أكرم البنيصفحات مميزة

الثورة السورية المستمرة!


أكرم البني

ثمة سؤال يطرحه الكثيرون في هذه الآونة حول نقاط القوة التي تقف وراء استمرار الثورة السورية، في ظل ما تشهده من قمع عنيف ومعمم يتجاوز كل تصور وفي ظل فداحة ما تقدمه من ضحايا وجرحى ومعتقلين ولاجئين، وأيضا في ظل مشهد يبدو فيه الحراك الشعبي وكأنه يترك ليواجه مصيره وحيدا، أو ما يصح تسميته بغياب موقف عربي ودولي داعم، فالأول لا يزال متأخرا وفي أحسن الأحوال لم يرق إلى مصاف شدة ما يكابده الناس، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية يعيقان خطوة التقدم لإعلان موقف أممي يدين ويوقف هذا التوغل غير المسبوق في القهر والتنكيل!

لا نضيف جديدا حين نقول بوجود إيمان راسخ وعميق لدى الشعب السوري بضرورة التغيير، نابع من شدة معاناته خلال عقود من القهر والتمييز والتهميش، وصل الأمر في بحر السنوات القليلة المنصرمة إلى حدود غير مقبولة، أوضح ما يمكن أن يقال فيها، إنها أباحت لأهل الحكم كل شيء وأطاحت من دون أي مسؤولية بأبسط حقوق الناس ومصالحها، وأوصلت الأمور إلى حد يتجاوز كل طاقة على الاحتمال، ليغدو العيش محالا وترجح كفة تفضيل الموت على الخضوع للوضع القائم.

لكن الإيمان وحده لا يكفي، فما يزيد قوة الثورة ويرفع روح الإيثار والاستعداد لتقديم التضحيات، شيوع إدراك أو لنقل شعور عام لدى جموع المحتجين، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها أو هو فرصة تاريخية لن تعوض للخلاص مرة وإلى الأبد من منطق القوة والتمييز والغلبة، وأن أي توقف أو عودة إلى الوراء سيمكن الدولة الأمنية من التحكم أكثر بحياة الناس ومصائرها ويضع الأجيال القادمة في شروط ستكون أسوأ بكثير مما هو قائم الآن، وهنا يمكن أن نضيف دور الاحتجاجات الشعبية، التي اتسعت وامتدت لتشمل معظم المدن والبلدات السورية، في إعطاء أمل وثقة بقوة الثورة وبقدرتها على تحقيق أهدافها، يعززهما التراجع المستمر في قدرة أدوات القمع على محاصرتها أو سحقها.

إن فشل الخيار الأمني والعسكري في حسم الأمور وكسر شوكة الحراك الشعبي بعد ما يقارب الخمسة عشر شهرا على انطلاق الثورة عزز ثقة الناس بجدوى ما يقومون به وبأن قضيتهم أصبحت قضية موت أو حياة لا مجال للتراجع عنها، والدليل أن المناطق المدمرة والمنكوبة تظهر من جديد كأنها المناطق الأكثر تحديا والتي بمجرد انحسار الحضور الأمني، أول ما تعاود وتبادر، وهي تعض على جراحها، للتظاهر والاحتجاج وتأكيد مطالبها وشعاراتها، مما يشجع على القول إن صمود الناس رغم كل ما سبق قد وضع الثورة عند نقطة لا عودة منها، خاصة أن دعاة الحسم العسكري قد جربوا وبصورة مبالغ فيها كل أنواع القمع والأسلحة الجبارة ولم تنجح تجاربهم المحمومة في إطفاء جذوة الثورة، كما لم تنفعهم مناوراتهم الإصلاحية أو محاولات إثارة الخلافات والتفرقة بين الجماعات الأهلية أو تشويه الثورة سياسيا وأخلاقيا بوصفها بالطائفية والسلفية أو التشكيك بوطنيتها وبأنها أدوات لمؤامرة خارجية.

وضوح مطالب الحرية والكرامة والقيمة الأخلاقية للمظاهرات الشعبية التي تتحدى الموت واتساع البنية التكوينية للقيادات الميدانية لتعوض ضعف المعارضة السورية التقليدية التي أرهقها القمع والعزلة التاريخية عن الناس، هي حوافز سياسية صريحة لهذا الاستمرار المبين للثورة السورية، وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية من حب للشهادة طلبا للحق ورفع الظلم وأيضا روح الوفاء للدماء الذكية التي أريقت ولمعاناة الجرحى والمعتقلين والمشردين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الحفاظ على ظواهر الاحتجاج والاستبسال في التظاهر، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون في المناطق التي عرفت إدارة أهلية لشؤونها، بأنهم تذوقوا طعم الحرية وصار الموت سهلا دونها! يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم الشباب وتشد من عزمهم للاستمرار في ثورتهم، وتساعد تاليا على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة إلى الصفوف، وبالفعل ثمة أعداد كبيرة أخذت ترفد الحراك الشعبي، يصعب تفسير دوافعها مع تصاعد شدة القهر والتنكيل، هل لأن حاجز الخوف انكسر نهائيا في نفوسها بعد هذا الزمن الطويل من عجز السلطة عن الحسم، أم لانحيازها الأخلاقي مع المتظاهر الأعزل واشمئزازها من عنف أعمى لا يعرف حدودا أو ضوابط، أم لإيمانها أخيرا بأن ما يحصل اليوم هو معطى تاريخي أصيل للخروج من الأزمة السورية المزمنة؟!

ونضيف، يستمد المحتجون السوريون القوة والأمل من الثورات العربية التي تتقدم والتي كرست بصورة لا رجعة عنها إمساك الناس بقضيتهم، ولا يغير من هذه الحقيقة حين يجري تضخيم بعض المظاهر السلبية التي تشهدها هذه الثورة أو تلك للطعن بجدوى التغيير وأن ثماره هزيلة بالمقارنة مع حجم التضحيات التي يتطلبها، أو إثارة المخاوف من احتمال تقدم تيارات إسلامية متطرفة لقطف ثمار التغيير وحرف الثورة عن أهدافها الحقيقية في بناء مجتمع المواطنة والدولة المدنية الديمقراطية.

وأيضا ثمة شعور عند السوريين يزيدهم ثقة وإصرارا هو أن ثورتهم صارت الشغل الشاغل لدى الشعوب العربية والإقليمية المجاورة، وأن ما يقومون به من استبسال وإيثار في تقديم التضحيات هو موضع تقدير وإعجاب، وأن ثمة ترقبا كبيرا لتأثير هذه الثورة الفريدة في مستوى المشرق خصوصا والعالم العربي عموما. ليس الغرض من عرض نقاط قوة الثورة السورية وحوافز استمرارها تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل للإشارة إلى أن خمسة عشر شهرا على انطلاق الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية ورغم شدة القمع والعنف المطبق ضدها، تعني أن الثورة تجاوزت مرحلة الانتكاس، وأن خطر إجهاضها أو كسر شوكتها صار وراءها، وأن الشعب السوري الذي استبعد تاريخيا من حسابات الانتفاضات والثورات، يفاجئ الجميع اليوم ويبرهن أنه يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد عالٍ للتضحية، من أجل حياة حرة وكريمة!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى