهادي، الأرضية النفسية والفكرية الأنسب لامتلاك الحرب عبر مفهومي الجهاد والاستشهاد.

4

قد يوافق “مدنيون” على ما سبق كتحليل لواقع مضى أو هو في سبيله إلى المضي، لكن على الأرجح ليسوا على استعداد للموافقة على ما يتضمنه من سياسة: إن السياسة الصحيحة هي التي تتيح للعالم الثالث الداخلي، للمتوحشين والبدائيين الداخليين، امتلاك السياسة والرأي والتنظيم، والحرب إن لزم الأمر، وإلا فليس من حق أحد أ يمتلك شيئا. وقبل ذلك تنطلق من أن بدائيتهم علائقية، هي الوجه الأخر للعمليات السياسية الفكرية الاقتصادية التي قادت إلى نشوء العالم الأول الداخلي، الطوابق العليا الأكثر تنظيما وانضباطا من مجتمعاتنا، والأكثر تحكما في حياتها وفي حياة غيرها. وتاليا لا سبيل إلى تجاوز البدائية والتوحش دون تجاوز هذا العالم الأول أو الغرب الداخلي في الوقت نفسه. أعني الغرب كمسيطر عالمي لا كثقافة. ليست هذه معركة عقدية أو “ثقافية” (بالمعنى “المدني” للثقافة: “الذهنيات” و”صناديق الرؤوس”، يا للغرابة!). إنها صراع اجتماعي وسياسي من أجل الحرية والتحكم بالحياة. فالغرب الداخلي، خلافا للغرب الغربي، ليس منتجا للقيم، ولا يشكل نموذجا رياديا يقبل التعميم، ولا هو قوة ديمقراطية ولا “تنويرية”.  لكن هل من شأن الإسلاميين، الذين يحاولون احتكار تمثيل العالم الثالث الداخلي، أن يحملوا نموذجا للديمقراطية والحداثة؟ ألا يحتمل أننا، ونحن نواجه الغرب الداخلي، ننزلق إلى التفكير في الغرب كهوية غريبة نواجهها بهوية أصيلة، بدل أن نفكر فيها كسيطرة نواجهها بمقاومة تحررية؟ السؤال في مكانه تماما، وكانت اعتراضات على الهيمنة الغربية (إدوارد سعيد بخاصة) قادت بدروب متنوعة، إلى تبرير الأصالية، أو إلى تسهيل رد واقعنا إلى الإسلام والهوية الإسلامية، وليس إلى الصراع من أجل الحرية والكفاية والعدالة، الذي يسهم فيه مسلمون وغير مسلمين، مؤمنون وملحدون، إسلاميون وعلمانيون.

هذا طريق مسدود لا يفضي إلى التحرر، ويفترض أن لا نهدر وقتا على السير فيه اليوم. تحررنا لا يتمثل في استعادة طابع إسلامي ماهوي مزعوم لمجتمعاتنا، جرى استلابه من وراء ظهر مجتمعاتنا وفي غفلة عنها، بل في تحرر الأفراد والجماعات، وفي نهوض الشرائح الأشد حرمانا بالخصوص، وفي الحريات السياسية والاجتماعية، بما فيها حريات النساء والمخالفين وغير المؤمنين وأية أقليات محتملة. لا نُعرِّف مجتمعاتنا بـ”الإسلام”، على ما يفعل غربيون وإسلاميون و”مدنيون” ونخب منحطة، بل بصراع الناس من أجل امتلاك السياسة والحياة، والحرب، على نجو ما يفعل الناس في الغرب وغير الغرب، متوسلين ما في متناول اليد من متاع فكري وسياسي وأخلاقي. “الإسلام” استراتيجية محتملة في هذا الصراع، أهلته ظروف العقود الأخيرة لإشغال موقع متقدم في سياسة مجتمعاتنا ووعيها الذاتي، لكنه ليس موضوع الصراع، ولا هو الهوية الثابتة والنهائية للمنخرطين فيه.

5

هذا يعيد الموقف من الإسلاميين إلى الأرض الاجتماعية السياسية من قبة السماء التي تتنزل منها العقائد المطلقة، ومن قبب الرؤوس المكتفية بما فيها من نور؟ أليست القبتان قبة واحدة، على كل حال؟ ويعيد إلى النقاش تناقض الإسلاميين الذي سبقت الإشارة إليه: بين كون الإسلام الذي يستندون إليه خطة لامتلاك السياسة في مجتمعات مفقرة منها، وبين كونه عقيدة خاصة لمؤمنين؟ منهج مقاومة، ومنهجا محتملا للتحكم السياسي؟ في مصر وتونس نرى بوادر التحول من أحد الدورين إلى الآخر.

منطلقنا المبدئي في مواجهة احتمالات استبداد إسلامي جديد أن هذا لا يطرح تحديا خاصا مختلفا عن تحدي مواجهة الطغيان الذي خبرناه في العقود الماضية، خلافا لما يفضل أن يعتقد “التيار المدني”. الفرضية الأساسية لهذا التيار أن التقاء العقيدة الدينية بالاستبداد السياسي يجعل مستحيلا مقاومة وتجاوز هذا التركيب. لكن يبدو هذا افترضا تأمليا لا سند له من الواقع. لا يدوم النظام الإسلامي في إيران لأنه إسلامي، وليس بفضل عقيدة المطلق ومناورات الاستبداد وحدها، بل لأنه يلقى دعما شعبيا حقيقيا. وتدوم نظم الخليج، وهي غير منتخبة ولا تالية لثورات على كل حال، بفضل الريع النفطي والحماية الأميركية. ولا نرى سببا لافتراض أن يكون طغيان أي حاكمين إسلاميين أشد، لمجرد كونه إسلاميا، من طغيان النظام الأسدي أو نظام مبارك أو بن علي. بل إن عنصر المقاومة والمغايرة وامتلاك السياسة الديمقراطي في تكوين الإسلاميين المعاصرين يرجح أن التحول نحو الطغيان أعسر بالأحرى، لا أيسر. فيما نعلم من المثال السوري أن حكم هذه النخبة واجه أية اعتراضات اجتماعية منذ شهوره الأولى بالدبابات والإعدامات وقصف الجوامع، وهذا لأنه على الأرجح فاقد للعنصر الشعبي جوهريا، وبمثابة حكم استعماري غريب. هناك افتراض آخر يقول إن أكثرية سكان بلداننا، ولمجرد كونهم مسلمون، مضمونون للإسلاميين في كل حال. يشارك في هذا الافتراض الإسلاميون التسلطيون الذين يستخلصون وجوب خلوص الحكم لهم من الصفة الإسلامية الماهوية لمجتمعاتنا، ومدنيون يظنون أن شعبية الإسلاميين مستمدة من اعتبارات تتصل بالدين وبـ 15 قرنا…، لا بمقاومة نظم منحطة في أجيالنا الحاضرة، وكذلك هذه النظم المنحطة ذاتها التي ترى أن خصومة محكوميها لها نابعة من قبب رؤوسهم الفاسدة، وليس من انحطاطها هي. ليس هذا الافتراض صحيحا بحال. وضع الإسلاميين الراهن تاريخي، ولد في تاريخ، وثبت في تاريخ ثابت لم يتغير، وهو متغير حتما في تاريخ متغير. ولقد مرت أزمنة لم يكن الإسلاميون فيه التيار المتصدر في مجتمعاتنا “المسلمة”. والدلالة البسيطة لذلك أن اشتقاق موقع الإسلاميين السياسي الراهن من الصفة الإسلامية المفترضة لمجتمعاتنا أمر بالغ الزيغ والضلال أيا يكن قائله.

ونميل إلى أن الإسلاميين في الحكم سيواجهون مشكلات مع الجمهور الذي والاهم وانتخبهم، وليس أساسا من “التيار المدني”. ولا يبعد في هذه الحالة أن يتوسلوا الدين لنزع السياسة الثمينة من الجمهور، والاستئثار بالتنظيم والرأي، والسلطة، لأنفسهم.

ولا ينبغي أن يكون أمرا مستغربا تغير دور الدين بتغير موقعه: مقاوم في مواجهة الطغيان، لكنه نزاع إلى التسلط والطغيان حين يكون في الحكم. والسياسة الصحيحة للمدنيين الديمقراطيين فيما نفترض هي الانخراط في صراع الشعب ضد الطغيان الجديد، وليس الموقف الانعزالي المعادي للشعب والإسلاميين.

6

ماذا بخصوص موقف “المثقفين”؟ نتجاوز أنه ليس هناك حزب أو تيار أو طبقة اسمه “المثقفون”.  الأسوأ في تقديري هو موالاة “الفلول” تحت لواء الخوف من الإسلاميين، كما يبدو أن “مدنيين” في مصر يفعلون، أو العمل على تغليب استقطاب مصطنع، مدني/ إسلامي، في سورية على الاستقطاب بين نظام منحط وإجرامي وثورة شعبية. ليس المثقفون سياسيين، لكن لا شيء يغفر للمثقفين افتقارهم للحس السياسي، في زمن الثورات بخاصة.

والواقع أننا نرجح أن هناك خللا جوهريا في المثال التنويري الذي يصدر عنه التيار المدني وكثير من المثقفين. هذا المثال لا يقود إلا إلى مواقع قريبة من “الغرب الداخلي” (وهذا “طبقة”، وليس نموذجا) أو الخارجي. ولا يقود بحال إلى تعميم فعلي للنموذج الغربي في بلداننا. وفيما يتجاوز الشراكة في الصراع ضد الطغيان الحالي، لا شيء يسوغ الانضمام الثقافي إلى الإسلاميين بذريعة أنهم الممثلون الطبيعيون للشعب. ليس هناك أي مبرر وجيه لهذا الافتراض الأخير، إلا إذا افترضنا، مرة أخرى، أن الناس ينحازون إلى الإسلاميين لأسباب غير عقلانية، تتصل بـ”طبيعة” مجتمعاتنا، لا باعتبارات سياسية واجتماعية تاريخية. وهذا باطل سواء قاله الإسلاميون أو “المدنيون” أو الغربيون، أو النظم المنحطة. الثقافة مهمة لأنها تشرح، أو يفترض أن تشرح، الأوضاع الصراعية في كل حين، وتكشف ما هي الرهانات الفعلية وراءها. وكذلك لأنها تقترح أشياء إيجابية، غايات وضوابط، تشكل جزءا من الصراع الحالي وتسهم في دفعه نحو الحصائل المرجوة. وأيضا لأن للثقافة بعد أخلاقي محرر وبانٍ للضمير، هو الذي أهدر خلال الجيل الأخير على يد المدنيين التنويريين (علامتهم الفارقة: الكلام الكثير على العقل والمعرفة…).

والمثقفون مهمون لأنهم يقومون بهذه الأشياء، ولأن الوضوح في شأن ما يجري يصنع فرقا. يقتضي الأمر ألا ينخرط المثقفون في عملية تزوير منهجية للواقع على ما يفعلون كثيرا.

وبينما لا ريب في الحاجة إلى عمل ثقافي أكثر انشغالا بحرية الأفراد بما فيها الحريات الاجتماعية، ومنها حرية الاعتقاد الديني (بما فيها اللااعتقاد وتغيير الدين واللاأدرية)، فإن هذا يمر عبر الصراع على الشعب مع الإسلاميين. وما يحصن أية قيم مكتسبة هو تحولها إلى ثقافة للشعب، وما يضعفها هو اقتصارها على كونها ثقافة نخبة. فشل التيار المدني لدينا فشلا مستمرا ومتكررا لأنه لم ينتج ثقافة، وتراجع عن فهم الثقافة كعملية تفاعل واكتساب، وتراجعت العناصر الديمقراطية والإنسانية في تفكير أعلامه وعمومه في ربع القرن الأخير، وتحول إلى التشاؤم والتبشير بالتشاؤم (انقراض، أصولية، ظلامية…). ليست أوضاعا ديمقراطية ناجزة هي ما يمكن أن تؤدي إليه ثوراتنا الديمقراطية الجارية التي لا تواجه نظما منحطة فقط، ولا تطلعات الإسلاميين المحتملة إلى الهيمنة فقط، وإنما أيضا أوضاعا إقليمية ودولية ليست مواتية لتطور ديمقراطي معافى. لكن الثورات أطلقت ديناميات تحررية، لا نتصور لها توقفا في وقت قريب. ومن الظاهر حتى الآن أن حجم القوى الاجتماعية الناشطة سياسيا في البلدان التي شهدت ثورات لا يقارن أبدا بحجمها قبل الثورات، وأن جزء كبيرا من الصراعات الجارية في هذه البلدان متولد عن فيضان هذه القوى الاجتماعية الحية على الأطر السياسية والفكرية المتاحة. ظاهر أيضا أن فرص الاعتراض وامتلاك السياسة أكبر اليوم من أي وقت سبق خلال نصف قرن على الأقل. هذا يكفي للكلام على ثورات ديمقراطية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى