صفحات العالم

الثورة السورية.. الجيش السوري.. ونموذج الثورة العربية..

 


د. بشير موسى نافع

بانسداد أفق الإصلاح ولجوء نظام الحكم السوري إلى سياسة القمع الدموي، تصاعدت وتيرة الحركة الجماهيرية في صورة غير مسبوقة خلال الأسبوعيين الماضيين.

عشرات الآلاف من السوريين يخرجون الآن ببسالة منقطعة النظير إلى الشوارع والساحات في مختلف المدن السورية كل ظهر يوم جمعة، من البوكمال ودير الزور إلى اللاذقية، ومن معرة النعمان إلى درعا. ودرعا، على وجه الخصوص، تستحق ملاحظة خاصة؛ ففي يوم الجمعة الماضية، لم يعد ثمة مجال للشك حول إرادة من تلك التي انتصرت في المدينة السورية الجنوبية التي كانت أول مدن سورية المنتفضة التي تتعرض لاجتياح عسكري ـ أمني بربري.

وسرعان ما نهضت درعا من جراحها من جديد لتقول للمجموعة الفاشية الحاكمة أن سياسة القهر الأمني ـ العسكري لن تعمل إلا على تأجيج روح الرفض والتصميم على مطالب التغيير. ولكن في سورية، كما كان الأمر في ليبيا واليمن، تطرح الثورة السورية من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات. فبعد الانتصار الشعبي السريع في تونس ومصر، وانحياز الجيش في البلدين للشعب، ورفضه التصدي للتظاهرات المعارضة لنظامي الحكم السابقين، ولد شعور ما بأن ثمة نموذجاً للثورة العربية، وللعلاقة بين المؤسسة العسكرية والشعب، لابد أن يتكرر على نحو ما لنجاح الثورة. هذه بالطبع فرضية خاطئة من أساسها.

في نهاية ندوة جامعية قبل أكثر من عشرين عاماً، تحدث فيها الفيلسوف السياسي البريطاني المحافظ جورج ستراتون حول ثورات أوروبا الشرقية والانتقال للديمقراطية، علق أستاذنا بيتر وودورد قائلاً أن الثورة is an extraordinarily messy affair. ما كان يقصده وودوارد أن الثورات هي شأن لا يمكن التحكم في مساره، أو تنظيمه طبقاً لخطة مسبقة، أو توقع النتائج التي يمكن أن يصل إليها. والحقيقة أن الثورات في صورتها الشعبية المدينية، التي بدأ العالم يعرفها منذ الثورة الفرنسية، لا تنجح دائماً؛ وأن النجاح يتطلب توفر العديد من العوامل والقوى، ليس على المستوى الداخلي وحسب، بل وحتى إقليمياً ودولياً. في موجة الثورات الشعبية الواسعة التي شهدتها أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، لم تحقق ثورة واحدة انتصاراً حاسماً؛ إذ سحقت الثورة في باريس، وانتهى قادة الثورة البولندية إلى اللجوء للدولة العثمانية، بينما نجحت الملكيات الإيطالية والألمانية في احتواء الثورة الشعبية بعد تنازلات تشريعية محدودة. المؤكد، على أية حال، أن ليست هناك ثورة شعبية واحدة في العصر الحديث انتهت بدون أثر؛ بعضها كان أثره مباشراً وسريعاً في إحداث تغيير سياسي عميق أو أقل عمقاً، وبعضها الآخر ترك أثراً على المدى البعيد. ما تشهده حركة الثورة العربية هو معجزة بكل المقاييس؛ إذ مهما كانت الصعوبات التي تواجهها تونس ومصر، فمن المتيقن أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء أبداً، ومهما كان تورط بعض القيادات الليبية المعارضة مع القوى الغربية، فإن ليبيا تتجه سريعاً نحو انتصار إرادة الشعب وتوكيد استقلال البلاد ووحدتها، ومهما كثرت التدخلات الإقليمية والدولية في اليمن فإن الحكمة والتصميم الأسطوريين للشعب اليمني يوصلان الثورة اليمنية الآن إلى حافة الانتصار. الثورة في سورية بالتأكيد هي أكثر تعقيداً، وستكون ربما باهظة التكاليف.

السؤال الأكثر إلحاحاً في سورية اليوم، بعد زهاء سبعة أسابيع من الانتشار العسكري ثقيل الوطأة ضد المدن والجماهير السورية، هو سؤال الجيش. هل سيستمر الجيش السوري في إطاعة أوامر قادة النظام في قمع الشعب ومحاصرته؟ هل ثمة أمل في أن يسلك الجيش السوري مسلك الجيشين التونسي والمصري؟ وهل يمكن أن تنتصر الثورة السورية بدون أن يقف الجيش إلى جانب الثورة والشعب؟

الجيش هو أداة سيطرة الدولة الحديثة الأمضى حداً، هو جدار الدولة الأخير، وضمانة وجودها واستمرارها. والجيش هو كذلك بالنسبة لكل الدول الحديثة، العقلانية والأقل عقلانية، والديمقراطية والفاشية، على السواء. ولكن الارتباط العضوي بين الدولة وجيشها يصبح أكثر عضوية في حالة الدولة المستبدة. لم تتردد كل من الدولة البريطانية في مواجهة الاضطرابات القومية في مقاطعة إيرلندا الشمالية في منتصف الستينات، والدولة الفرنسية في مواجهة الاحتجاجات الطلابية والعمالية في 1968، في اللجوء إلى الجيش. ولكن ارتكاز أنظمة حكم مثل نظام الشاه في إيران وصدام حسين في العراق ومبارك في مصر وبن علي في تونس والأسد في سورية إلى ولاء الجيش واستعداده للدفاع عن الحدود والنظام معاً هو مسألة حياة أو موت، مسألة تتعلق بمبرر الوجود ذاته. ولم يكن غريباً بالتالي أن تلجأ هذه الأنظمة، وأخرى مثيلة لها، إلى الجيش ما إن عجزت أجهزتها الأمنية عن احتواء الحراك الثوري الجماهيري؛ وعادة ما يأتي هذا القرار سريعاً بعد اندلاع الحراك الجماهيري، الذي ينجح في أغلب الأحيان في إيقاع هزيمة سريعة بهذه الأجهزة. الجيش هو شأن آخر مختلف، ليس فقط لأن أدوات العنف التي يمتلكها لا يمكن أن تعادلها أية أدوات عنف تحتفظ بها القطاعات الشعبية، بل أيضاً لروح الفريق والبرمجة على الطاعة وتحقيق الأهداف والتدريب الفائق على توظيف العنف. الجيوش في الحقيقة هي أقرب المؤسسات الاجتماعية الحديثة إلى الآلة.

ولأن الجيوش هي كائنات يصعب توقعها عادة، ولأن ليس هناك جيش مثل الآخر من جهة تكوينه الديمغرافي وارتباطه بمؤسسة الحكم وثقافته ووعيه بدوره، ولأن الواقع الموضوعي الذي يحيط بجيش ما يختلف بدرجة كبيرة أو صغيرة عن أي جيش آخر، فلا يكاد يوجد نموذج واحد للشروط التي يمكن أن تحدد استجابة الجيش للحركات الشعبية المعارضة. ويكاد اختيار الجيشين التونسي والمصري الانحياز للشعب أن يكون الاستثناء في هذه الاستجابة لا القاعدة. في إيرلندا الشمالية، ونظراً لاستقرار مؤسسة الدولة والانقسام الديني والقومي الذي أسس لحركة الإيرلنديين الكاثوليك، لعب الجيش البريطاني دوراً رئيسياً في احتواء الحركة القومية الإيرلندية، بل وفي إيقاع الهزيمة بوحداتها المسلحة، وتمهيد الأوضاع للحل التفاوضي في النهاية. وقد لعب الجيش الفرنسي وقوات الحرس الوطني الأمريكي دوراً رئيسياً في مواجهة احتجاجات نهاية الستينات الشعبية، بدون أن يتعرض الجيشان لتشققات ملموسة. في ليبيا، كما نعلم، انحازت أغلب قوات الجيش التقليدي للثورة الشعبية، بينما ظلت كتائب القوات الخاصة على الولاء للنظام، وما تزال. أما في اليمن فقد تطلب الأمر حراكاً شعبياً هائلاً ومستمراً لعدة أسابيع قبل أن تنحاز فرقة واحدة من فرق الجيش لجماهير الثورة؛ ولكن التشققات في صفوف الجيش والحرس الجمهوري تواصلت في صورة مطردة وتدريجية بعد ذلك.

في سورية، لجأ النظام في البداية إلى الفرقة الرابعة وقوات الحرس الجمهوري، التي لا يكاد يوجد شك في ولائها. ولكن النظام أخطأ خطأ بالغاً عندما ظن أن إيقاع عقوبة ثقيلة الوطأة بمدينة درعا وشعبها سيلقن السوريين درساً كافياً لاحتواء الحراك الشعبي. وباتساع نطاق الحراك الشعبي وتصاعد وتيرة الثورة اضطر النظام لإدخال المزيد من قوات الجيش العربي السوري إلى ساحة المواجهة. ونظراً لتركيبة الجيش السوري والقبضة الأمنية الصارمة التي يفرضها النظام على فروع الجيش ووحداته، فقد كان من الصعب، وربما من المستحيل، أن يسلك الجيش في سورية سلوك الجيشين التونسي والمصري في الاستجابة للثورة الشعبية. ولكن التقدير القائل بأن الجيش العربي السوري سيستمر على الولاء للنظام وتعهد مسؤولية قمع الشعب وحركته، هو تقدير خاطىء. الأرجح أن الجيش السوري سيأخذ في التشقق التدريجي خلال الأسابيع والشهور القادمة، وأن التقارير المتزايدة حول انشقاق بعض الضباط والجنود أو رفضهم إطاعة الأوامر هي مجرد بداية. ليس ثمة جيش، مهما بلغت تقاليد انضباطه وطاعته، يستطيع الحفاظ على تماسكه طويلاً في مواجهة حراك شعبي جماهيري واسع، حراك مسالم، يحمل مطالب واضحة وعادلة. وربما يجدر التذكير أن علاقة الجيش الإيراني بالشاه كانت أقرب إلى العلاقة بالآلهة، وأن الثورة الإيرانية استمرت زهاء العشر شهور قبل أن يبدأ الجيش في الانشقاق. ولكنه انشق في النهاية، على أية حال، وانحازت قطاعات ملموسة منه للشعب.

كل واحدة من الثورات العربية ستتجلى في صورة خاصة بها، من الزحف من الريف إلى العاصمة في تونس، ميدان التحرير في قلب العاصمة القاهرة في مصر، ميادين التغيير في اليمن، مقاومة المدن وجبهات القتال في ليبيا، وأيام جمعة الحشد والتظاهرات الجماهيرية في سورية. طبيعة المجتمعين التونسي والمصري، المفاجأة التي داهمت بها الثورتان نظامي الحكم، وانحياز المؤسسة العسكرية في البلدين للشعب، حققت الانتصار بأقل خسائر ممكنة وفي زمن قصير نسبياً. ولكن النظامين اليمني والليبي، اللذين لا يمكن مقارنة قوتهما وسلطتيهما وتقاليد استقراريهما بالنظام المصري، لم يلفظا أنفاسهما الأخيرة بعد، بالرغم من مرور أربعة شهور على اندلاع الثورة الجماهيرية. ولا أحد، مهما بلغ من خبرة ودراية بسورية وشؤونها، يمكنه توقع المسار الذي ستأخذه الثورة السورية، أو الزمن الذي يتطلبه انتصار الشعب، أو حجم التضحيات التي سيكون من الضروري تقديمها من أجل تحقيق النصر. ما يوحد الثورات العربية، ما يصنع نموذجها الفريد، هو هذا الخروج الجماهيري المهيب والباسل، الخروج الأعزل في مواجهة عنف الدولة ووحشية أنظمتها الحاكمة، والتصميم القاطع على الانتصار وتحقيق أهداف التغيير مهما بلغت التحضيات. هذه الملايين التي تعيد بناء الحياة العربية وتوحيد الأوطان وتستعيد الكرامة والموقع على المسرح العالمي، في صفاقس وتونس، في بنغازي ومصراتة، في القاهرة والسويس، في صنعاء وتعز، وفي درعا وحمص وحماة واللاذقية وإدلب ودير الزور ومعرة النعمان، هي النموذج.

كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى