صفحات العالم

الثورة السورية أعمق تأثيراً على لبنان من نكبة فلسطين

 

    جهاد الزين

أية حدودٍ سيصلها الزلزالُ السوريُّ في تأثيره على لبنان وهو لا يزال في “بدايته”؟ وأية انعكاساتٍ بنيويّةٍ عليه؟

كل اللبنانيين يعرفون سوريا بصورة أو بأخرى. هنا التعميم لا يحمل أي مبالغة. لكن اندلاع الثورة السورية عام 2011 أخذ يعرّفهم على المزيد من هذه السوريا بمن فيهم أمثالي الكُثر الذين كانوا يعتقدون أنهم يعرفونها جيدا. نتلمّس هذا التنوع الآن كمن ينتبه إلى خسارة جمّة. وأرجو أن لا تكون كمن يتحسّس “جثة” بلد.

كان النظام العسكري الذي حكم سوريا منذ 1958 يحبس تنوّعَ سوريا. الأدق القول يحبس إمكانيات هذا التنوع عن التعبير السلمي السياسي عن نفسه. جزء مهمٌ من حدة انفجار البركان عام 2011 هو طول مدة الكبت والاحتقان. هذا النظام العسكري ولاسيما منذ العام 1966 حافظ على السلم الأهلي بل السلم الاجتماعي لا بل من مفارقات الاستبداد أنه حافظ على نوع من الازدهار الاجتماعي. إنما مقابل كبتٍ غير طبيعي لشخصية سوريا العميقة.

أيا تكن العوامل الخارجية للوضع السوري فإن المدى العنيف لانفجاره، العمودي والأفقي، هو حصيلة أكيدة لشراسة الكبت السابق الذي دخلت عليه “لعبة الأمم” الخبيثة دافعةً حِمَمَهُ بلا رحمة إلى أقصى ما في هذا المدى من مدى.

نحن – أي لبنان – في القلب. ما يميِّز وضعنا أننا لسنا جغرافياً و سياسيا وديموغرافيا مثل تركيا والأردن والعراق على أطراف سوريا. نحن في قلبها. الأردن كان ولا يزال في قلب نكبة 1948 لكنه رغم أعبائه السورية الكبيرة طرفيٌّ فيها. مثلما كان لبنان، رغم أعبائه الكبيرة المستمرة، طرفيّاً في الشأن الفلسطيني.

لا نزال في بداية التأزم السوري  الذي ينبغي لأي عاقل أن يتوقّع امتداده لسنوات طويلة قبل التسوية وبعدها.

دولة ومجتمع من 23 مليون نسمة هما الآن في تأجّجٍ وتماوجٍ وفيضان عنفي بشري هائل يقذف يوميا على محيطه الشمالي والجنوبي والشرقي وعلى الجزيرة الموجودة غربا في قلب بحره، الجزيرة التي هي لبنان، يقذف يومياً موجاتٍ عارمةً من البشر وفلول الطبقات الاجتماعية. إنهم معدمون وفقراء وميسورون وأغنياء ومعهم فاقَتُهُمْ البائسة وخيراتُهم الوفيرة واقتصادهم الشرعي واقتصادهم غيرالشرعي وأفكارهم وخيباتهم ومآسيهم ومشاريعهم وطموحاتهم الجديدة… العاصمة بيروت  تستأثر حاليا بجزء مهم من ديناميكية البورجوازية السورية القادمة في حال طوارئ إما مؤقتاً في طريقها إلى بلاد جديدة أو ما سيبقى منها بشكلٍ دائم. كما أخذت بيروت تستقطب بشكل صامت مع ارتفاع تدريجي في صوت هذا الاستقطاب كفاءاتٍ ثقافية وعلمية وفنية بدأت بعضُ الجامعات والمؤسسات باستخدامها وتوظيفها. أما الفقراء فيتوزّعون عشوائيا في جميع المدن والمناطق: المسيحيون في جبل لبنان أساسا وبشكل أقل ضجيجا تستوعبهم الطاقة التنظيمية الضخمة للمؤسسات الدينية المسيحية والمدنية، وفي الشمال والبقاع والجنوب المسلم تُحتضن أعدادٌ من النازحين لا يمكن إحصاؤها بدقة في الظرف الحالي وتستوعبها المؤسسات السياسية والدينية والمدنية، المختلفة، بفوضى هنا، بانهماك ضاغط هناك وهنالك… مع مشاركة لبعض المؤسسات الدولية والعربية.

23 مليوناً في حالة حراك مأسوي فَرَضَتْها المواجهةُ الجارية في سبع مدنٍ سورية ومحيطها الواسع دفعة واحدة. بُعْدٌ عنفيٌّ غير مسبوق حتى في حربنا الأهلية (اللبنانية) العالية القذارة وهو عنف مختلف أيضاً حتى قياسا بعنف الاحتلال الإسرائيلي الاستئصالي في الضفة الغربية.

لا سابق في العصور الحديثة وربما في كل الحقبة العثمانية لما تشهده هذه المناطق الشاسعة من بلاد الشام. لا سابق لهذا “التحاطم” الذي تنبعث من فضائه مناخات الكارثة الدهرية. فحسب ذاكرةِ وعيِنا التاريخي الرسمي ربما تكون بلاد الشام قد شهدت مثل هذه الشمولية في العنف آخر مرة خلال الغزو المملوكي قبل سبعماية عام؟

23 مليوناً: حجم حراكي تراقبه الطائفيّات اللبنانية المهجوسة بالعدد وتعرف أنها لم تتعامل مع حجمه سابقا حتى في عام 1948.

في النتائج السياسية على لبنان -وهي نتائج بادئة- انخراط الحزب السني الحريري انخراطا عميقا في دعم الثورة بما فيه الدعم التسليحي، وشراكة “حزب الله” الشيعي شراكة لا تردّد فيها (ولا خيار فيها) في الصراع من موقع التحالف الاستراتيجي الإيراني إلى جانب النظام، أكثر أشكالها هامشية وأقلها فاعلية هي المشاركة القتالية المباشرة على بعض الأطراف قياسا بأشكال الارتباط الفعالة تحت “الطاولة”. انقلاب حقيقي في استراتيجية الكنيسة المارونية بتوجيه فاتيكاني لا مثيل له منذ تأسيس الكيان اللبناني… إعادة تكيّف دقيقة ومتفاوتة حتى اللحظة بين المكوّنات الدرزية الرئيسية الثلاث في المنطقة: جبل لبنان وجبل السويداء (ومعه الجولان) و دروز الجليل الأعلى…

باختصار: ثمة “قواعد ألعاب” طائفية في لبنان آخذة بالتغيّر وتتأملها “الطوائف” اللبنانية كجماعات سياسية….

 نحن في البركان وهذه سوريا. هل تسمع جيدا ؟ هذه سوريا … ويا لَهول ما يتغيّر عندنا…

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى