صفحات العالم

الثورة السورية: علاج الأعراض يُسقط أوهام المشككين


نسيم ضاهر *

بين جميع الانتفاضات العربية، تفي الوثبة السورية على وجه التمييز بعلامات ومعالم الثورة الشعبية المأخوذة على محمل المعنى الشامل والانخراط النضالي العميق. وقد يكون الجاري في إمارة الصمت المملوكية التي أقامها المؤسس الآتي من حزب البعث بسطوته العسكرية واستيلائه على مقاليد السلطة في عاصمة الأمويين، عنوان نسق جذري من نمط أصيل لم يألفه المجال العربي، ولم ترقَ إلى نموذجه التحولات السياسية المتصلة بمسمى الربيع العربي. فعبر الحضور المجتمعي المثابر والمتمادي، ومن حجم التضحيات الجسام المتواصلة بلا تردد وبلا كلل، تستمر عملية المكابدة والرفض القاطع لنظام الاستبداد في خضم مخاض تفاعلي يحظى بسمات التغيير الحقيقي، ويعاني عوارض الحدث التاريخي النابع من جوف مجتمع مقهور يتلمّس طريق الخلاص.

إن ثمّة نواقص بائِنة ما فتئت تثقل على أداء فريق المعارضة السورية، منبتها عضوي، من المحال إنكار وجودها، ومن الضار استئخار معالجتها، إذ تخرج عن الظرفيات والجزئيات. ولئن كانت لا تبدل من التعريف الأساس، أو تنال من جوهر مسألة التحرر وضرورة اقتلاع منزع الهيمنة من جذوره، فهي، بالتأكيد مصدر قلق مشروع ومؤشر عثرات. مع ذلك، الأصل أخلاقياً، عدم جواز مطالبة الضحية في ساحة المواجهة بفروض محكمة الصواب، نقية من الشوائب. كما أن مسؤولية تصحيح المسار واحتواء التناقضات الثانوية، إنما تقع على عاتق صُنَّاع الهندسة السياسية وأهل الوكالة المعطاة، مرحلياً، ريثما تنبثق تباعاً إطارات مقتدرة ينتظم فيها أصحاب الكفاءات ويلتقي في مبناها ممثلو القواعد على تنوعها واختلاف مشاربها ومرجعياتها. تبعاً لهذا الاستدراك، يتعين على المجلس الوطني بالتحديد، النهوض بمهمة توحيد الرؤى المستقبلية، ومحاورة سائر مناهضي النظام وسياساته القمعية الدموية، بغية إيجاد صيغة جامعة تحاكي صمود المُحتجّين المنكّل بهم يومياً، وتحوز شرف تمثيل أمانيهم، لمخاطبة الأسرة الدولية بلسان الجمع وذهنية العاملين على إسقاط النظام وتصفية مخلفات أحقاده وعدائه للمجتمع المدني. ومن النافل أن هذا النهج يؤول إلى جذب من بقي متردداً حيال المجرى الثوري، وطمأنة مكونات المجتمع السوري كافة، لناحية الحقوق الأساسية والمساواة ضمن القالب الدولتي الجامع، الديموقراطي الحداثي في بُنية أركانه وعلى مساحة أرجائه، من دون رمادية ولا استثناء.

في الملموس، وربما المبالغ فيه لدى المشككين، هناك موضوعان يحتلان الأولوية بين بنود مفكرة المعارضة، أو هكذا يفترض تصدّرهما للترتيب: أولهما تطييف الحراك، وثانيهما، عسكرة الانتفاضة. كلاهما شديد الأهمية وجدير بالمتابعة، لاستخلاص مدى رسوخ الطابع الوطني وتوكيد خضوع العمل المسلح للقرار السياسي. ثم إن الإجابة المزدوجة المطلوبة حيال ما يعتبر صدقية وسلمية كفاح قارب السنة، تختصر الكثير من هواجس الأصدقاء ومخاوف الداعمين من الانزلاق نحو التمزق الطائفي وعودة شبح العسكرتاريا والانقلابات. وحيث بقي الرد الميداني من جانب الجيش السوري الحر في حدود حماية المدنيين وإعاقة تحرك القوات النظامية (كما تعطيل خطوط إمدادها ومهاجمة مراكز المخابرات كأهداف تتولى القمع)، سُجِّلَ أيضاً تنازع رتب القيادة، من دون مسّ بالتوجه العام.

بيْدَ أن العلاقة بين المجلس الوطني والمجلس العسكري ما تجاوزت حد التنسيق، بينما تدعو القاعدة السليمة إلى ضبط المجهود العسكري وفق محددات وتحت مظلة الهيئة السياسية المشرفة، المرجعية الوحيدة في أعلى سلم الإمرة. أما قياس النجاح بغياب التمرد فهو منطق شكلي تبريري، يقتضي الخروج منه عاجلاً، إنفاذاً لغايات الثورة، وضماناً لسلوكها جادة الديموقراطية نحو الدولة المدنية القادرة على التزام المفاهيم الدستورية وتراتبية المؤسسات بشفافية وقناعات.

في الموازاة، يعمل النظام جاهداً على إسباغ التطيف في جبهتين: أولاً، من خلال تحديات الأقليات في الداخل، وثانياً، بالتهويل من وزن الإخوان المسلمين في المجلس الوطني، لدرجة الإمساك به كلياً وإضمار مآرب جهنمية بالتلطّي وراء واجهة جلها سُذّج انقطعوا عن النسيج الاجتماعي. هنا تتقن حلقة السلطة المراوغة، بعد أن مزقت طوال عقود النسيج عينه. وكلما أطالت المكابرة والقمع المنهجي، علمت جيداً قابلية زرع اليأس في أوساط الاحتجاج ودفع دافعي الدماء نحو راديكالية دينية ترتد سلباً على الثورة المدنية. أي أن إيقاظ شياطين الشقاق والفتنة كان وما زال رياضة النظام المفضلة، الذي يُعوِّل على أسوأ ما قد يعتمل في الوعي الجمعي نتيجة المزاوجة بين البطش الوحشي وإشعار مقاوميه بأنهم نِعاج في نهاية المطاف، تخلى عنهم مشغلوهم الخفيون، الضالعون في مؤامرة زادها الضحايا على عادة الأجنبي الماكر الأناني الغدَّار. فليس بالمستغرب أن يضحي استحضار تدخل عسكري استعماري الغايات والنتائج، ورقة رابحة وركن إشغال المعارضة، تمهيداً لتقطيعها ونسف جهودها، مشفوعاً بتخييب آمال الخلاص وبيان استحالة الحسم، نظراً إلى تروّي أصدقاء الشعب السوري ومجانبتهم، لغايته، مسألة كسر شوكة النظام العسكرية (فيما روسيا وإيران تجاهران بالدعم المباشر ورعاية النظام)، ولتردد المعارضة في هذا الشأن، حيث تسكن بعض أطرافها عقدة قومجية تضع حامليها في موقع المذنب والتابع افتراضياً.

من قال إن الثورة عملية بسيطة، ولا تعرف إلّا المُشعّ والسهل والناصع البياض؟ وهل من يعتبر أن المجريات السورية خالية من الخيارات الصعبة والتعقيدات المفضية إلى تردد وضعف أداء، وأيضاً إضاعة فرص ذهبية تحت ضغط المعاش والمُتصوَّر أو الخوف من كسر المسلمات في آن؟ تواجه الثورة السورية – كما هي عليه في بلد مسلوب فقد جسمه الاجتماعي مقداراً من المناعة إثر محاولات ترويضه وتصحيره المتتالية – كَمَّاً من الصعاب، ولا يمكنها أن تكون في منأى عن مخاض المد والجزر، كما عن جدلية التجاذب والتناقضات. عليها، وهي الخارجة على التجسّد في القائد الأوحد والرعية الممتثلة الصاغرة، أن تبتكر وتجرؤ على الاعتراف بالأعراض والمعوقات كي تتعافى، ولها أنها لم تفقد البوصلة بعد أن اختارت مرغمة أسمى الأهداف وأقسى المهام، تُعمِّدها بالدم وتصرخ الحرية كل طالع نهار. وإذ يبقى التعاطف معها، وإسناد حراكها، طليعة واجبات الأحرار كيفما قلبت أوراقها، وحيثما لمعاني الإنسانية والتضامن من معنى، جاز التعاطي مع مسارها مُتخففاً من المجاملات والتغاضي عن الثغرات. أما أهل حضانة الاستبداد والنفاق، أصحاب الرهان على كبوة الضحية وانتصار الجلّاد، من المتخفين وراء ستار الممانعة فلعلَّ تجريحهم المقيت المبني على قوالب فكرية متحجرة، وليد حَوَلٍ مُزمنٍ ومرضٍ عُضال، لن يشفوا غليلهم، مهما طالت إقامتهم في غرفة الانتظار.

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى