صفحات مميزةعمر قدور

الثورة إذ تأكل أبناءها باكراً: عمر قدور

 

دمشق ـ عمر قدور

(إلى روح الشهيد العقيد يوسف الجادر “أبو فرات”)

أثار اقتراح رئيس الائتلاف السوري معاذ الخطيب التفاوض مع ممثلين عن النظام، لم تتلوث أياديهم بالدماء، لغطاً واسعاً في صفوف الناشطين السوريين. فالشروط التي وضعها الرجل مسبقاً من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات عُدّت أقل من المطلوب من قبل البعض، بينما تحمس البعض لطرح الرجل، في الوقت الذي رفض فيه آخرون التفاوض مع النظام نهائياً وتحت أي شرط سوى رحيله. كل هذه التباينات من حيث المبدأ كان ينبغي أن تعبّر عن تعدد وغنى الثورة، لو لم يذهب البعض إلى ما يقترب من تخوين الرجل، أو الحطّ تماماً من نضجه وخبرته السياسيين، والأنكى من ذلك أن بعض السهام السريعة أتت من قادة في الائتلاف نفسه على شاشات التلفزيون، مستبقين اجتماعاً للائتلاف في اليوم التالي، فمنهم من طالب الخطيب بالاستقالة، ومنهم من عدّ اقتراح الخطيب مجرد رأي شخصي لا يُعبر أبداً عن الائتلاف الذي يرأسه.

لا بد من التذكير هنا بالسمعة الطيبة والشعبية الواسعة اللتين اكتسبهما معاذ الخطيب بمجرد انتخابه رئيساً، وهذا يذكّر أيضاً بالسمعة الطيبة والشعبية اللتين اكتسبهما من قبله برهان غليون قبيل ومع توليه رئاسة المجلس الوطني المعارض. في الحالتين سرعان ما تم تحميل الشخصين مسؤولية فشل المستوى السياسي للمعارضة، ونالا من التهجم والتجريح ما يبدو مستغرباً إزاء السمعة الطيبة المكتسبة قبل حين. لقد خفت نجم غليون إلى مستوى غير مسبوق، وكان يمكن للخطيب أن يلقى المصير نفسه لو تغلب صقور الائتلاف المطالبين باستقالته، ولا يقتصر ذلك على الرجلين فقط، فقد سبق لشخصيات أخرى أن احترقت سريعاً على مذبح المعارضة، بعضها بسبب أدائه المتواضع، وبعضها الآخر بسبب التنافس الشخصي ضمن تنظيماتهم السياسية، والذي تغلب أحياناً على التنافس من أجل تقديم الأفضل على الصعيد الوطني.

بوسعنا هنا أن نستعير مقولة دانتون عن الثورة التي تأكل أبناءها، وإن كان أصلها يتعلق بالصراع على مغانم السلطة بعد الفوز بها. إذ لا يخفى أن الصراع ضمن المعارضة السورية قد أودى بجزء كبير من طاقاتها، في الوقت الذي كان مطلوباً فيه بشدة أن تتوحد الطاقات من أجل إسقاط النظام، وكان أول الشروخ العميقة هو ما تسببت به تلك التي باتت تدعى بمعارضة الداخل، فاستسهل أصحابها توجيه الاتهامات إلى معارضة الخارج، سواء بالعمالة السياسية أو بالارتزاق بمعناه المبتذل، بل تعدى الاتهام تلك المعارضة لينال من أنصارها على الأرض بتهمة التظاهر لقاء مبالغ مالية محددة. لقد أدى تفاقم هذا الوضع إلى اعتبار مطلب توحيد المعارضة على أهداف واضحة وثابتة مطلباً تعجيزياً، وهو أمر عجزت عنه حقاً قوى دولية وإقليمية!

حتى إذا استثنينا تلك المعارضة التي تراوغ في مسألة إسقاط النظام، فذلك لا يعني اتفاقاً في صفوف الذين ينادون بإسقاطه. في الواقع، لم يحدث في أكثر الثورات انسجاماً عبر التاريخ أن كان الثوار متفقين فعلاً على مآل ثورتهم، إذ من السائد دائماً أن توحّد النقمة على النظام القائم بين المختلفين، فيكون هدف إسقاطه هو نقطة الالتقاء الأبرز، إن لم يكن هو التوافق الوحيد فيما بين مجموعاتهم العديدة. ولعل الثورة السورية لا تبتعد كثيراً عن هذا التوصيف، ومن المرجح أن اتساع رقعتها كان على حساب الانسجام الذي أظهرته تظاهراتها وشعاراتها الأولى، من دون أن نغفل دور القمع الوحشي في زرع التطرف، بخاصة الديني منه لدى بعض الأوساط، فضلاً عن تلكؤ أو تخلي المنظومة الدولية عن مهامها في حماية الشعب السوري؛ الأمر الذي قد يعزز نوعاً من العدمية السياسية على حساب الرؤى المنفتحة على الآخر في الداخل والخارج.

لكن الفهم السابق ينبغي ألا يكون مسوغاً لتبرير حالات القصور السياسي لدى المعارضة، وإن أخذنا أيضاً بالحسبان كونها معارضة مبتدئة لشعب مُنع من السياسة لنصف قرن. فالمتغيرات السياسية الإقليمية والدولية تقتضي حداً أدنى من المواكبة، وحداً أدنى من الاتفاق عند كل منعطف لها. يُضاف إلى ذلك أن النظام راح يستفيق من أثر الصدمة ويكتسب، بمساعدة حثيثة من حلفائه، مهارات في التعامل الميداني والإعلامي مع الثورة. ومن المؤكد أن تشتت قوى المعارضة قد سمح ببروز جهات كانت هامشية إلى وقت قريب، لكنها استغلت الفرصة بسبب قوة تنظيمها وانضباطها، فتنظيم مثل “جبهة النصرة” لم يكن قبل أشهر يحظى بهذا الانتشار الميداني، ولم يكن يحظى أيضاً بهذه التغطية الإعلامية الدولية التي باتت عبئاً على صورة الثورة ككل.

خلال ما يقارب السنتين تراكمت سلبيات المعارضة لترهق الثورة بدلاً من ترجمة شعاراتها إلى أفق سياسي، ولعل هذا أدعى لأن تواجه المعارضة ذاتها وتستدرك أخطاءها بدلاً من صراعاتها الداخلية، لأن فشلها الذي انعكس على الثورة بات يهدد الأخيرة بأثمان باهظة قد يطول دفعها من دماء السوريين وعيشهم. إن اقتراحاً مثل اقتراح معاذ الخطيب، وإن توقفت اشتراطاته الأولى عند إطلاق سراح 160 ألف معتقل، يمكن النظر إليه كخطوة أولى، وليكن كخطوة متعثرة، في سبيل التفكير السياسي الجاد، بخاصة أن الاقتراح لا يصدر عن مشروع سياسي مهادن، أو عن تفريط بالحقوق الكاملة للسوريين أسوة بدعوات الحوار التي أطلقتها جهات أخرى.

هي السياسة المفقودة التي كان يمكن لها أن تدفع بالمختلفين مع اقتراح الخطيب، من ضمن الائتلاف، إلى التريث وعدم الحط من قيمته مسبقاً وعلناً، بل اعتباره كاقتراح قابل للبناء عليه. إذ لا فائدة ترجى من قادة يكررون شعارات التظاهرات، بينما تتطلب القيادة الفعلية ترجمة هذه الشعارات إلى جهد سياسي ودبلوماسي، ولا فائدة من تحصيل الإعانات للشعب السوري المنكوب إن لم يقترن هذا بالحصول على الحد الأدنى من الدعم السياسي، وقد لا يكون من فائدة لهذا كله إن لم يترافق مع انتشال الحالة السياسية للثورة من الفوضى وادعاءات التمثيل الشعبي، لأن ما يمثل الثورة بغالبيتها هي قيم المواطنة والوطن لا تلك التنظيمات العابرة للحدود، ولا تلك المعارضة التي بقيت متطلباتها ما دون الثورة.

في تسجيل له بعد تحرير مدرسة المشاة في حلب، وقبيل موته، يعبّر العقيد “أبو فرات” بدموعه وبصوته عن قسوة النصر على الأشقاء/الأعداء في الوطن، ومن الأولى أن يصدق هذا التعبير بين الأخوة/الأعداء في المعارضة. فأي انتصار في صراعاتها الداخلية، بخاصة تلك الصراعات الشخصية الصرفة، ليست سوى هزيمة على المستوى الكلي، وإذا كانت الثورات تأكل أبناءها بعد الانتصار، فعلى المعنيين أن يؤجلوا صراعاتهم إلى أن يتم إسقاط النظام. إلى أن يحين ذلك يبدو أن قدر الثوار على الأرض هو بذل ما في وسعهم ليكتسبوا شارعاً هنا وموقعاً هناك، وفي الوقت نفسه حماية الثورة لئلا تتحقق مقولة دانتون الأخرى: “في الثورات يظل قابضاً على السلطة من هو أكثر نذالة”.

المستقبل

b

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى