صفحات العالم

الثورة السورية ضد نظام الأسد: هل سيسمح العالم “بحماة” ثانية في سوريا؟


يطالب فولكر بيرتيس، الخبير الألماني في شؤون الشرق الأوسط ومدير معهد الدراسات الأمنية والاستراتيجية في برلين، بضرورة توجيه رسالة واضحة للنظام السوري مفادها بأن العالم لم يعد يحتمل المجازر البشعة التي يتعرض لها الشعب السوري.

ما زالت الانتفاضة على نظام بشار الأسد مستمرة في سوريا منذ ما يزيد عن ستة أشهر. واستمرار الاحتجاجات هو في الواقع الحدث المفاجئ لا إرادة الناس بالتخلـُّص من السطوة الديكتاتورية. وقد كان النظام متأكدًا من قدرته على إنهائها بسهولة، حيث راهن وما زال يراهن ببساطة على خوف جزءٍ كبيرٍ من المواطنين، ولكن ليس خوفهم من بطش جهاز الأمن وحسب، بل أيضًا خوفهم من أنَّ انهيار النظام سيؤدي إلى الفوضى أو النزاعات الطائفية والحرب الأهلية أو استيلاء قوى متطرفة على السلطة.

تعيش سوريا ما يشبه انتفاضة استنزاف اتسعت رقعتها باضطراد. ولا يسع من يلتقي بالشباب الذين ينظمون هذه الهبَّة ويقومون بها إلا أنْ يُعجب بقدراتهم على التنسيق فيما بينهم في طول البلاد وعرضها بالرغم من مراقبة النظام للإنترنت والاتصالات الهاتفية، وأنْ يُعجب بقدرتهم على التوصل لتوافق في كافة المناطق على شعار مظاهرات الجمعة التالية، وبعدم التزام هذا الجيل بأيديولوجيا محددة وبقدرته على التنسيق، وبالطبع بقدرته على الصمود والاستمرار. لم يقوَ عصب الثورة السورية بما يكفي حتى الآن إلى الحد الذي يسمح لها بالإطاحة بالنظام، لكن الانتفاضة اليوم أكثر حيوية من السابق وقد ازدادت تجذّرًا في المجتمع مقارنة ببداية انطلاقتها. وكما قال لي أحد النشطاء فإنَّ الثورة قد فاجأت “النظام والمعارضة التقليدية ونفسها على حدٍّ سواء”.

القبضة الحديدية

“تعيش سوريا ما يشبه انتفاضة استنزاف تتسع رقعتها باضطراد”

لن يستطيع النظام أنْ ينتصر، حتى وإن قـُدِّر له أنْ يقضي على حركة الاحتجاج باستخدامه أشدِّ أشكال البطش (وهذا أمر مُستبعد)، فالنظام سوف يُهزم، إذ إنه فقد كلَّ شرعيةٍ في الداخل والخارج، وسوف يبقى معزولاً. بيد أنه بوسع الأسد أنْ يؤخِّر سقوطه عبر البطش الدموي. ففي الأشهر الستة الأولى قـُتل 2600 شخص على الأقل رميًا بالرصاص أو بطرقٍ أخرى. وكلما دفع النظام بلا هوادة بوحدات الجيش النظامي الموالية له والميليشيات غير النظامية بغية ضرب معاقل المنتفضين يصبح لا بدَّ من زيادة توقـُّع عسكرة الانتفاضة التي اتخذت حتى الآن طابعًا سلميًا أكبر بشكلٍ عام. وبحسب تقارير بعض دوائر المعارضة، التي لم نتمكن في الواقع من التأكد من صحتها، فقد انتقل ثلاثة آلاف جندي إلى الجهة الأخرى “بشكلٍ نشط”. أي أنهم لم يتوقفوا عن الذهاب إلى الخدمة وحسب، بل أنهم أخذوا أسلحتهم وانضموا إلى صفوف المعارضة. وفي حمص مثلاً شرع جنود منشقون بحماية المتظاهرين، وفي الرستن وقعت في بداية تشرين الثاني/أكتوبر معركة عسكرية طويلة بين قوات موالية للنظام وجنود منشقين.

إنَّ ضريبة الدم المرتفعة تدفع اليوم أصواتًا ضمن حركة الاحتجاج لتطالب بحماية دولية، وفي أيلول/سبتمبر رُفع لأول مرة شعار للاحتجاجات هو “جمعة الحماية الدولية”. وهذه الأصوات سوف ترتفع أكثر بمرور الوقت. يضع هذا الوضع المجتمع الدولي في حيرة من أمره بعض الشيء. وفي مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة لم يكن اتخاذ حتى قرارٍ يدين إراقة الدماء ممكنًا. وهنا علينا القول بأنَّ للجامعة العربية مواقف متقدمة عنه. فما هي الإمكانات المتبقية لأوروبا بعيدًا عن النداءات؟

سياسة العقوبات؟

هناك من يرى بأن الفيتو الصيني والروسي في مجلس الأمن أعطى نظام الأسد متسعا لمزيد من القبضة الأمنية

تبقى العقوبات صحيحة. لكن لا ينبغي توقـُّع النجاحات الفورية لا سيما المباشرة منها. إذ لن يغيِّر الأسد وحاشيته ببساطة سياستهم لمجرد أنِّ الأوروبيين سوف يتوقفوا عن شراء النفط السوري أو يمنعوا بعض ممثلي النظام من دخول أوروبا. إنما الأهم من ذلك توجيه إشارات إلى جهات أخرى، مثل الكثيرين الذين ما زالوا ضمن النظام أو الجهاز البيروقراطي أو الجيش لكن لم يحسموا أمرهم بعد، وهم غير متأكدين من أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ستكون مستعدة للتعاون مجددًا مع الأسد في نهاية المطاف. يجب أن يتأكد هؤلاء من أنَّ النظام لن يحظى بقبولٍ دولي من جديد. والعقوبات تؤكد على مثل هذا الأمر. كما يمكن للدبلوماسية الأوروبية أنْ تدفع بدولٍ مثل الصين والهند وجنوب إفريقيا للمشاركة في تنفيذ هذه الإجراءات أو على الأقل تنفيذ جزءٍ منها بصمت (مثل التوقف عن بيع الأسلحة لسوريا) حتى وإنْ كانت هذه الدول ترفض دعم تنفيذ الإجراءات رسميًا.

إنَّ وضع أسماء ممثلي النظام ومعاونيه على قوائم اقتصادية مفيدٌ، أي استصدار القرارات بمنعهم من دخول البلاد وتجميد أرصدتهم المصرفية. كما ينبغي في نفس الوقت إيضاح أنَّ كلَّ من يبتعد عن النظام يمكن أنْ يشطب اسمه من القوائم بسرعة. علمًا بأنَّ هذه القوائم هي بمثابة عقوبة دولية وليست بديلاً عن مراجعة الماضي والتفكر به ومعالجته بعد تغيير النظام في سوريا، إذ ليس بوسع الاتحاد الأوروبي أنْ يقوم بدور القضاء السوري أو “لجنة تقصي الحقائق”.

يمكن للدول الأوروبية ودول أخرى أن تـُبيِّن أنها تدعم الاستعدادات لليوم التالي، أي للفترة التي ستلي سقوط النظام. بمعنى التعاون مع مجموعات مختلفة من المعارضة التي تـُشكـِّل نفسها اليوم في الخارج ومع ممثلي حركة الاحتجاجات في الداخل دون أنْ تـُعرِّض الأخيرة للخطر. وهنا لا ينبغي انتظار تحقق “وحدة” قوى المعارضة، فمن الطبيعي جدًا أنْ تسعى مجموعات وائتلافات متباينة لأخذ مواقعها في هذه المرحلة الانتقالية. وبخاصة لأنَّ سوريا الجديدة ستكون تعددية على أية حال، لذا لا غضاضة في التعاون مع قوى مختلفة طالما كانت لها مصداقية وتمثل جزءًا وازنًا من الطيف السياسي والاجتماعي، وهذا أمرٌ يمكن التأكد منه لا محالة.

ما الخطوة التالية؟

السؤال الأصعب: ما العمل إذا ما استمر القتل؟ فرسالة المجتمع الدولي القائلة برفضه استمرار خوض النظام الحرب ضد شعبه لم تكن حازمة بما فيه الكفاية. صحيحٌ أنَّه لا يوجد عزم لدى أية دولة في حلف شمال الأطلسي على خوض غمار حرب إضافية. لكن لا بدَّ من التيقظ جيدًا كي لا يُمنح الأسد بامتلاك الشعور بأنه قادر على أن يفعل ويترك ما يشاء بناءً على بيانات الحلف المتكررة التي تـُعبِّر عن ما لا يريد الحلف القيام به.

“لا شك في أنَّ تركيا عضو حلف شمال الأطلسي لن تبادر باجتياح سوريا، لكن لن يكون من الخطأ أبدًا أنْ تُبيِّن قيادة الأركان العامة التركية أو نظيراتها الأطلسية بوضوح أنَّ في جعبتها أيضًا خططًا لتحركات عسكرية”

لقد تعلمت النخبة القيادية السورية عبر السنين على قراءة مؤشرات شركائهم وخصومهم الإقليميين والدوليين، – ليس دائمًا بالشكل الصحيح، لكن في نهاية المطاف بشكلٍ حقًا فعال حيث كان التواصل المباشر والصريح معدومًا. إذن كان بوسع حلف شمال الأطلسي أو بوسع دولٍ أعضاء فيه منفردة أنْ تنوِّه إلى أنها في منطقة تتمتع بهذه الأهمية الإستراتيجية مستعدة بالطبع لمواجهة كلِّ الاحتمالات الممكنة، وقد كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان قد صرَّح بأنَّ تركيا لن تسمح بتكرار “حماة” مرة ثانية، قاصدًا تلك المجرة التي وقعت في عام 1982 وذهب ضحيتها بحسب المعطيات المتباينة بين خمسة آلاف وعشرين ألف قتيل. لا شك في أنَّ تركيا عضو حلف شمال الأطلسي لن تبادر باجتياح سوريا، لكن لن يكون من الخطأ أبدًا أنْ تُبيِّن قيادة الأركان العامة التركية أو نظيراتها الأطلسية بوضوح أنَّ في جعبتها أيضًا خططًا لتحركات عسكرية أقلُ حدةً من الاجتياح، وتهدف مثلاً إلى توجيه ضرباتٍ جويةٍ محددةٍ إلى مطاراتٍ عسكرية.

ينبغي أنْ يكون محتوى الرسالة التي يتوجب على الأسد وأعوانه فهمها التالي: بقدر ما لا يريد حلف شمال الأطلسي والدول المنضوية فيه حسم شأن من سيحكم سوريا ولا تحديد طبيعة خط السياسة الخارجية التي ستتبعها البلاد مستقبلاً، بقدر ما ترفض أن تقوم حكومة بمجازر بحق شعبها في فضائنا الأوروبي المتوسطي المشترك. ولهذا السبب ورغم كل ضبط النفس على الحلف أن يُبقي كلَّ الاحتمالات واردة.

فولكر بيرتيس

ترجمة: يوسف حجازي

مراجعة: هشام العدم

فولكر بيرتيس خبير في شؤون الشرق الأوسط ومدير معهد الدراسات الأمنية والإستراتيجية في برلين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى