صفحات مميزة

الثورة السورية في عامها الثامن: لا مجال للاستسلام -مقالات مختارة-

 

 

7 سنوات مرت على انطلاقة ثورة السوريين التي حوّلها النظام إلى حمام دم، بدعم مباشر من دول كبرى وتواطؤ عربي ودولي أدار الوجه عن المذبحة لأسباب تبدأ من عدم الرغبة في مواجهة روسيا وإيران، ولا تنتهي بالعجز عن وقف تقسيم مناطق نفوذ بين الفاعلين الكبار، الإقليميين والدوليين على الأرض السورية.

حصيلة الثورة ــ الحرب، على البشر وعلى ما تبقى من حجر، هائلة، وربما تكون الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. لكن الاستسلام لا يبدو وشيكاً، لأن سورية “بدها حرية… وعدالة”.

 

في الذكرى السابعة للإنتفاضة السورية، هل كان الأمر يستحق العناء؟/ مايكل يونغ

صبحي حديدي | ناقد أدبي ومحلّل ومُترجم سوري
يحضرني أمام هذا السؤال بيت من قصيدة للشاعر الدمشقي الصوفي عبد الغني النابلسي، يصف فيها بنبرة ساخرة للغاية معضلة رجل أُلقي في البحر مكتوف الأيدي وقيل له: إيّاك أن تبتلّ!
في العام 2011، أطلق السوريون شرارة الثورة السلمية ضد نظام بربري قائم منذ أربعة عقود على الاستبداد وإرهاب الدولة والفساد وحكم العائلة. ولاشك أن كل ما أعقب ذلك، سواء لحظات النصر الزاهية أو غياهب الهزائم وماتخلّلها من قرارات صائبة وأخرى مُخطئة، كان كلّه نابعاً من حاجة سورية الماسّة إلى فتح صفحة جديدة.
لذا، نعم، كان الأمر يستحق هذا العناء، وتحديداً عند هذا المنعطف التاريخي الفريد وليس قبله. أعتقد أن الأمر لايزال يستحق العناء حتى الآن. لكن، هل كان يُمكن تجنيب سورية بعضاً من هذه الفظاعة المُشبعة بالدم؟ وبعضاً من هذا الدمار الوحشي؟ هل كان يُمكن الحؤول دون وقوعها تحت نير احتلال كلٍّ من إيران وحزب الله وروسيا والولايات المتحدة وتركيا والجهاديين بمختلف أطيافهم؟ لكن من المُلام ياترى، عدا الضحايا الذين يُلقَون، مكتوفين، في لُجّة من الدم!

ياسين الحاج صالح | مفكّر وكاتب سوري ومُعتقَل سياسي سابق. صدر له مؤخراً كتاب بعنوان “الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية، والحرب العامة في سورية”
هذا سؤالٌ يثير فيّ مشاعر متناقضة للغاية. فمن جهة، لديّ أسباب شخصية قوية تدفعني إلى الشعور بالندم على تغييرات طرأت في سورية وأسفرت عن خسائر كُبرى تكبّدناها أنا وأشخاص أعزّاء على قلبي، وعن معاناة لاتُحتمل. أعني بذلك اختطاف زوجتي سميرة ورفاقها على أيدي جيش الإسلام في دوما؛ وقبل سميرة، اختطف تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة شقيقي فراس ورفاقه أيضاً.
لكن حياتنا كانت بائسة قبل اندلاع الثورة، إذ كنّا محرومين من حقوقنا المدنية والسياسية الأساسية. كان يتم التعامل معنا كالعبيد سياسياً. أمضينا أنا وزوجتي “المغيّبة” وشقيقتها وصهرها وشقيقاي مامجموعه 45 عاماً في السجن تقريباً، كانت حصّتي منها أكثر من الثلث. لم يكن هناك سبيلٌ لعيش حياة أخرى في ظل نظام عبّر جهاراً عن نيّته البقاء في سُدة الحكم إلى الأبد، لأن هذا كان سيعني حرباً مديدة ضد المستقبل.
مع ذلك، الوضع في سورية هو مأساة تجد فيها نفسك ممزّقة داخلياً طيلة الوقت. لكن عندما ننحو باللائمة عن كل ماحدث إلى “الثورة السورية”، ألا يعني ذلك أننا ننزلق إلى منطق الجبرية؟ لذا، قد يكون من الأجدى طرح السؤال التالي: هل كان بالإمكان أن نسلك مساراً آخر غير مسار الثورة لتغيير سورية، في عالمٍ ظلّ يتفرّج طيلة سبع سنوات على الإبادة الجماعية تُرتكب أمام ناظريه ولم يحرّك ساكناً، فيما هو ينهمك في إنكار حدوثها؟

عمّار عبد الحميد | محلل سوري وناشط مؤيد للديمقراطية مقيم في واشنطن العاصمة، ويشارك في تقديم البرنامج السياسي “بين سام وعمار” الذي سيبثّ قريباً على قناة الحرة
نزل الناس إلى الشوارع في سورية لأنهم تعبوا من قمع وفساد النظام الحاكم، إذ إنهم كانوا ينتظرون إقدام بشار الأسد على إجراء إصلاحات جادة لتحسين نوعية حياتهم. بعبارة أخرى، كان قرارهم بالتمرّد ضرورياً بقدر ماكان شرعياً.
بيد أن مجرد تساؤلنا عما إذا كان الأمر يستحق، يمحض النظام انتصاره المطلق من خلال دفعنا إلى التشكيك في شرعية قضيتنا. الهدف من هذا الإدراك المتأخر هو مساعدتنا على أخذ العبرة من أخطاء الماضي لتجنّب تكرارها في المستقبل، وليس لدفعنا إلى الشعور بالندم حيال ماحدث. ما يشعرني بالقلق أكثر ليس قرار التمرّد في حدّ ذاته، بل فشل المعارضة في إنتاج رؤية شاملة لمستقبل سورية، وفي تأسيس هيئة محترفة قادرة على مواجهة التحديات السياسية للدبلوماسية المحلية والدولية.

إبراهيم حميدي | محرر دبلوماسي أول يغطي الشؤون السورية في صحيفة الشرق الأوسط في لندن
في العام 2011، توافرت في سورية ثلاثة شروط: رغبة وحاجة إلى التغيير، وإلهام “الربيع العربي”، ودعم إقليمي ودولي لرغبة شريحة متصاعدة من السوريين للانتفاض. وإذا ما كرّر التاريخ نفسه وتوافرت الشروط نفسها، أغلب الظن أن يقوم الشعب بالشيء نفسه كما العام 2011.
مع ذلك، عندما يتأمل المرء في كيفية انطلاق الانتفاضة وما آلت إليه الأمور بعد سبع سنوات، يُصاب بالذعر. فما بدأ على شكل احتجاجات شعبية لتحقيق مطالب محلية تحوّل إلى نزاع مسلّح، ثم إلى حرب بالوكالة استقطبت لاعبين إقليميين ودوليين. والآن، يحارب السوريون حروب الآخرين على أرضهم، وتجري تفاهمات تشمل روسيا وإيران وتركيا من جهة، وروسيا والولايات المتحدة من جهة أخرى، فضلاً عن دول أخرى أيضاً. وجميعها تُفرض على السوريين في نهاية المطاف – نظاماً ومعارضة.
على نقيض حالات التغيير الرئيسة الأخرى، مثل أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، كان من سوء حظ السوريين أن انتفاضتهم تزامنت مع انحسار نفوذ الولايات المتحدة والدول الأوروبية في الشرق الأوسط. وقد استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “الساحة السورية” للعودة إلى المنطقة والانتقام لقيام الغرب بإذلال روسيا بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي.
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن سورية التي نعرفها قد ولّت، ولايمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. سورية الجديدة بدأت في الظهور، والنزاع الدولي – الإقليمي جارٍ حالياً لتشكيلها.

 

 

الانتفاضة السورية: ألم تكن محتومة… وهكذا تبقى؟/ صبحي حديدي

بات السؤال شائعاً: هل كان الأمر يستحق كلّ هذا الدم والخراب والتشريد والتشرذم في سوريا؟ وبين حسن النيّة وسوئها، والبحث الجادّ عن إجابة «علمية» أو تخطئة الماضي من باب الشماتة، أو تسجيل منطقة (رمادية، بالضرورة) بين انتصار هذا الطرف أو هزيمة ذاك؛ تظلّ أرضية السؤال مفخخة بعشرات الأسئلة الأخرى، حمّالة الجدّ والشماتة معاً، والدفاع الأخلاقي عن الحقّ البسيط مقابل التشكيك اللاأخلاقي في مبتدأ أيّ حقّ قياساً على منتهاه. من جانبي شخصياً، وكلما طُرح عليّ السؤال، أجدني أعود إلى الصوفي الدمشقي عبد الغني النابلسي، الذي أطلق منذ القرن السابع عشر تلك الحكمة الصائبة، المترعة بحسّ المفارقة القصوى: ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له/ إياك إياك أن تبتلّ بالماء!

قبل سبع سنوات، في آذار (مارس) 2011، تكاتفت عناصر عديدة دفعت ملايين السوريين إلى الانتفاض على نظام نهض، طيلة 41 سنة، على نظام بربري فاشيّ، أركانه الاستبداد والفساد والحكم العائلي وتسلط الأجهزة والدوس على الكرامة والحقّ والقانون (بموجب «الدستور»، ذاته، الذي سنّه حافظ الأسد كي يلبّي العسف والنهب تحديداً). بعض العناصر كان قديماً متأصلاً، صنعته تلك الأركان عاماً بعد عام، وبعضها الآخر استجدّ داخلياً، مثل تبلور حراك شبابي ناشط اجتماعياً (حول مخيمات النزوح من مناطق الجفاف إلى محيط العاصمة دمشق)، واحتجاجي سياسياً (بدأ من الاعتصامات أمام السفارة الليبية، ثم استثمر تظاهرة الحريقة الشهيرة، قبل أن ينطلق من المسجد الأموي ودرعا البلد…)؛ وبعضها، الثالث، كان انعكاساً تلقائياً لمشاهد الانتفاضات الشعبية في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين.

وقبل أن يرتفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، كان الشعار الأبكر يعلن انّ «الشعب السوري ما بينذل»؛ الأمر الذي استلهم حسّ الكرامة، واعتبارات المواطنة، ومبدأ الحقّ المدني، وهذه وسواها كانت تفضي بالضرورة إلى مآل جوهري محتوم، أياً كان تفسير المرء للصفة الحتمية هنا: تغيير النظام. وفي متابعتي شخصياً للإجابة عن السؤال الرائج، أعلاه، كنت وأظلّ أقول إنّ جميع الوقائع التي أعقبت انطلاق الانتفاضة، من انتصارات أو هزائم، ومحطات أمل أو يأس، وخيارات انتفاض ظلّ سلمياً ومدنياً وديمقراطياً وسورياً وآخر تَعَسْكَر وتَأَسْلَم جهادياً وانقلب على روح مطالب التغيير وارتبط بهذه الجهة الخارجية أو تلك… كلّ هذه التطورات، أو سواها، هي نتاج تلك السردية الكبرى العليا: أنّ ملايين السوريين استقروا على التغيير الجوهري، وطيّ صفحة هذا النظام، والتطلع إلى سوريا أخرى ديمقراطية مدنية، يتمتع مواطنها بالحرّية والكرامة والمساواة وسيادة القانون.

وليس من باب السفسطة، أو محاذرة النقد الذاتي، أو الترفع عن المماحكة وتبادل الاتهام والاستفزاز؛ أنّ المرء، إذْ يرقب المشهد الراهن في سوريا، يستعيد مناخات تلك الأطوار المبكرة، على خلفية سؤال آخر (شاع بدوره، خلال مرحلة سابقة): مَنْ كان يتوقع كلّ هذا، أو حتى نصف معطياته، من انفجار التنظيمات الجهادية والميليشيات الغريبة، سواء أعلنت هوية سنّية أو شيعية؛ إلى تدخل إيران المباشر، سواء عبر «حزب الله» أو «الحرس الثوري»؛ ثمّ التدخّل العسكري الروسي، وما اقترن به من استخدام/ تجريب للأسلحة الاشدّ فتكاً في ترسانة قوة كونية عظمى؛ وصولاً إلى التدخل التركي، الذي مزج بين سياسة وضع اليد على «المعارضة» الرسمية الاسطنبولية والمقايضة بها وعليها، وصولاً إلى غزو مناطق الشمال غرب الفرات وعفرين وإدلب؟

ثانياً، إذا كان البعض قد أجاز التكهّن بأنّ نظام بشار الأسد لن يتورّع عن استخدام أية قوّة ردع نارية يمتلكها، مدفعية وصاروخية وكيميائية، أرضاً وجوّاً وبحراً؛ فهل انطوى ذلك التكهن على مقدار التبعية المطلقة التي انحدر إليها النظام، في تسليم البلد إلى حلفائه العسكريين، خاصة روسيا وإيران، بحيث بات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي (ثمّ أمثال حسن نصر الله وقاسم سليماني…) بمثابة ناطقين عن الوضع في سوريا، بالأصالة عن أنفسهم، حتى دون حدّ أدنى من اللباقة في النطق نيابة عن النظام؟ وفي المقابل، وإذا صحّ أنّ «المعارضة» السورية الرسمية، الخارجية دائماً، قدّمت تباشير صريحة عن زيف ادعاءاتها بتمثيل الشعب السوري، وعن مقدار الادقاع في أدائها السياسي، عبر «المجلس الوطني» ثمّ «الائتلاف»، فـ»الهيئة العليا للتفاوض» وعشرات «الدكاكين» السياسية والإعلامية التي تفرخت عنها؛ فهل كان منتظَراً منها كلّ هذا الانحطاط، حقاً؟

ثالثاً، إذا أباح المرء ذاته إسقاط جميع الأوهام التي عُلّقت على «المجتمع الدولي»، سواء الأنظمة العربية، أو السياسات الغربية المختلفة، أو مؤتمرات «أصدقاء سوريا» هنا وهناك، التي لم تقطع تماماً مع النظام حتى في ذروة تهليلها للانتفاضة الشعبية وتبشيرها بقرب سقوط النظام؛ فهل كانت أفضل التوقعات تشير إلى كلّ هذه القحّة في الاستهانة بدماء السوريين، وخراب البلد، وعربدة القوى الخارجية في أرجائه، لمجرّد أنّ مقتضيات الـRealpolitik العتيقة تستوجب الصمت هنا، أو الاتجار هناك، أو التواطؤ في منزلة بينهما؟ ألم يتأخر الغرب، والولايات المتحدة على رأسه، في إدراك فداحة الانفجار السوري إلا بعد تضخّم أسطورة «داعش»، وتواتر مشاهد الاختطاف والذبح والحرق مباشرة على شاشات التلفزة؟ ألا يواصل الغرب ممارسة تلك التجارة اليوم أيضاً، مع روسيا وإيران وتركيا؟

أخيراً، تحت ذريعة مناهضة الجهاديين والإسلاميين المتشددين الذين «صادروا» الانتفاضة الشعبية السورية، والبعض يذهب أبعد فيعيد «المصادرة» إلى جذر أوّل هو خروج أولى التظاهرات من المساجد؛ أسقطت شرائح واسعة من اليسار، العربي وغير العربي، سردية الشعب السوري التي بدأت من مطلب التغيير الجوهري، وتخلت بالتالي عن مساندة الانتفاضة، وهذا مآل قادها تلقائياً إلى النوم في فراش النظام السوري. للمرء أن يبدأ من فيلسوف ماركسي ما بعد ـ حداثي مثل السلوفيني سلافوي جيجيك (الذي كان موقفه في تفضيل دونالد ترامب على هيلاري كلنتون، قياساً على رفضه اتهام نظام الأسد باستخدام السلاح الكيميائي، قد مدّ بعض السوريين بالعزاء، للمفارقة!)؛ أو البريطاني ـ الباكستاني طارق علي (الذي اعتبر، منذ العام 2012، أن ما يجري في سوريا «استعمار جديد» تمارسه أمريكا وبريطانيا، وهو اليوم يسكت عن أي «استعمار جديد» تمارسه روسيا أو إيران)؛ أو الفرنسي جان ـ لوك ملنشون، الذي يعلّق الآمال على بوتين، ويرفض نشر صور الأهوال في الغوطة الشرقية لأنها غير قابلة للتدقيق من المصدر!)…

يبقى، ما دامت هذه السطور تسير في سياق إيضاح موقف شخصي، التشديد على موقف آمنت به منذ الأسابيع الأولى لخروج الشعب السوري إلى الشوارع، في آذار (مارس) 2011: أنّ الانتفاضة فعل شعبي معقد، أكثر بكثير مما يظنّ الأصدقاء والخصوم، وأشدّ انطواء على سيرورات شتى مركبة لا ينفع معها تطبيق أيّ مبدأ مانوي: الأبيض أو الأسود، السلمية أو العسكرة، الاستقلال عن القوى الخارجية أو الارتهان لها، التمسك بسراط الوحدة الوطنية أو الانحراف نحو تخندقات طائفية أو دينية أو إثنية أو مناطقية. ولأنها فعل شعبي معقد، فهي بالتالي تكوّن اجتماعي بامتياز يمكن أن يَنْقُض، في كثير أو قليل، أية «وصفة» مسبقة الصنع، خالية تماماً من العثرات والأخطاء والانحرافات.

لقد كانت محتومة ساعة انطلاقها، وهي تظلّ كذلك، بالمعنى التاريخي الأعمق بادئ ذي بدء؛ ثمّ، أيضاً، بمعنى قانون المفارقة الذي شخّصه المتصوّف الدمشقي، عن شعب أُلقي به مكتوفاً في يمّ الدماء، وطولب أن يسبح ضدّ كلّ تيارات الهمجية والفاشية، الداخلية والخارجية؛ وأن يخرج نظيفاً ناصعاً… غير مبلل!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

على عتبة السنة الثامنة/ بكر صدقي
كثيراً ما نسمع عبارة “هذه ليست ثورتي” أو أنها “لا تشبهني” بمعنى أن مسار الأحداث قد ابتعد كثيراً عن “النموذج الأصلي” الذي شكلته الأشهر الستة الأولى حين كانت المظاهرات السلمية، وفعاليات مدنية مشابهة، هي السمة الأبرز للثورة. أما ما تلا ذلك من تحولات إلى العسكرة والأسلمة وحروب الوكالة ثم الاحتلالات الأجنبية المتنوعة والتقسيم العملي للكيان السوري، فهي جميعاً بمثابة “انحرافات” خطيرة عن ذلك النموذج الأصلي الذي انتهى عملياً وانطمر تحت التطورات المذكورة، وفقاً لتلك الرؤية. خاصة وأن الفاتورة الإنسانية والوطنية كانت باهظة جداً فاقت قدرة أي شعب على التحمل.
لندقق، إذن، فيمن كانت الثورة تشبه في طورها السلمي القصير.
هي أكثر ما تشبه أقساماً من طبقة متوسطة مدينية متعلمة تتطلع إلى نمط الدولة الغربية الحديثة، حيث النظام السياسي قائم على تداول السلطة والفصل بين السلطات، بما يضمن درجة من الحريات والحقوق الفردية، وتقوم العلاقة فيه بين دولة ومواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وتحترم الدولة حق الملكية، ويكون الجيش والأجهزة الأمنية تحت سلطة الحكومة المنتخبة.. إلخ. أما الصفة العلمانية للدولة، فهي موضوع إشكالي غير محسوم لدى هذه الطبقة، ولدى عموم السوريين، على الرغم من أهميته الحاسمة بالنسبة لبلد متنوع كسوريا. كذلك ثمة مشكلة غير محسومة تتعلق بالصفة القومية للدولة، وما يتفرع عنها من حقوق الجماعات القومية غير العربية، وإن كانت الوصفة الشائعة المقترحة، بهذا الشأن، هي “دولة المواطنة المتساوية بصرف النظر عن الدين والجنس والعرق واللغة” على ما نقرأ في الوثائق السياسية للأحزاب والتيارات التي تنتمي إلى البيئة الاجتماعية موضوع الحديث.
الحق أن هناك جانباً براغماتياً، أيضاً، في تبني هذا النوع من البرامج السياسية، لأن أصحابها يعتقدون أنها مقبولة من القوى الدولية الفاعلة في الغرب، إضافة إلى أنها تشكل نوعاً من الحل السحري لتعقيدات الحالة السورية.
ولكن ما حجم القاعدة الاجتماعية حاملة هذه الرؤية، بالنسبة إلى مجموع السكان، أو إلى القسم الفاعل من السكان؟ وأكثر: بالقياس إلى الحوامل الاجتماعية لبرامج سياسية أخرى مختلفة عن هذا البرنامج؟
فإذا ألقينا نظرة على الجماعات السورية المتمايزة سياسياً، سوف نرى أن “البرنامج الحداثي” الموصوف أعلاه لا يمثل إلا أقلية اجتماعية بالقياس إلى غيرها. لنبدأ بالقاعدة الاجتماعية للنظام التي ترى مصلحتها في بقائه مهما كان الثمن، وتتشكل من الكتلة الرئيسية للأقليات الدينية والمذهبية، إضافة إلى القسم الرئيسي من بورجوازية المدن الكبرى، دمشق وحلب بخاصة، وأقسام من العشائر في المناطق التي ما زالت الرابطة القبلية تتمتع فيها بالقوة.
في حين أن الكتلة الرئيسية للبيئة الاجتماعية الثورية تتمثل في العرب السنة الموزعين في الأرياف وضواحي المدن، وهي بيئات أقل اشتباكاً مع قيم الحداثة، ومنفتحة على تيارات الإسلام السياسي، مقابل كتلة صغيرة مبعثرة من الطبقة المتوسطة المدينية التي سبقت الإشارة إليها.
ويشكل الكرد جماعة سياسية مستقلة، متجانسة إلى حد كبير، لديها تطلعات مختلفة عن المتن الاجتماعي العربي في الموالاة والمعارضة على حد سواء. بهذا المعنى يمكن القول إنهم يمثلون تياراً ثالثاً بين الموالاة والمعارضة، ويعود ذلك، أساساً، إلى أنهم لا يتطلعون إلى الاستحواذ على السلطة بحكم كونهم أقلية قومية، مقابل صراع الموالاة والمعارضة على السلطة.
بالنظر إلى هذه اللوحة، من المجحف أن تدعي جماعة واحدة من الجماعات احتكارها للثورة ولمفهومها. فإذا كان “البرنامج الحداثي” يرى أن الثورة انتهت بالنسبة له بعد تحولها إلى ثورة مسلحة، فلم ير ثوار الأرياف في الثورة إلا وجهها المسلح، في حين اعتبرت التيارات الإسلامية أن الثورة إسلامية أساساً، ورأى الكرد في الثورة فرصتهم لتحقيق مطالب قومية خاصة بهم.
كان ما يجمع هذه الجماعات المعارضة، في الأشهر الأولى، هو شعار إسقاط النظام، مع تأجيل التباينات إلى ما بعد تحقيق هذا الهدف. وكان هذا مفهوماً في مناخ ثورات الربيع العربي حين نجح التونسيون والمصريون في إسقاط بن علي ومبارك في زمن قياسي، وبوسائل سلمية. وتطلب الأمر تدخلاً عسكرياً من الحلف الأطلسي لإسقاط معمر القذافي، بعد أشهر من بداية الثورة الليبية.
لكن العنف الوحشي الذي واجه به النظام الكيماوي الثورة السلمية في سوريا، وصموده الطويل أمام عوامل التفكك والانهيار،
ثم نجدة حلفائه له بزخم كبير.. كل ذلك أطال أمد الصراع وأدخله في مسارات جديدة لم تكن محسوبة في “النموذج الأصلي”، وأصبح الحامل الاجتماعي للثورة السلمية خارج معادلات الصراع، بالمعنيين الفيزيائي والسياسي، مشتتاً في المنافي، ليستمر، بصورة مشوهة وهجينة، في أطر المعارضة السياسية (المجلس الوطني، الائتلاف الوطني، الهيئة العليا للمفاوضات) المخترقة من القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوري.
“ليتها لم تكن” قالها شاعر سوري، قبل حين، بالنظر إلى النتائج الكارثية الماثلة أمام الأنظار. فهل هذا منصف؟ هل كان على السوريين أن يستمروا في حالة العبودية إلى الأبد، بدعوى أن أي تمرد سيؤدي إلى خراب البلد على ما أنبأنا شعار النظام الشهير: الأسد أو نحرق البلد؟
لقد أطلق السوريون ملحمة تاريخية كبرى، تعرضت لتحولات وتشوهات وتعرجات. لم ينتصروا، لكنهم فتحوا الصندوق المغلق أمام كل الاحتمالات. انتهت سورية الأسد، و”الأسد إلى الأبد”. ولم تولد سوريا جديدة محلها إلى الآن.

 

 

 

 

 

سورية والثورة بعد سبع سنوات/ سلامة كيلة
مرّت في 15 مارس/ آذار الجاري سبع سنوات على بدء الثورة في سورية، شهد العالم خلال سنواتها الأربع الأخيرة أبشع المجازر، ووحشيةً لا توصف، هي نقيض كل ذلك الصفاء والنقاء والأمل الذي تعمم مع بدء الثورات في تونس ومصر. لقد أفضى انفجار الثورات في البلدان العربية إلى انتشار الأمل بتغيير العالم في كل بقاع الأرض، وأصبح ميدان التحرير المثال/ الرمز، وتجسيد هذا الأمل. ظهر لكأن شعوب العالم تريد التغيير، لكنها تعيش حالة يأسٍ، كسرها هذا الانفجار الكبير في البلدان العربية، لهذا باتت الثورة ممكنة، والأمل في التغيير ليس ممكناً فحسب، بل مؤكد كذلك.
لماذا هذه الوحشية؟
أمل ثوري عمّ العالم، ربما كان لا بد من أن يتفتت. ومن هذا المنطلق، لا بدّ من أن نفهم كل ما جرى في سورية، ونعرف سبب الوحشية التي مارسها النظام، وروسيا وإيران تحت أنظار العالم، الذي لم يفعل سوى التنديد والشجب شكلاً، وغض النظر عما يجري فعلاً. لم يكن الموقف العالمي ناتجا عن عجز، ولا نتيجة لا مبالاة، على العكس كان فرحاً بما يجري، ولقد اشتغلت دول إمبريالية على “النكز” و”اللعب” لكي تزداد الوحشية.
المؤسف أنه جرى النظر إلى الثورات في البلدان العربية منفصلا كل منها عن الأخرى، وجرت معالجة وضع كل منها بشكل مختلف عن الأخرى، وحتى المواقف اختلفت من ثورة إلى أخرى. بينما نظر كل العالم الإمبريالي إليها سياقا واحدا، وانفجارا موحدا. ولهذا عمل على التصدي لها باعتبارها مسارا ثوريا هدَّد النظم العربية التابعة، وهدَّد بأن ينتقل إلى مناطق أخرى في العالم. وفي كل الأحوال، أعطى الأمل في التغيير، هذا الأمر الذي باتت شعوب كثيرة تحتاجه. فالرأسمالية في أزمة انفجرت في 15 سبتمبر/ أيلول سنة 2008. وحين بدأت الثورات (كانت نتاج هذه الأزمة)، كانت أميركا تشعر بالعجز عن حلّ أزمتها تلك، وظهر لها أنه ليس ممكنا حلها أصلاً. ولهذا كان يعني بدء الثورة هنا، في الوطن العربي الذي ظل الغرب ينظر إليه على أنه متخلف ومهمش وعاجز عن التغيير، أنها سوف تنتقل رغماً عن الرأسمالية إلى بلدان كثيرة في عالم مأزوم، ويعاني من المشكلات نفسها (البطالة، الفقر، التهميش والاستبداد، وكذلك النهب الذي تمارسه الطغم الإمبريالية). هذه الأزمة هي التي حدَّدت كيفية تعامل العالم مع هذه الثورات.
عملت أميركا على تحقيق تحوّل سريع في تونس يمتصّ الانفجار، ويرسي بديلاً يوهم بتحقيق تغيير، ويكون أساسه هو الانتخابات وتعزيز الطبقة المسيطرة بقوة “لها شعبية” (أي حركة
“عملت أميركا على تحقيق تحوّل سريع في تونس يمتصّ الانفجار، ويرسي بديلاً يوهم بتحقيق تغيير”
النهضة). وأكملت ذلك في مصر أيضاً بالعمل على تحقيق تغيير سريع، ووفق المنظور نفسه. لقد أرادت في هذين البلدين الالتفاف السريع على الثورة كي لا تمتدّ، لكنها امتدت إلى اليمن والبحرين وليبيا ثم سورية. وبهذا باتت مواجهتها تحتاج إلى سبيل آخر: العنف. لهذا سحقت السعودية الثورة في البحرين، وناورت لمنع انتصار الثورة اليمنية، بينما تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا كـ “داعم للثورة”، لكنه ظهر قوة تدمير هناك. ولعبت السعودية الدور المباشر في البحرين واليمن، لكنها لعبت الدور غير المباشر في سورية، حيث كانت معنية مباشرة بوقف الامتداد الثوري، لأنها اعتقدت أنه سيصل إليها. وبدت روسيا خائفة من الثورات، كذلك إيران التي شعرت أنها ستفقد “حليفها” السوري، وممرها إلى لبنان. وأيضاً أوروبا التي تلمست بعض امتدادات الثورة إلى إسبانيا واليونان.
لهذا كانت كل الدول العربية، والإقليمية والإمبريالية، تسعى إلى أن يتوقف هذا “الجنون”، وأن تسحق الثورة قبل أن تتوسع فتهدد بلدانها، والرأسمالية ككل. في ليبيا، أُدخلت في متاهة صراعات محلية هي امتداد لصراعات إقليمية ودولية. وفي اليمن، بعد إزاحة علي عبدالله صالح بمجهود كبير، فجّر الوضع بالتحالف مع الحوثيين، فتدخل “التحالف العربي”، الذي أكمل تدمير اليمن، وتفكيكه، بحجة محاربة الحوثيين والنفوذ الإيراني. لكن سورية كانت “الكنز” الذي يحقق أحلام الرأسمالية والطغاة، حيث تحكمها مجموعة لا مانع لديها من أن تمارس أبشع الوحشية، فقد شهد العالم مجازر سنة 1982، ويعرف أن النظام القائم يمكن أن يكرّرها في مجمل مناطق سورية. ولقد رفع شبيحته شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وهذا جميل لرأسمالية مأزومة وخائفة من توسّع كبير في الثورة. ولتحقيق ذلك، اشتغلت أطراف متعددة، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، لإيصال الصراع إلى ما نشهده اليوم.
أوهمت أميركا منذ البدء أنها تتدخل، أرادت أن تشوه الثورة، وتعطي مبرّراً للنظام لكي يسحقها تحت شعارات وطنية تؤثر في الشعب السوري. واشتغلت السعودية على دعم النظام في “السر”، فساعدت على أسلمة الثورة كما أراد النظام. وعملت قطر وتركيا على الأسلمة، بعد أن فشلا بإقناع الأسد بـ “الإصلاح”. وكل هؤلاء شوهوا الكتائب المسلحة التي ردت على وحشية النظام، بأسلمتها وربطها مالياً، وتعزيز التناقضات فيما بينها. وكل هؤلاء “شربكوا” المعارضة بهم، وأخضعوها لتكتيكاتهم، فباتت تابعة لسياسات نظم. وإذا كانت أميركا تبدو أنها تريد لمجلس الأمن أن يتخذ قراراتٍ “حاسمة”، فقد كانت فرحة بالفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن. في المقابل، تدخلت إيران بقوات من حزب الله أولاً، ثم بقوات عراقية وأفغانية وباكستانية، ومن ثم من الحرس الثوري، لدعم النظام تحت أعين “أعدائها”: أميركا والدولة الصهيونية. وأتت القوات الروسية بعد لقاء شديد الودية بين الرئيسين، باراك أوباما وفلاديمير بوتين، ساعات قليلة قبل إعلان التدخل العسكري الروسي، فروسيا تخشى الثورة، لهذا صرّح وزير دفاعها، سيرجي شويغو، إن روسيا “كسرت موجة الثورات”، لكنها تريد أن تسيطر بعد أن ظهر تراجع أميركا، وإعلانها الانسحاب من الشرق الأوسط.
بالتالي، في مواجهة الثورة السورية عملت أطرافٌ على تفكيكها وتشويهها، وأخرى مارست أبشع الوحشية ضدها. وكان يجب أن تُمارس أبشع الوحشية لـ “تأديب” شعوب العالم، وإفهام هؤلاء أن الثورة ممنوعة، وأن من يقوم بها سوف يسحق بكل الوحشية التي مورست في سورية. هذا ما كانت تريده الدول الإمبريالية من أميركا إلى روسيا، ولقد منعت محاسبة النظام، على الرغم من كل التقارير التي أصدرتها هيئات دولية، ولهذا كانت “الدبلوماسية” هي التغطية على المجزرة، وظلت التصريحات “الغربية”، والتنديد العالمي بلا معنى، بالضبط لأن هذه الدول كانت تريد التمويه فقط، لكنها في الواقع كانت تدعم المجزرة.
كان يجب تأديب شعوب العالم في وضعٍ تعيش الرأسمالية أصعب أزماتها، وكانت روسيا “حصن الرجعية” الذي تولى المهمة بعد فشل النظام السوري، وإيران بكل قواتها التي حشدتها. وبهذا، التقت وحشية النظام مع وحشية النظام العالمي، وأداته روسيا، في مرحلة أزمةٍ عميقة تعيشها الرأسمالية.
حرب ضد العالم
بهذا أصبحت الثورة حرباً ضد العالم، ولم تعد حراكاً يسعى إلى تغيير النظام فقط. حققت تحولاً بعد عام من بدئها ظهرت نتائجه نهاية سنة 2012، حيث توضّح ضعف النظام وتخلخل بنيته. وذلك كله بزخم الحراك الشعبي الذي بات يُدعم بعمل عسكري، وقبل الوجود الفعلي لجبهة
“كانت الدول العربية، والإقليمية والإمبريالية، تسعى إلى أن يتوقف “الجنون”، وأن تسحق الثورة قبل أن تتوسع”
النصرة و”داعش”، وكل المجموعات السلفية. تحقق ذلك على الرغم من كل الوحشية التي واجه النظام الشعب بها، حيث تكسرت قوته الصلبة (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري) وبات الجيش في حالة احتقانٍ لا تسمح بمشاركته في الصراع ضد الشعب، الأمر الذي فرض سحبه من مناطق واسعة في الشمال السوري ومناطق أخرى، ووضعه في معسكرات مغلقة.
لم يرق هذا الوضع لكل الدول التي كانت معنية بسحق الثورة، لهذا زجّت إيران بقوات حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية، والحرس الثوري على أمل سحق الثورة. واشتغلت دول إقليمية على تعزيز الطابع العسكري للثورة وإخماد الحراك الشعبي، مع دعم أكبر للمجموعات السلفية، ولجبهة النصرة وداعش. لقد تدخّل حزب الله علناً بداية سنة 2013 في معركة القصير، لكن دوره توسّع، وبات يُدعم بمجموعات كبيرة من العراق وأفغانستان وباكستان، والحرس الثوري الإيراني، وهو الأمر الذي حوّل الثورة إلى صراع مسلح وحرب حقيقية، كان الزخم الشعبي يجعلها في غير صالح كل هؤلاء، على الرغم من التركيز على دور جبهة النصرة وداعش من النظام وإيران وكل الدول الإقليمية وأميركا وحتى روسيا. وكانت هذه “خطة” محكمة أضرّت بقوة الثورة، وخدمت النظام بشكل كبير. وهنا بات الصراع ليس ضد النظام فقط، بل كذلك ضد إيران وأدواتها من طرف، وضد “داعش” وجبهة النصرة من طرف آخر. وعلى الرغم من التحالفات مع “النصرة” في بعض الأوقات، كان صراع “داعش” و”النصرة” الأساسي هو ضد قوى الثورة، حيث عملت جبهة النصرة على قضم المناطق “المحررة”، وتصفية الكتائب المسلحة الواحدة بعد الأخرى.
على الرغم من ذلك كله، لم تستطع إيران وما تبقى من قوات النظام حسم الصراع. على العكس، ظهرت هشاشة وضعهما حينما قرّرت دول إقليمية (السعودية، قطر وتركيا) تعديل ميزان القوى، بما يفرض تحقيق حل سياسي، من خلال تحقيق “توحيد” لعدد من المجموعات (أحرار الشام وجبهة النصرة وغيرهما)، حيث انهارت قوات إيران والنظام بسهولة ربيع سنة 2015 وصيفها. وكانت تناقضات المصالح هي التي فرضت هذا الدور لهذه الدول، والتي ظهرت في الصدام التركي الروسي بعدئذ، وعقد التفاهمات الروسية السعودية والخليجية عموماً، ومع تركيا. لقد ظهر عجز إيران والنظام عن الحسم، بل إنهما أخذا في الانهيار. لهذا هرع قاسم سليماني إلى موسكو، لكي يحثها على التدخل. بالتالي، إذا كانت الثورة قد هددت وضع النظام، وكان ممكناً أن تفرض تغييره، فقد أدت الثورة، بدعم إقليمي محدود، إلى هزيمة إيران
“أصبحت الثورة حرباً ضد العالم، ولم تعد حراكاً يسعى إلى تغيير النظام فقط”
وكل أدواتها، حيث ظهر عجزها عن حماية النظام وضمان استمراره. بالتالي، انتقل الصراع إلى أن يكون مع روسيا بكل تفوقها العسكري، لكن قبل الإشارة إلى ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أدوار تركيا وأميركا التي كانت تخدم سحق الثورة. أميركا التي كانت تلعب بـ”داعش” في العراق، ومن ثم في سورية، لكي تتدخل من أجل أن تحوز على ورقة مساومة مع روسيا، بعد أن وكَّلت روسيا بسورية. ولقد أعلنت أنها لا تريد إسقاط النظام، على الرغم من أنها كانت تناور لإطالة أمد الصراع، وعملت على تحويل كتائب تقاتل النظام إلى قتال “داعش” فقط، وكان هذا هو شرط دعمها، وشلّت الجبهة الجنوبية، ومن ثم سيطرت على شرق سورية وشمال شرقها، ووضعت يدها على آبار النفط في إطار المساومة مع روسيا. أما تركيا فقد انطلقت من مصالحها، لهذا حوّلت نشاط كتائب مسلحة من قتال النظام إلى قتال “داعش”، ثم قتال قوات سورية الديمقراطية، حيث انطلقت من أولوية منظورها من دون اعتبار لوضع الشعب السوري، على الرغم من كل البكاء عليه. وهنا، تجب الإشارة إلى تصاعد دور الصراعات الإقليمية والدولية، وميل كل الأطراف إلى أن تحقق مكاسب على حساب الشعب السوري.
إذن، بات الشعب السوري يواجه، بأشكال مختلفة، ما تبقى من النظام وإيران، بكل أدواتها وقدراتها العسكرية، ومن ثم روسيا بكل تفوقها، حيث استخدمت أحدث الأسلحة، وجرَّبت أكثر من مائتي سلاح جديد فائق التأثير، وباتت هي القوة التي تقود الصراع الفعلي ضد الشعب السوري. بالتالي، تحولت الثورة التي بدأت ضد النظام إلى صراع مع دول إقليمية، وتراكب عليها صراع إقليمي، ثم إلى صراع ضد قوة عطمى تمارس كل وحشيتها، وتحظى بتصفيق كل الدول الأخرى، التي تعاونها بأشكال مختلفة. هو صراع الشعب السوري ضد العالم.
لا انتصار للنظام وإيران وروسيا
هل تستطيع روسيا سحق الثورة؟ على الرغم من كل المساعدة التي تُقدَّم سراً وعلناً من كل العالم، فإن روسيا لن تنتصر. ربما تستطيع تصفية كل الكتائب المسلحة، لكنها لن تستطيع تكريس النظام. لقد انقطعت الصلة بين الشعب والنظام، سواء ممن بقي تحت سلطته، أو من
“ما تقوم به روسيا وقام به النظام هو قتل الشعب أو تشريده، أو هروبه، خصوصاً الشباب منه”
عاش في المناطق الخارجة عن هذه السيطرة، أو المهجّرين خارج سورية. فقد بات وحشاً، لكن بلا قوى، بعد أن فقد معظم الجيش وتفكك بنية السلطة. وبات وجوده معتمداً على وجود قوات إيران وروسيا، لكنه وجود سيكون قلقاً، لأنه سيبقى معرضاً للهجوم والمواجهة. وهو أمر يستنزف روسيا وإيران، ويمكن أن يكون وضعاً مناسباً في الصراعات العالمية، لجرّ روسيا إلى مستنقع جديد. ما تقوم به روسيا وقام به النظام هو قتل الشعب أو تشريده، أو هروبه، خصوصاً الشباب منه. بالتالي، هو يفقد القدرة على بناء جيش أو قوة أمنية، ولا يستطيع إعادة بناء السلطة بالقوة التي كانت عليها، أو حتى ربعها، وبالأساس ستبقى سلطة بلا قوة. ولن يفيدها الاعتماد على روسيا وإيران زمنا طويلا. بالتالي، بات وضع سورية يتحدَّد في إما النظام أو الشعب، أي إما بقاء النظام وبالتالي استمرار الصراع وجرّ روسيا إلى مستنقع، أو فرض بديل عن النظام يسمح بعودة المهجرين وإعادة بناء الدولة. ولا شك أن إنهاء احتلال روسيا يقع ضمن هذا الحلّ، فهي التي وقعت اتفاقات إذعان “تشرعن” ذلك، على الرغم من أن كل الوجود العسكري الإمبريالي والإقليمي هو احتلال يجب أن ينتهي.
لم يكن السلاح هو الثورة، فقد تمرّد الشعب من أجل إسقاط النظام، وسيبقى متمرّداً، لكن سيبقى للسلاح دور ضد بقايا النظام، والاحتلالين الروسي والإيراني، وكل الاحتلالات الأخرى. لقد نشأ جيل من المقاتلين، ومن الثوريين الذين اكتسبوا خبرة، فليس الجيش الروسي وحده من اكتسب خبرة في حربه ضد الشعب السوري، كما صرّح بوتين. وهذه الخبرة سوف تنتج ثورة أكثر جذرية، وتنظيماً وفاعلية، بلا أسلمة ولا تبعية لدول لها مصالحها، وهي ضد الثورة بالأساس.
العربي الجديد

 

الثورة السورية في عامها الثامن/ عمار ديوب

نقاشٌ سوريٌّ لا ينفك يتجدّد: هل فشلت الثورة، أم انتصرت، أم لم تفشل ولم تنتصر؟ خارج هذا النقاش من شكّك بها منذ البداية، وأيضاً ليس مهماً التمييز بين مصطلح الثورة أو الانتفاضة الذي يصرّ عليه بعضهم. وطبعاً هناك تفسيرات لدى أصحاب هذه الآراء المتعددة، وهذا ربما يكون مهما.

المهم، حالياً، هو رصد الواقع كما هو، ولنقل وفق توضّعه بوقائع موضوعية؛ فالواقع الآن يؤكد أن سورية أصبحت محكومة باحتلالات خارجية. الشعب المحكوم هذا يعاني من تهجير تجاوز العشرة ملايين، والباقون في سورية محكومون بثلاث سلطاتٍ؛ فهناك من تبقوا من الشعب عند النظام، وهناك المحكومون بسلطاتٍ تُعلي الدين مرجعية لها، وقد قَمعَت هي بعد النظام المجموعات الثورية “العلمانية”، ولم تعد المظاهرات الشعبية الهامشية، والتي كان وجودها دليلاً على استمرار الثورة، ضد النظام بقدر ما أصبحت ضد سلطة جبهة تحرير الشام، وجيش الإسلام، وسواهما. وهناك سلطة الحزب الشمولي الكردي، والذي يتوهم أنّه يُقيم حُكماً على مناطق واسعة من سورية، وهو أداة سياسية لدولٍ كثيرة: لصالح النظام، وللروس تارة وكذلك للإيرانيين، وشراكته الكبرى مع الأميركان! هذا الحزب يخوض خصومة كبيرة ضد كل الأحزاب الكردية، ومع قطاع شعبي كردي كبير ورافض له، عدا عن تعميقه الخلاف مع العرب.

أصبح النظام الذي ثار عليه الشعب، بمختلف مؤسساته، خاضعاً للروس أو للإيرانيين

و”عملائهم”، وتحطمت أغلبية قواته العسكرية والأمنية، وفاعليتُها مستمرة من جراء التنسيق مع الروس أو الإيرانيين، وهناك تيار كبير من المحللين يؤكد فقدانه أيّة استقلالية عن داعميه الخارجيين، وبالتالي أصبح مجال مساومةٍ عبر هذه الدول، ومع الدول الرافضة له ولروسيا ولإيران.

قضية الإعمار التي يتكرّر الحديث عنها، وتُطرح في إطار الوضع الحالي، تكاد تكون لجسِّ نبض الدول متضاربة المصالح على سورية، وورقة سياسية من الروس أو الأميركان أو الإيرانيين، وبالتالي لا تُطرح من زاوية التنمية أو الاقتصاد، وإنما من زاوية التوظيف السياسي وللتقاسم الاقتصادي لسورية مستقبلاً؛ فلا الأميركان بدأوا بإعمار الرّقة، ولا الروس بدأوا بذلك في حمص أو حلب أو سواها. عقود الإعمار “النهب” في النفط أو الغاز أو الفوسفات أو البنية التحتية كلها تكاد تكون مُعلقة، لما بعد التوافق الأميركي الروسي خصوصا.

الثورة بما هي مظاهرات شعبية مطالبة بإسقاط النظام لم تعد موجودة. وإمكانية تطويرها إلى ثورةٍ متكاملة وقادرة على محاصرة المدن الكبرى وإسقاط النظام انتهت؛ فأغلبية الشعب مهجرة، وبالتالي من غير المنطقي، وبوجود الاحتلالات والفصائل الإسلامية، أن نقول إن ثورة ما زالت مستمرة.

أسباب الثورة من إفقارٍ وقمعٍ واستبداد ما زالت موجودة، ويزيد في سوئها تغيّر أشكالها، أو تفتّت السلطة إلى سلطاتٍ، وكذلك وجود احتلالات خارجية. المشكلة هنا بالتحديد، فما يواجهه السوريون حالياً هي الاحتلالات، وأدواتٌ سورية من نظام وفصائل تعمل لديها، ويتم إنهاء كل استقلالية لها، لتنصاع بشكل كامل.

الشعارات التي يرفعها بعض السوريين، كإيقاف الحرب أو القتل بسبب الهمجية على الغوطة الشرقية وسواها، هل المقصود بها التسليم للنظام بحكم سورية كما يزعمون؟ أم المقصود بها، وقد أصبحت البلاد محكومةً للخارج، أن المخرج الممكن هو إيقاف حروب الآخرين على الأرض السورية، والبدء بحل سياسي، يهيئ الأرضية للمرحلة الانتقالية. رفض شعاراتٍ كهذه بحجة أنّها تخاذل وتسليم بانتصار النظام، والخضوع له مجدداً، يوضح أن هذا الفهم قاصر، ولا يرى الواقع، ويقف تفكيره عند “أوهام” إسقاط النظام، بينما الوضع تغير برمته. ولكن هل من بديل، وقد تعاظم الدمار للغوطة الشرقية خصوصا، وهي آخر المناطق التي يخافها النظام! وكذلك لعفرين. هل تكرار القول بضرورة التدخل الخارجي أمر عقلاني؟ هل يعقل، وبعد كل هذه الاحتلالات، أن يقال بهذا التدخل وألّا يُقرأ التدخل (الأميركي، الروسي، التركي، الإيراني) الموجود احتلالا، وأن ليس من تدخلٍ مختلف، إلّا بما يوزع سورية لصالح أطراف جديدة، وهو ما سيكون في حال حصل تدخلاً جديداً لإيقاف المجزرة في الغوطة؟

تدخل الثورة عامها الثامن، والفعاليات السورية بأغلبيتها في الخارج، ولا تزال على حالتها قبل 2011؛ قوى مشتتة، ضعيفة، وغير متوافقة فكرياً وسياسياً، والأنكى كارهة لبعضها بعضاً، وتعاني من سيطرة عقلية شيوخ القبيلة والطائفة والشلّة “الأنبياء”، وبالتالي تعاني مشكلاتٍ نظرية وعملية بآن واحد.

لم تعد الثورة كما انطلقت 2011 موجودة، وسورية نفسها لم تعد موجودة، وبالتالي مواجهة

“لم تعد الثورة كما انطلقت 2011 موجودة، وسورية نفسها لم تعد موجودة”

الواقع الجديد، تقتضي مشروعاً وطنياً، يكون هدفه تشكيل هوية جامعة للسوريين، وبما يقود نضالاتهم نحو دولة لكل السوريين. الفكرة الأخيرة هذه، وعلى الرغم من تثمين الأغلبية ثورة 2011، فإن التفكير فيها كان بعقلية النظام، وهناك ما يشبه الإجماع، أن الثورة فقط كشفت الغطاء عن المستور والمخفي والمتراكم.

تختصر هذه العقلية المسيطرة كل أزمات سورية قبل 2011 بمنطق ديني وطائفي بامتياز، الثورة “سُنيّة” والنظام “علوي” وحامي الأقليات ومنها الكرد، ولا بد من التدخل الخارجي لإطاحة النظام. تفكير كهذا لا يعترف بقدرة الثورة على إسقاط النظام، وضَيّعَها، وأسقط ما حملته من احتمالات وممكنات. نعم، ساهمت المعارضة والسلطة في تشويهها، ودُفِعَ الوضع السوري برمته إلى أن يُحكم خارجياً.

تقف أمام المشروع الوطني، ومنذ 2011، رؤى وأفكار طائفية بامتياز، والآن هناك احتلالات متعددة، وهناك تيارات سياسية تحبذ الاحتلالات نفسها وتعمل معها، وهناك من يطالب باحتلالات جديدة، ويتكلم آخرون عن ضرورة وجود سلطة دولية “انتداب” تُفرض عبر مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة على سورية، وبالتالي هناك مشكلات كبرى تقف أمام إطلاق المشروع الوطني السوري؛ المشروع الذي يواجه النظام وحلفاءه والمعارضة وتشكيلاتها السياسية والعسكرية التابعة والدول المسيطرة عليها.

سورية المُتعبة في العام الثامن للثورة لم تعد فقط محتلة، وحروب الآخرين تدور في كل مدنها، ولا تلوح في الأفق توافقات دولية وإقليمية لحلٍ قريب، مشكلة سورية الحالية في غياب مشروع وطني للثورة ولسورية، ووجود تشوشٌ فكري وسياسي في كل المجالات، وتعدّديّة في التيارات السياسية الهامشية بامتياز.

العربي الجديد،

 

 

 

خسائر الأسد والمعارضة في سورية/ سميرة المسالمة

احتفى الرئيس السوري بشار الأسد بـ «انتصاره»، في استعادة السيطرة على بعض المناطق التي كان فقدها نظامه خلال حرب دامت سبع سنوات وأُجبِر خلالها على الانسحاب من أكثر من خمس وستين في المئة من الأراضي السورية، تحت ضربات «الجيش الحر» بداية، ثم بدخول تنظيمات إرهابية كـ «النصرة» و «داعش»، اللذين حققا تقدماً كبيراً داخل الأراضي السورية، سواء بعمليات انسحاب مشبوهة من القوات النظامية، أو بقتالها «الجيش الحر» واستيلائها على مواقعه التي سميت «محررة»، ومن ثم دفعه إلى الانحسار إلى مناطق محدودة. وفي المحصلة فإن ظهور هذين الفصيلين أثار علامات ارتياب كثيرة في شأن الدور المناط بهما في مسار الثورة السورية، إن في ما يتعلق بانحراف بوصلتها، وإزاحتها عن مقاصدها الأساسية، أو بطريقة عملهما وصراعاتهما ضد الجيش الحر أو حتى الفصائل العسكرية الإسلامية الأخرى، بما في ذلك سعيهما إلى خلط الأوراق داخل كيانات الثورة والمعارضة، سواء السياسية منها، أو المسلحة الملحقة بها، بدوريها الوطني، الذي استوجب الدفاع عن المدنيين في وجه قوات النظام الأمنية والعسكرية، التي استهدف المواطنين في تظاهراتهم وبيوتهم وعملهم، أو بالدور الفصائلي، المتعلق بالأجندة الإيدلوجية الموجهة وفق الدول الداعمة لها.

ويسيطر اليوم النظام السوري مع حليفتيه إيران وروسيا الداعمتين له في حربه ضد الشعب السوري الراغب في التحرر من حكمه، على ما يقرب من 55 في المئة فقط من مساحة سورية التي استلمها بشار الأسد من والده كرئيس لها عام 2000، ما يعني أن «سورية الأسد» ذات المساحة التي تفيض عن 185 ألف كيلومتر مربع، التي ورثها الابن عن الأب لم تعد موجودة على خريطة الجغرافية الحالية، وأنه لا يملك السيطرة الفعلية حتى على نصف المساحة من سوريا التي تتقاسم الهيمنة عليها جواً روسيا وبراً إيران، ما يبرر حالة التململ داخل أوساط المولاة من واقع الاحتلال غير المعلن من الدولتين الحليفتين، إضافة إلى واقع السيطرة الأميركية على ما يقرب من 23 في المئة شمالاً وشرقاً، تحت عنوان سيطرة قوات «قسد»، ويمكننا القول إن ما يسيطر عليه الجيش الحر جنوباً أيضاً يقع ضمن النفوذ الأميركي غير المباشر، بينما يذهب نحو 12 في المئة لمصلحة الجيش الحر في ريف دمشق وإدلب وشمال حلب والأخيرتين غالبيتها تحت النفوذ التركي،الذي يتوسع حالياً على حساب مساحات قوات سورية الديموقراطية، في مناطق عفرين ويتطلع إلى منبج، وتبقى داعش رغم الإعلان عن انتهاء الحرب عليها تتراوح نسبة سيطرتها بين 7 إلى 9 في المئة، ما يعني استمرار سببية وجود قوات التحالف بالقيادة الأميركية لمحاربتها.

ومع مضي سبع سنوات على انطلاقة ثورة السوريين في 2011، التي استهدفت إسقاط النظام الأمني، وإبعاد رموز الاستبداد والفساد عبر تظاهرات سلمية تستهدف التأثير في بنية النظام لإنتاج نظام جديد يقطع مع عهد الاستبداد والتغول الأمني على حقوق المواطنين السوريين ويحقق شعار «واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد»، من خلال إلغاء كل القوانين الاقصائية التي أصابت وحدة السوريين في مقتل وخاصة ما يتعلق بحقوق المكونات غير العربية جميعها، ومنها المكون الكردي الذي خصه النظام بإجراءات تعسفية، مهدت أكثر لتهيئة الأجواء لانفجار المواجهات مع النظام السوري في مناطق سكنهم (شمال شرق سورية)، ومع بداية العام الثامن، وفي ظل أشد المعارك الشرسة، التي يخوضها النظام مع حلفائه طهران وموسكو في الغوطة الشرقية ضد الأهالي المدنيين لتهجيرهم وتدمير بناهم، وفي الوقت ذاته تخوض تركيا الحليف للمعارضة حربها «التركية ضد خصومها من الكرد» على الأراضي السورية، ما وسع دائرة المأساة السورية لتعم البلاد من جنوبها حتى شمالها، ما يعني أن السوريين مطالبون بإعادة ترتيب مصطلحات ثورتهم، وتمييزها عن المخالطات التي أقحمتها المداخلات الإقليمية والدولية والمخابراتية، وأصبحت عبئاً على الثورة بمفهومها الإنتاجي لدولة مواطنين أحرار متساويين، كما أصبحت في مكان آخر مجتمعياً، حيث نجحت أدوات النظام في زرع بواكير إنتاج حرب على أساس مذهبي شيعي– سني، وعلى أساس قومي عربي- كردي.

وليس الحديث هنا من باب اعلان الهزائم، التي منيت بها المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، على قدر متساو مع النظام الحاكم، خلال تعرجات وانحدارات الطرق التي سلكتها في ممارساتها وارتهاناتها الخارجية، وأدلجة العسكرة الفصائلية، وأسلمتها، وضياع خطابها الوطني في ظل متناقضات الدول المتدخلة في الصراع على سورية، وتحكمها بأدواتها الفصائلية المسلحة، وانهيار منظومة التوافقات السياسية بين السوريين العام بعد الآخر، وإنما لضرورة أن نعرف أن المراجعة النقدية لمسار طويل من عمل هيئات المعارضة، الذي غرق بتفاصيل البحث في أروقة ودهاليز البحث عن مخلّص «خارجي متبرع» لإسقاط النظام وتسليم قيادة المعارضة زمام الحكم، في مشهدية توحي بسطحية التعاطي مع تقاطعات المصالح الدولية، التي سمحت لنظام الحكم في سوريا بالتعاون مع إيران ودخول قواتها إلى مناطق حدودية مع إسرائيل، كما اتاحت الفرصة للتدخل الروسي العسكري لإنقاذ نظام الحكم الذي كان حسب التصريحات الروسية قاب قوسين أو أكثر من سقوطه،ما يعني أن القضية السورية لم تعد بين طرفين محليين، وإنما هي إعادة إنتاج واقع جغرافي وديمغرافي ودولتي جديد للشرق الوسط بعمومه.

وضمن ما يجب الخوض به في إعادة تعييناتنا لمفردات واقعنا ونحن نعبر إلى عام آخر من مأساة سوريا تحت نظر العالم، هو مواجهتنا لأسئلة مسكوت عنها، من باب هل ما يجري في سورية اليوم هو ضمن سياق ثورة الحرية، أم انه ضمن عملية منظّمة عطلت تلك الثورة، وغيرت بوصلتها؟ وهل مؤسسات المعارضة السياسية هي جزء منبثق ومتكامل مع الثورة، أم أنها مفرز شبه سياسي لحرب طويلة؟ وهل المفاوضات التي تحدث اليوم في «آستانة» وقبلها وبعدها في «جنيف» و «سوتشي» وعواصم عديدة هي من أجل حل عادل لثورة شعبية هدفها الحرية، وبناء نظام سياسي جديد لا يتسامح مع أي طرف شريك في إراقة دماء السوريين، أم هي تسوية بين أمراء حرب مسلحين وسياسيين، يدفع السوريون المدنيون المؤمنون بقيم ثورتهم ثمنها، بخلع جذورهم من مناطقهم بعد أن قتل الكثير منهم وهجروا؟

إن البحث عن إجابات لا يعني التشكيك بما أنجزته الثورة من حقائق على الأرض، فالثورة ألغت مفهوم «الحكم إلى الأبد» من منظومة العمل السياسي السوري، حتى ضمن مصطلحات النظام، في حين أن النظام باستدعائه التدخل الخارجي ألغى مفهوم الجيش الوطني، وأطلق العنان «لمقص» تقسيم سورية إلى سوريات، منها، روسية، وإيرانية، ومذهبية، وترك لنفسه من 185 ألف كيلومتر مربع مساحة القصر الرئاسي فقط، في حين أن ارتهان قرار المعارضة للعامل الخارجي، ترك أيضاً مجالاً لسوريات مختلفة، منها تركية وأميركية وبابتعاد مؤسسات المعارضة عن دورها في تفعيل الحوار الوطني مع الكرد أضافت احتمالية سورية الكردية، أي ما بين إسقاط النظام الحالي «لسورية الأسد» التي استلمها عام 2000، خلال حربه على السوريين، ومابين اسقاط قيادات المعارضة لدورها في تشكيل المشروع الوطني يكون السؤال عن أي من السوريات يدافع كل طرف من أطراف الصراع في سورية؟

* كاتبة سورية

الحياة

 

 

 

من حقائق ثورة السوريين بعد سنوات سبع عجاف/ أكرم البني

إذا تجاوزنا القراءة النقدية لمسار الثورة السورية وما كرسته من عبر ودروس، ثم التحسر على مأساة لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلاً من هول الخراب وأعداد الضحايا والمشردين، وتجاوزنا الاعتراف بالهزيمة وتحميل مسؤولية ما وصلنا إليه، إن لعنف النظام المفرط أو لعسكرة الثورة أو لأسلمتها أو لفقدانها قيادة سياسية قادرة أو لسلبية المجتمع الدولي وانهزاميته، ثمة حقائق يفيد التوقف عندها، أرستها السنوات السبع العجاف من ثورة السوريين.

أولاً، لمن لا يزال يبحث عن حل سياسي للمحنة السورية، فليس من حل مرتقب، والدليل ليس فقط الفشل المتكرر لمفاوضات جنيف الماراثونية أو عودة خيار العنف ليتصدر المشهد ويغدو الفيصل في تقرير مصير أرياف إدلب وحماة وحمص والغوطة الشرقية، أو لصعوبة تحقيق تسوية مستقرة ومتوازنة في ظل تعدد وتضارب مصالح الأطراف المؤثرة بالصراع السوري، بل بسبب جوهر نخبة حاكمة ديدنها الاستمرار في السلطة وتعي أن السياسة هي مقتلها أو كعب أخيل بالنسبة إليها، ما يعني أن أي رهان على تنازلات سياسية قد يقدم عليها النظام السوري، مهما اشتد ضعفه أو الضغوط التي تمارس عليه، هو رهان خاسر، ويعني تالياً أنه سوف يذهب بخيار العنف والسحق حتى آخر الشوط، مستخدماً أشنع وسائل الفتك والإفساد ومستجراً كل من يعادي مطالب الحرية والمساواة والكرامة ليعيث قتلاً وتدميراً باجتماع السوريين، من دون أن يكترث بآلام البشر وما يكابدونه، أو بتهتك وانهيار وطن طالما تغنى بتعدديته وتعايش مكوناته، ومن دون أن يأبه بأي رد فعل دولي أو عربي، ساخراً من التهديدات الخلبية لاستخدامه مجدداً غاز الكلور في الغوطة الشرقية!.

ثانياً، وجهت السنوات السبع العجاف صفعة موجعة وربما قاتلة لظاهرة الإسلام السياسي وتالياً لاندفاعات تصدرت المشهد العربي خلال العقود الماضية، عنوانها اللجوء إلى الدين وتوظيفه سياسياً لمعالجة مشكلات المجتمع وأزماته، والصفعة لا تتمثل فقط بالهزيمة المتوقعة لتنظيم داعش وانهيار «خلافة» أعلنت الحرب على العالم أجمع، وتوهمت أن تستعيد بإرهابها المقزز ماضياً إمبراطورياً إسلاموياً، أو بنبذ شعبي وإن تأخر، لقوى سلفية جهادية، اخترقت صفوف السوريين وأفقدت ثورتهم جوهرها الوطني ورسالتها السياسية في بناء دولة المواطنة والديموقراطية، أو لجماعات إسلاموية نجحت في تعبئة قطاعات مهمة من السوريين في مواجهة النظام، لكنها تنكرت لما رفعته من شعارات وطنية ما أن استقرت سلطتها بسطوة السلاح، يحدوها الفشل الذريع في إدارة مناطقها وممارسة قمع وتمييز وفساد يقارب ما كابده الناس من السلطة السورية، بل تتمثل، وهو الأهم، بتعرية النظامين الإسلاميين في إيران وتركيا، حيث فضح تدخلهما الدموي والسافر في سورية حقيقة الراية الإسلامية التي يرفعانها، وأنها ليست أكثر من وسيلة تستخدم لتمرير مصالحهما الوضعية وحساباتهما الرخيصة بعيداً من جوهر الإسلام الحقيقي الذي ينشد خير البشر وصلاحهم… تعرية لم تقف عند تنكيلهما بالشعب السوري، عرباً وأكراداً، واستباحة أرواحه وممتلكاته وأرضه، وإنما امتدت لتشمل فشل برامجهما السياسية والتنموية التي يدعيان أنها تستند إلى اجتهادات دينية في قيادة المجتمع ومعالجة مشكلاته.

والمشهد تسعير الحروب ومعارك النفوذ الخارجية، هروباً من أزمة اقتصادية مزمنة وأوضاع معيشية خانقة أطبقتا على أرواح الإيرانيين بعد عقود من الحكم الإسلامي وحضتا مراراً على التحرك والانتفاض، ثم التفافاً من حزب العدالة والتنمية التركي على تراجع شعبيته بدليل الانتخابات الأخيرة، ربطاً بانحسار موجة الانتعاش الاقتصادي التي مكنته من الوصول إلى الحكم، وبتسعيره المجنون ضد الأكراد أينما كانوا، وبتوسل محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة لتشديد قبضته القمعية والانتقامية، ثم سلوكه المذل لاستجداء مصالحة مع إسرائيل وروسيا وربط مصالحه الإقليمية بمصالح الأخيرة.

في ما مضى، أفضت هزيمة البرنامجين القومي والاشتراكي، واستمرار ظلم الناس وتردي حياتهم وتعرض المسلمين منهم للتمييز والحرمان كما لنزعات الاستفزاز والاستخفاف الطائفيين، إلى اتساع الفئات المهمشة والمحتقنة وتوفير تربة خصبة مدت جماعات الإسلام السياسي والجهادي بأسباب النمو والتجدد، لكن اليوم، يبدو أن التجربة المريرة لهذه الجماعات وما خلفته من تدمير وضحايا وظواهر استبداد وفساد وعجز عن الانتصار لحقوق الناس والمسلمين، قد قالت كلمتها وأكدت أن خلاص المسلمين لن يتأتى من الغرق في خصوصيتهم الدينية بل من التنطح لدورهم الرئيس في الدفاع عن مصالح الناس عامة، والتمسك بما رفعته ثورتهم من شعارات تضمن للجميع حقوقهم من دون تمييز.

ثالثاً، دشنت الثورة السورية مناخاً عالمياً جديداً يقارب مناخ الحرب الباردة، وشكلت فاتحة لاستعادة روسيا وزنها السياسي وهيبتها العسكرية، مع انكفاء الولايات المتحدة وانسحابها من موقعها كقطب وحيد سيطر عالمياً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانفلات الأدوار الإقليمية لدول أقل أهمية مثل إيران وتركيا، ثم ما خلفه المشهد الدموي وتصاعد وتيرة هجرة السوريين وأذى الإرهاب الإسلاموي من شحن للروح العصبوية والشعبوية في بلدان الغرب، لنلمس عودة لسباق التسلح وتسويق أحدث الأسلحة الفتاكة، ونزاعات ديبلوماسية واقتصادية، بعض وجوهها، الاختراقات الإلكترونية والحد من حرية التجارة وتعزيز الحماية الجمركية، والأنكى حضور الصورة النمطية البغيضة لدول كبرى تستهتر بمصير البشرية وتتوسل منطق الغلبة والمكاسرة في المنازعة على الهيمنة والنفوذ من دون أن تقيم اعتباراً لمصالح الشعوب الضعيفة وحقوقها، وتالياً الصورة المخجلة لمؤسسات أممية ضعيفة وعاجزة عن تحقيق أي اختراق جدي لأداء واجبها بحفظ السلم والأمن وحماية المدنيين وحقوق الإنسان.

أخيراً ثمة حقيقة ذاتية أرستها السنوات السبع العجاف تتجاوز حزن السوريين وتحسرهم المشروعين على ما وصلت إليه ثورتهم، أو ندمهم على ما رافقها من اندفاعات وحسابات خاطئة، وتصل إلى الاعتراف الصريح بمسؤوليتهم عن دوام نظام الاستبداد والوصاية وبأن ثمن حريتهم الباهظ هو نتيجة لصمتهم وتأخرهم في النهوض ومقاومة كل أشكال القهر والتمييز.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

الطفلة اليتيمة في عيدها السابع/ ميسون شقير

هذه الطفلة اليتيمة، الطفلة التي كسروا لها ساقها، والتي قلموا أصابعها، في عيدها السابع لم تزل تحاول أن تمشي عرجاء، لكنها لم تزل تستنجد بعكاز الأمل المكسور تمشي، وبأصابع من تحب ترسم نفسها طفلة بعيون خضراء، تغني لدميتها كي تنسى الجوع، وتركض بجدائل شعرها الأسود الطويل مثل مهر وحيد، وحيد وصغير في بيت مهجور.

في عيدها السابع، تلم هذه الطفلة الشموع المتبقية في الكنائس والمساجد، ومزارات كل القديسين، تلم بقايا الشموع، وتصنع منها سبع شموع طويلة، طويلة كظلها على حائط هذه البشرية، سبع شموع حمراء، شموع لها رائحة الأطفال الذين ذهبوا كي يلعبوا في قاع البحر، الأطفال الكثيرين الذين كانوا يلعبون بيت وبيت، حين لعب البيت معهم وهوى كاملا فوقهم، الأطفال الذين يعلبون الطميمة بين الخيام، والذين يضيعون في اللعبة إلى الأبد، الأطفال الجيدون الذين ناموا جميعا دفعة واحدة وفي اللحظة نفسها، ناموا مبكراً هناك في الغوطة، والذين ناموا في حلب، الأطفال الذين ناموا بأمر من السيد الساحر، السيد الكيماوي، ناموا جميعا كي يحلموا جميعهم معا بملابس العيد، وكي يستيقظوا معا في الوقت نفسه هناك في القبور، ويذهبوا معا إلى المراجيح، الأطفال الذين منذ سبع سنين لم يدخلوا مدرسة، ولم يهربوا من الصفوف، الأطفال المؤدبين جدا، والخجولين جدا، إلى درجة الموت.

في عيدها السابع، تدعو هذه الطفلة كل العالم كي يحتفل معها، نعم كل العالم، فلديها لا مكان واسعاً جداً يسع كل هذا العالم، ولديها من الحلوى البشرية ما يكفي، تدعو العالم بصمتها الطويل، وتجهز لأطفاله الهدايا.

لا تحتار ما الذي سترتديه يوم ميلادها، هو هذا الفستان الوحيد الذي تمتلكه، الفستان المصنوع

“لا عواصم تحتفل معها بعيدها، لا عواصم تطفئ معها شمعتها السابعة”

بأيدي الأمهات اللواتي كن يغزلن الحكاية من أولها، الأمهات اللواتي جهزن لأبنائهن سندويشات الزعتر والدعاء وحشونها في محافظهن، أمهات الأطفال الذين كتبوا على حيطان مدرسة بعيدة في زمن بعيد، كتبوا كلمة واحدة وحيدة، ثم مضوا إلى الزنازين من دون أصابع.

في عيدها السابع، لا تنسى هذه الطفلة صراخ الشوارع والساحات يوم ولادتها، لا تنسى أبدا وجوه الرجال الذين كانوا يحملون دماءهم في حناجرهم، لا تنسى أصواتهم الطالعة من صوت أمها وهي تلدها، هي لا تنسى، ولا تريد أن تنسى كيف كانت كل مدينة تنادي الأخرى، وكيف كانت كل مدينة تهوي وتسقط من أصابعها، وكيف كانت تعدهم كل يوم، وتخطئ حين لا تجد يدها، ولا تنسى بيتها الصغير، الصغير جدا مثل هذا العالم.

لا تجد الطفلة اليتيمة في عيدها السابع قمرا في ليلها، كي تودعه اسمها، ولا تجد غدا تمد إليه يدها كي تكبر قليلا، هي فقط لم تزل تغسل أحلامها بالملح، ولم تزل تجهز الأغاني، والأعلام، وأحلام الراحلين بعودتهم، وأحلام الباقين بالرحيل، تجهز وحل العالقين هناك على الحدود الفاصلة بين الموت والحياة، تجهزه كاملا كي تطلوا به كل الخرائط التي شاهدتها يوما، الوحل الذي ينمو الآن في أسماء البلاد الكبيرة، وحل العالم الأسود الذي نما في الرايات وفي العقول، وفي كل الصور التي تشاهدها على كل المحطات، الوحل الذي ينمو حتى في أفلام الرسوم المتحرّكة، الرسوم التي لم تعد تتحرّك.

لا عواصم تحتفل معها بعيدها، لا عواصم تطفئ معها شمعتها السابعة، فقط الشوارع والساحات في بلدها، تعجن لها كعك عيدها الطيب، وتشويه لها على حطب الأحلام الجافة، والمقطعة.

في عيدها السابع، تجلس هذه الطفلة وحيدة على شاطئ حزنها، تلبس دميتها الوحيدة فستانا ذا صدر أخضر وذا خصر أبيض، وتنورة حمراء طويلة، تربط على الخصر فوق الأبيض زنارا من ثلاث نجمات، وسماء كبيرة، تمشط لها شعر أحلامها، تهدهدها. تحصي ما تبقى لديها من حكايات، تقصها عليها، كلها، ثم تغني لها طويلا كي لا تنام.

العربي الجديد

 

 

لماذا تنجح الثورات وتفشل؟/ مروان قبلان
شهد العالم العربي على امتداد العام 2011 ثوراتٍ وانتفاضاتٍ، بدأت كلها في سياق واحد، وبدوافع متشابهة، لكن كلا منها سلك بعد ذلك طريقا لا يشبه الآخر. في تونس، نجحت الثورة في إسقاط النظام سلميا، ونشأ عنها نظام توافقي منتخب، يواجه تحدياتٍ، لكنه يحاول النهوض مع غياب الدعم الخارجي. في مصر، نجحت الثورة في إطاحة رأس النظام، لكن قوى النظام القديم قامت بهجوم مضاد، واستعادت السلطة بانقلاب عسكري. في ليبيا، قامت الثورة، لكن النظام لم يسقط إلا بتدخل عسكري خارجي مباشر، دخلت بعدها البلاد في نزاعات أهلية (قبلية – جهوية.. إلخ) ما زالت مستمرة. في اليمن، تمت إطاحة رأس النظام وعائلته، عبر وساطة خارجية، لكن التحالف السياسي الذي أطاحه لم يستطع، مع قوى الثورة، إنتاج توافق وطني يؤسس لنظام جديد، فانتهت الثورة بانقلابٍ سيطر فيه الحوثي على صنعاء، ما استجلب تدخلا عسكريا خارجيا لإطاحته، والحرب مستمرة. في سورية، بدأت الثورة ضد النظام سلمية، استخدم النظام العنف الغاشم لقمعها، تسلحت الثورة، استعان الجميع بقوىً خارجية، ودخلنا في حرب وكالة، وانتهت الثورة بتقسيم البلاد مناطق نفوذ، وتشريد أهلها.
لعبت ظروف كل بلد، وتركيبته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأهميته الجيوسياسية ووفرة موارده الطبيعية من عدمها، دورا رئيسا في تحديد الطريق التي سلكتها كل ثورة، على الرغم من أن دوافعها جميعا واحدة (فقر – ظلم – فساد – استبداد- بطالة الشباب- انسداد أفق
“الأنظمة العربية، في غالبها الأعم، تستمد قوتها من الدعم الخارجي”
سياسي). وفي أربع من الحالات الخمس التي عصفت بأنظمتها رياح التغيير، نجحت الثورة في إطاحة النظام أو رأس النظام، وإن فشلت ثلاثة منها في إنتاج بديل متماسك، فحصل إما ارتكاس إلى استبداد أشد من السابق (مصر)، أو دخلت البلاد في حالة من الفوضى والحروب (ليبيا واليمن)، أما في الحالة الخامسة (سورية)، فقد امتنع النظام عن السقوط، ولم تتمكّن الثورة أبدا من تجاوز خط المرحلة الأولى، حتى تحصل على فرصة تجريب إنتاج بديل، لماذا؟
يجد المجتمع، أي مجتمع، نفسه في حالة ثورة عند اجتماع عدة عوامل، يشترط حصولها في وقت متزامن. أولها حدوث أزمة اقتصادية خانقة على خلفية موجة تحديث واسعة، تكون نتيجتها صعود جيل أكثر شبابا وتعليمًا، ينشأ عنها فرق شاسع بين التطلعات والإمكانات (ambitions and resources). وثانيها، حصول انقسام داخل النخب الحاكمة بشأن كيفية التعاطي مع الأزمة. وثالثها توفر القدرة لدى قوى التغيير على التعبئة والحشد ودفع الجماهير إلى الشارع للاحتجاج. ولأن الأنظمة العربية، في غالبها الأعم، تستمد قوتها من الدعم الخارجي، يعد انقطاع الدعم عنها شرطا لازما وضروريا لإسقاطها. من المهم إذا، حتى تنجح ثورة في إسقاط نظام أن تتوفر لها العوامل الداخلية المذكورة مع دعم خارجي للتغيير، أو أقله عدم ممانعة فيه.
في مصر، نجحت الثورة في إسقاط حسني مبارك، لتوفر جميع العناصر السابقة، فالوضع الاقتصادي الصعب، وانغلاق الأفق الاقتصادي والسياسي أمام قوى الشباب، ونجاح الحركات الاجتماعية وقوى التغيير في الحشد والتعبئة، ودفع كتل جماهيرية كبيرة إلى الشارع، وصمودها فيه، ومعارضة الجيش فكرة التوريث، ما ضمن حياده، وأخيرا تخلي الأميركيين عن مبارك، أدى ذلك كله إلى نجاح الثورة.
في اليمن، توفرت العوامل نفسها تقريبا، إذ انقسمت النخب، وانشق الجيش، واستمر الشباب في الاعتصام والاحتجاج والضغط، ما أقنع السعودية، حليف علي عبدالله صالح الإقليمي الرئيس، بالتخلي عنه، ودفعها به وبعائلته إلى الخروج من المشهد، من طريق المبادرة الخليجية، بهدف تأمين انتقال سلس، يبعد قوى الثورة عن المشهد، ويعيد إنتاج النظام السياسي، إنما من دون صالح.
في تونس، حصل انقسام بين النخب أيضاً، وتجسد في وقوف الجيش على الحياد، واحتشدت الجماهير التي ملت فساد بن علي واستبداده، وصمدت في الشارع، دافعة به إلى الهروب، كما تخلت فرنسا، بعد أن فقدت الأمل في إمكانية بقائه، عن حليفها بن علي، بعد أن دعمته بقوة في أيام الثورة المبكرة.
في ليبيا، اختلفت الأمور، إذ لم تكن العوامل الداخلية تساعد كثيرا في إنجاح ثورتها، على الرغم من أنها جاءت في سياق ثورات الربيع العربي، وقامت بدوافعها نفسها. فقد تركزت الثورة في مناطق شرق البلاد التي عانت من تهميش، وشاركت فيها قبائل دون أخرى، ما أعطاها طابعا جهويا، ولم يحصل انشقاقٌ كبير يمكن اعتباره بين النخب الحاكمة (انشقاق مندوب ليبيا الدائم في الأمم المتحدة لم يترك أثرا داخليا مهما في بنية النظام وتحالفاته القبلية والجهوية)، كما ظلت سيطرة معمر القذافي على مصادر القوة والثروة شديدة عبر كتائب وأجهزة مواليه له، يقودها أبناؤه. جعل ذلك كله احتمال نجاح الثورة في إسقاط النظام شبه معدوم تقريباً، لولا أن حصل التدخل الخارجي. إذ وجدت قوى إقليمية ودولية عديدة الفرصة سانحة للتخلص من نظام “شاذ” في تفكيره وسياساته، وأسلوب حكمه، وإقامة نظام بديل أكثر استعدادا لمراعاة مصالحها في البلد الغني بالنفط. فسارعت الدول الغربية عبر مجلس الأمن إلى حفر قبر النظام بإصدارها قرارين (1970-1973)، نص الأخير منها على وجوب حماية المدنيين، استخدمته قوى التحالف في إطاحة القذافي.
مثل ليبيا، غابت في حالة سورية بعض أهم عناصر نجاح الثورة، صحيح أن الأزمة الاقتصادية كانت قد بلغت ذروتها نهاية عام 2010 مع تكرار مواسم الجفاف، وصحيحٌ أن أعدادا غفيرة
“يجد المجتمع، أي مجتمع، نفسه في حالة ثورة عند اجتماع عدة عوامل، يشترط حصولها في وقت متزامن”
من الناس نزلت إلى الساحات العامة في مدن كبرى، كحماة وحمص ودير الزور وفي بعض الأحياء الطرفية من دمشق وحلب، إلا أن هذه الكتل لم تستطع الصمود طويلاً في الشارع، نتيجة العنف الشديد الذي استخدمه النظام في مواجهتها. كما أن انشقاقات كبيرة داخل النخبة الحاكمة لم تحصل. وحتى عندما حصلت، لم يكن تأثيرها مهما في بنية النظام العسكرية أو البيروقراطية، فانشقاق رئيس الحكومة، رياض حجاب، لم يترك تداعياتٍ كبيرة، لأن منصب رئيس الحكومة في سورية إداري، أكثر منه سياسي (موظف بمرتبة رئيس وزراء)، كما أنه لا يعد من مراكز القوة الرئيسة في البلاد، المحصورة في سلطات الرئاسة وجهاز الدولة الأمني والعسكري. ولم يترك انشقاق عدد ليس قليلا من الضباط أيضاً أثرا مهماً في بنية النظام العسكرية، ذلك أن الانشقاقات كانت إما فردية (وليس على شكل ألوية أو فرق كما حصل في اليمن مثلا) أو أن المنشقين لم يكونوا من مرتبات وحدات قتالية مهمة أو عاملة، باستثناء العميد مناف طلاس، الذي لم يعلن أبداً انشقاقه على أية حال، بل كان كثير منهم يخدم في أعمال إدارية. وفي العموم، ظلت المؤسسة الأمنية والعسكرية متماسكة، وتقف بقوة خلف النظام. أما الدعم الخارجي فقد ذهب عندما جاء بالاتجاه المعاكس إلى الحالة الليبية. حيث كان حلفاء النظام مستعدين للدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة. وواقع الحال أنه في أكثر الثورات التي يحصل فيها تعادل بين قوى النظام القديم والقوى الساعية الى التغيير، يلعب التدخل الخارجي الدور الأكبر في تغيير موازين القوى وتغليب طرفٍ على آخر. وهذا ما حصل في سورية، وهذا ما جعل الثورة فيها، بعكس الحالات الأخرى، تفشل في تخطي مرحلة إسقاط النظام.

العربي الجديد

 

 

 

عن الثورة.. في عيدنا السابع/ غالية شاهين
ربما لم تكن مصادفة أن تشتعل أغصان سورية بأزهار الثورة السورية في آذار، فأي زمنٍ آخر لم يكن ليكون أنسب منه للبدايات.. كل البدايات، تلك التي لا تكاد تنطفئ وتتعرّى لنظنّها قد جفت، حتى تطلق النسغ كل آذار من جديد.
في عيد ميلادها السابع، تئن الثورة السورية تحت أنقاض بيوت الغوطة الشرقية، ليخرجها رجالها جريحة مدماة، لكنها حيّة.
في عيد ميلاها السابع، تصيح الثورة السورية من داخل معتقلات نظام الأسد، تكزّ على أسنانها الغضة بعد كل اغتصاب، لكنها تمزّق ليل المعتقل بصراخها، لتقول لنا إنها لم تزل حيّة.
في عيد ميلادها السابع، تمسكنا من أنفاسنا، وتشد شعر أحلامنا وتهزّنا بكل قوّتها لنُسقط عن ذاكرتنا الغبار، ونُعيد النظر مرات ومرات قبل أن يتجرأ أحدنا، ويعلّق على روحه، أو حتى على جداره الافتراضي، ورقة نعوتها.
ما يحييه السوريون في آذار منذ 2011 ليس عيداً للثورة بمفهومها الواقعي، حراكا شعبيا جامحا فقط، بل هو عيد لاستعادة تفاصيل أعمق لامستها الثورة، فأعادت صياغتها وخلقها. حيث لم يكن لآذار في “سوريا الأسد” ما قبل الثورة نكهة الحياة، ولا طعم تجددها، بعد أن غيّب النظام الدكتاتوري كل أعياده، وشوّهها عن قصد.
لم يكن يوم الثامن من آذار عيدا للمرأة السورية المسلوبة الحقوق والمهمّشة، كما الرجل السوري، بل كان يوم احتفال بفرض سيطرة الأسد الأب علينا في “ثورة الثامن من آذار”، يتكفّل خلاله “الاتحاد النسائي” بتمزيق مفهوم المرأة الحرة والمستقلة، وترسيخ النموذج الممسوخ والمستلب والمنافق منها.
لم يكن يوم الحادي والعشرين من آذار ليتجرأ على إعلان نفسه عيدا للخصب، أو نيروزا كامل الاشتعال، حيث ينشغل إعلام النظام وأبواقه بحصر الحدث في عيد الأم العربي، ليس رفعا
“نحتفل مع الثورة بعيدنا السابع، نحتفل بأنفسنا، بسوريتنا، بانتصارنا على هذا العالم، فقط بأننا لم نمت بعد كما يشتهي”
لقيمة الأم، أو اهتماما بها، بل لحصر الاحتفال بحدث واحد، لا يُسمح لأحد بالاحتفال بغيره.
لم يكن يوم السادس والعشرين من آذار قادرا على الاستمرار بإحياء ذكرى وفاة سلطان باشا الأطرش، قائد الثوة السورية الكبرى عام 1925 والرمز الممثل للوحدة الوطنية والإرادة الشعبية المقاومة للاحتلال، حيث قام نظام الأسد، ضمن سياسته الممنهجة في طمس وتغييب كل الأسماء الوطنية، بل ومحوها من الذاكرة الشعبية، بمنع الاحتفال بهذه المناسبة تحت قوة الرصاص.
لم يصبح لآذار نبض حياة قبل 2011، ولم نعرف، نحن السوريين، معنى الولادة والانبثاق والحقوق والحرية قبل هذا التاريخ.
بعد انطلاق ثورة الحرية في آذار 2011، احتفلنا بها في 15 أو 18 من هذا الشهر، صار لعيد المرأة وقع آخر، أدركته النساء السوريات، عندما أدركن أن لهن أصواتا لم يسمعنها من قبل، وعندما عرفن أنهن قادرات، على الرغم من حجم الموت الهائل الذي يحيط بهن اليوم، على منح الحياة لكل من حولهن في أصعب الظروف، وأشدها تعقيدا.
بعد الثورة، وعلى الرغم من كل اليأس الذي أحدثه، وما يزال، إنكار العالم إبادة الحياة التي يتعرّض لها السوري اليوم، صار الربيع يتفجّر في الواحد والعشرين من آذار، ويتدفق من قلوب السوريين وأغنياتهم علانية، ومن دون أي قيود، وعاد نيروز ليشتعل على قمم أرواحنا التي طاولت السماء، فيطلق للعالم شارة البدء من جديد. وعاد الكردي ليصدح على أنغام بزقه، وبقصائد ترتدي كلماته وتزهو بها.
بعد آذار الثورة، استعاد السوريون تاريخهم، ونفضوا عن أسماء رجالاتهم رماد سنين الأسد، ليستعيدوا وجوههم القديمة الجميلة، ويلقوا عنهم تلك الأقنعة التي يصرّ العالم أن يُلبسهم إياها اليوم، ليراهم شعبا كاملا من الإرهابيين والقتلة، فيبرر لنفسه السماح للأسد بقتلهم جميعا.
لم تكن الثورة وحدها من وُلد في آذار، فقد وُلدنا جميعا من جديد، حين سمعنا أول مرة صراخنا، ونحن نستنشق أنفاس الحرية الأولى.
اليوم، وعناداً بالموت والدمار والمجازر.. وعلى الرغم من سقوط كل شعارات العالم الإنسانية الجوفاء، نحتفل مع الثورة بعيدنا السابع، نحتفل بأنفسنا، بسوريتنا، بانتصارنا على هذا العالم، فقط بأننا لم نمت بعد كما يشتهي. نحتفل بتجدد النسغ فينا، وإطلاقنا عصيانا مفتوحا ضد الظلم والاستبداد.
هذا الـ “آذار” وكل آذار.. سنحتفل بأننا وثورتنا.. أحياء.
العربي الجديد

 

 

سبع سنوات قاسية ولم يسترح السوريون بعد/ عبدالباسط سيدا

كنا في زيارة إلى القاهرة ضمن وفد المجلس السوري، منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2012، وفي لقاء مع الصحافة تزامن مع مرور تسعة أشهر على بداية الثورة السورية، قلت حيئذٍ في إجابتي عن أحد الأسئلة: ها قد مرت تسعة أشهر على الثورة السورية وهي ما زالت مستمرة. ولن تتوقف ما لم تحقق أهدفها حتى لو استمرت تسعين شهراً.

لم نكن نتوقع وقتها أن تستمر الثورة بالفعل كل هذه المدة، لأن المؤشرات في معظمها كانت بالنسبة لنا توحي بأن نهاية النظام باتت قريبة، وأن المجموعة الدولية الكبيرة التي أعلنت عن نفسها صديقة للشعب السوري كانت نشطة، وتصدر عن دولها الإعلانات المتكررة حول فقدان النظام للشرعية، وضرورة البحث في مستقبل السوريين من دون بشار الأسد.

لم نكن نتوقع، ولم نكن نتمنى بطبيعة الحال، أن تكون تضحيات السوريين بهذا الجحم الكارثي. فقد بات أكثر من نصف الشعب السوري مهجراً مشرداً، وأكثر من نصف البلد مدمراً. أما النصف الباقي من البشر والحجر فهو معطّل مثخن بالجراح، تنتظره أيام سوداء بفعل الأزمات والمشكلات الراهنة، وتلك المستقبلية التي ستكون.

كنا في ذلك الوقت مجموعة من المعارضين ممن التزموا أهداف الثورة السورية منذ اليوم الأول، وحاولوا بناء على خبراتهم وتجاربهم في المعارضة أن يساعدوا أبناء شعبهم، من باب الواجب، في التعبير عن أهدافهم في المحافل الدولية، وتثبيت عنوان واضح للثورة التي اندلعت بركاناً شعبياً ثائراً من دون قيادة، وبعيداً من المعارضة التقليدية التي ظلت مترددة حائرة، تضع قدماً هنا وأخرى هناك، في انتظار أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود.

لم تكن لدينا خبرات ديبلوماسية واعلامية، ولم تكن لدينا معرفة واسعة تفصيلية بأحوال الدول وأساليب عملها. ولم نكن على اطلاع كافٍ على الخلافات الداخلية الصامتة ضمن مجموعات صديقة. ولم نكن نتوقع أن يصطف العديد من الدول العربية إلى جانب النظام، مع معرفتها الكاملة بأهمية وحيوية سورية في الاستراتيجية الإيرانية.

إضافة إلى ذلك، اعتقدنا أن الغرب قرر أخيراً أن يتصالح مع رواد نهضته، ومع تراث المصلحين والفلاسفة الانسانيين من أبنائه، وأنه سيرفع الغطاء عن الأنظمة المستبدة الفاسدة الفاشلة التي حولت مجتمعاتنا إلى مجرد كتل بشرية مستهلكة يائسة، تبحث عن الحلول الفردية عبر التكيف مع المزيد من الاستنزاف والإذلال، حتى بات الحديث عن أي مستقبل كريم نوعاً من الترف أو الأحلام المستحيلة. وإلى جانب كل هذا وذاك، لم نتوقع أن يكون مستوى الحقد الروسي على السوريين الثائرين على النظام قياسياً كما ظهر.

لكن الذي تبين لاحقاً هو أن الأمور كانت أعقد من قراءاتنا السطحية المتسرعة التفاؤلية، وأن الحسابات الواقعية هي من ماهية أخرى مغايرة تماماً للنزعات الرغبوية الطيبة.

كما تبين لنا أننا بتساهلنا مع الأخطاء الصغيرة الكثيرة، واعتمادنا العقلية الاتكالية، فسحنا المجال أمام تراكمات كميّة هائلة من الأخطاء التي أحدث منعطفات سلبية نوعية في مسيرة ممثلي الثورة السورية الذي تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى مجرد معارضة ضمن إطار الائتلاف الذي تشكّل أصلاً بناء على توافقات ورغبات الدول من مجموعة أصدقاء سورية، تلك المجموعة التي سرعان ما ظهر بأنها كانت مجرد حشد متعدد التوجهات والنوازع، حشد لم يصمد في مواجهة تصلب المحور الروسي- الإيراني الذي لم يتمكّن من تغيير الأولويات في سورية والمنطقة فحسب، بل كشف النقاب عن عمق الأزمة الشاملة، بوجهها الأخلاقي على وجه التحديد، التي تعاني منها أنظمة الديموقراطيات الغربية.

وتكاثرت المنصات، وتناسلت، بجهود من الدول التي دعمت النظام، ولجأت إلى تمزيق وحدة صف الممثلين السياسيين للثورة، حتى غاب مصطلح الثورة تماماً، وأصبح الجهد كله يدور حول كيف إيجاد صيغة لإبقاء النظام مع رتوش تزيينية لا تغير من جوهر قباحاته شيئاً.

ثورة السوريين تنهي عامها السابع، وتقترب من شهرها التسعين، ومع هذا لا تبدو في الأفق معالم اي حلٍ قريب. فالدول الكبرى لم تتفق بعد، والنهج ما زال هو نفسه منذ البداية: إدارة الأزمة.

أما الدول الإقليمية، فهي تعمل من أجل تقوية نفوذها، وضمان إبعاد الأخطار المستقبلية المحتملة عنها. هذا في حين أن النظام العربي الرسمي بات مجرد اسم من دون أي يكون له وقع أو تأثير.

وبالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لثورتهم، يعيش السوريون على وقع معركتين أليمتين: معركة الغوطة ومعركة عفرين.

الأولى تهدد توازن القوى في محيط دمشق ومركزها، وتؤكد مدى توحش النظام ورعاته مقابل انعدام الحس الأخلاقي لدى ما يسمى بالمجتمع الدولي.

أما الثانية، معركة عفرين، فهي تهدّد بتفجير النسيج المجتمعي السوري من الداخل، وتؤكد أن كرد سورية باتوا ضحية المشاريع الإقليمية لحركات عابرة للحدود، ودول تستغلهم لتعزيز نفوذها، أو تتذرّع بالأخطار التي قد يشكلونها على أمنها.

ولكن في جميع الأحوال، فإن ما يجري في الغوطة وعفرين لا يخرج عن إطار اللوحة السورية الكاملة. فما جرى ويجري إنما هو استكمال لما كان في حمص وحلب ودرعا والشرق والشمال السوريين.

وعلى رغم كل ادعاءات معسكر النظام وتبجّحه، فإن العجلة السورية لن تعود إلى الوراء. وواهم من يعتقد أن الحسم العسكري لمصلحة النظام معناه انتهاء الثورة السورية، فهذه وجهة نظر لا تستند إلى أي أساس. فالنظام قبل الثورة كان يتحكّم بالمؤسستين العسكرية والأمنية بصورة كاملة، ويسيطر على مفاصل الدولة والمجتمع. وكانت له علاقات متشابكة مع المحيط العربي والجوار الإقليمي، وحتى على المستوى الدولي.

ولكن مع ذلك تمكن النشطاء من المدنيين العزل، من شباب الجامعات والمثقفين وأوساط مجتمعية واسعة من مختلف المكونات، من التحرك بقوة، وزلزلوا الأرض تحت أقدام الطغاة.

إن الحسم العسكري لن ينهي ثورة السوريين أو يقضي عليها، بل ينقلها إلى مرحلة أخرى، يستعيد فيها السوريون ثورتهم المدنية الوطنية، ولكن بإرادة أقوى، وأكثر مناعة، وخبرات مكتسبة متكاملة متنوعة لا تُضاهى.

الحياة

 

 

 

ثورة تدخل عامها الثامن/ ماجد كيالي
لا توجد ثورات إلى الأبد، والثورات هي في الحقيقة لحظات تاريخية، انفجارية ومفاجئة وعفوية، تبعاً لأحداثها، ووقائعها، وهذا ينطبق على كل الثورات التي عرفتها البشرية، وضمنها الأميركية والفرنسية والروسية، ولذا يجري تمييز الانتفاضة التي يمكن أن تستمر لسنوات، والتي يتخللها نوع من مخطط توجيهي، وتقاد من قبل قوى منظمة، كما يحصل تمييز الصراعات الممتدة، وضمنها نضالات حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار (فيتنام والجزائر وفلسطين مثلا)، والتي استمرت لعقود من الزمن، والتي سميت تجاوزاً بالثورات، كما يحصل تمييز الحركات المناهضة للعنصرية والدكتاتورية والطغيان الخ…
هكذا، ليس ثمة ضير من تسمية الظواهر الاجتماعية بأسمائها، إذ إن إطلاق تسمية ما على ظاهرة معينة لا يمنحها هويتها، أو لا يضيف عليها قيمة ما، لأن هويتها وقيمتها تنبع من مقاصدها وإنجازاتها، إذ حتى الثورات التاريخية الكبرى، التي ذكرناها، سميت كل واحدة منها بالحرب الأهلية، ذلك أن هكذا تسمية لا تقلل من شأن أي ظاهرة. فالثورة هي في اصطفافاتها، وصراعاتها، تنطوي على نوع من حرب أهلية، وفي الوقت ذاته هي محاولة لقلب الواقع السياسي، هذا أولاً. ثانياً، إن إطلاق تسمية ثورة على عملية تغيير سياسي بات لها من العمر سنوات، وهذا هو حال الصراع السوري الذي مر عليه سبعة أعوام، لا يخدم في توصيف الواقع، لأن الثورة بوصفها واقعاً عفوياً وانفجارياً وشعبياً استنفذت أغراضها، ولأن ما يحصل بات أقرب إلى الصراع السياسي الممتد، مع الإبقاء على المقاصد الأساسية للثورة (التي اندلعت في آذار/مارس 2011)، أو بالانزياح عنها كما حصل في سيادة خطابات الفصائل العسكرية «الإسلامية»، وأخيراً، لأن ما يحدث بات في أحد أبعاده بمثابة حرب أهلية بكل معنى الكلمة، وفي أبعاده الأخرى بات بمثابة صراع دولي وإقليمي على سورية.
ليس القصد من ذلك نعي الثورة، كفكرة، كما قد يعتقد البعض، ولا التشكيك بمشروعيتها، فالثورة على النظام، هي عملية مشروعة وعادلة وضرورية، بحكم الاستعصاء الذي يمثله هذا النظام لعملية التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سورية. لكن القصد هو التأكيد أن الصراع السوري خرج من مفهوم الثورة، إلى مفهوم الصراع السياسي الممتد، لتحقيق الأهداف أو التطلعات التي انطلقت من أجلها تلك الثورة.
ولعل ما يؤكد ذلك أن الثورة لم تحقق المفترض منها، ليس على صعــــيد إسقاط النظام فحسب، وإنما حــــتى على صعيد بناء قوى المعارضة ذاتها، في بناها وخطاباتها وأشكال عملها، بل إننا إزاء نوع من التراجع الخطير، على هذا الصعيد، بالقياس للبدايات الواعدة التي كنا شهدناها في العام الأول للثورة مثلاً.
وفي الواقع، إن القوى المفترض أنها ثورية، وهي هنا الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية، فشلت بشكل ذريع، في حمل مشروع الثورة، والاستمرار به، لأسباب عدة، أولها، أنها لم تستطع، على رغم تضحيات وتجارب سبعة أعوام، من بناء كيان سياسي جامع، وطني وجبهوي، يعبر عن السوريين، ويدير كفاحهم من أجل تحقيق أهدافهم، بعيداً من الحسابات والحساسيات الضيقة، الشخصية أو الأيديولوجية أو الفئوية. وثانيها، لم تستطع الكيانات السائدة في المعارضة الحفاظ على المقاصد الأساسية التي انطلقت من أجلها ثورة السوريين، أي الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، بل إنها جاملت، أو تبنت، خطابات الجماعات العسكرية، الدينية والطائفية، التي أخذت الثورة الى خطابات أخرى، تتعلق بتغيير نظام الحكم، أو الاستيلاء على السلطة، ما يعيد إنتاج الاستبداد بصور أو بأشكال أخرى، وكان نمط إدارة المناطق المحررة لا يبشر بالخير، بل إن هذه الإدارة هي أحد أهم أسباب ضعف ثقة السوريين ببعضـــهم، وانحسار ثورتهم. وثالثها، أن المعارضة لم تحصن ذاتها تجاه مخاطر فقدان الاستقلالية، والاعتمادية على القوى الخارجية، واحتمال توظيفها لصالح أجندات هذه الدولة أو تلك على حساب حقوق السوريين وسلامة مسار ثورتهم. ورابعها، تسرع المعارضة بانتهاج العمل المسلح، وتصعيده إلى مستويات غير محسوبة، وخارج قدراتها على التحمل، ما أضعفَ موقفها، وما زاد الهوة بينها وبين الجماعات العسكرية، وما قطع صلتها بالمناطق المحررة، وعزز اعتماديتها على القوى الخارجية. وربما لا نضيف جديداً بالقول إن هذه المعارضة، وبغض النظر عن الادعاءات، لم يكن لها أي قرار أو دور في خصوص التحول نحو الصراع المسلح، ولا في شأن ايجاد مناطق محررة. وخامسها، أن المعارضة ليس فقط لم تدرك أخطار إخراج الشعب، أو أغلبية الشعب، من معادلات الصراع، لا سيما بالحصار والتدمير والتشريد، بل إنها، أيضاً، لم تفعل شيئاً لتأطيرهم أو استثمار قدراتهم، وإيجاد تمثيلات لهم. وسادسها، أن المعارضة لم تشتغل على انتاج خطاب يعزز الثقة بين مكونات الشعب السوري، الإثنية والدينية والمذهبية. ففي القضية الكردية، مثلاً، تبنت الموقف التركي، ولم تتعاط مع المسألة الكردية في سورية بوصفها مسألة سورية، ولم تجمع في خطابها بين حقوق المواطنة والحقوق الجمعية «القومية» للكرد بوصفهم جزءاً من أمة أكبر (مثل الأمة العربية)، هذا مع التأكيد على مسؤولية القوى الكردية عن ذلك، لا سيما حزب بي واي دي، الذي تعامل مع المسألة الكردية في سورية كأنها مسألة كردية في تركيا.
بيد أن أكثر ما أضر بالثورة السورية هو أنها تأسست في إدراكات المعارضة السائدة على فكرتين، أو مراهنتين خاطئتين، أولاهما، أن العالم سيتدخل لصالح الثورة، ما جعلها مرتهنة للتدخلات الخارجية وقابلة بها. وثانيتهما، أن الثورة ستنتصر حتماً، من العام الأول، ومن التجربة الأولى، على رغم كل الثغرات والمشكلات المحيطة بالتجربة السياسية للسوريين، وعلى رغم كل المداخلات والتعقيدات التي تعيق ذلك.
* كاتب فلسطيني – سوري
الحياة

 

 

 

الصراع السوري يدخل عامه الثامن.. غياب الأفق/ ماجد كيالي
لا أعتقد أن ثمة أحدا كان يعتقد باستمرار الصراع السوري، لسبع سنوات (من مارس 2011 إلى مارس 2018)، على هذا النحو وإلى هذه الدرجة، أي إلى درجة مصرع مئات الألوف وتدمير عمران المدن وتشريد الملايين، ودخول أطراف دولية وإقليمية على هذا الصراع، مثل إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة، ومع انعدام اليقين بشأن تحولاته أو مآلاته، لا بالنسبة للنظام ولا بالنسبة للمعارضة ولا بالنسبة لتموضع القوى الخارجية.
على ذلك يمكن تشخيص الواقع السوري، أو “الرجل السوري المريض”، وفقاً للجوانب المهمة الآتية:
أولاً، باتت القوى الخارجية الدولية والإقليمية، ولا سيما الأميركية والروسية ثم الإيرانية والتركية، أكثر تأثيراً بالنسبة لتقرير مستقبل سوريا، خصوصاً بسبب اعتماد الأطراف المحلية المتصارعة على الدعم الخارجي، السياسي والمالي والتسليحي، وهذا يشمل النظام والمعارضة، ولا سيما مع غياب أغلبية الشعب عن معادلات الصراع الدائر، الذي بات يغلب عليه طابع الصراع المسلح.
ثانياً استطاع النظام بمساعدة حلفائه، إخراج أغلبية المجتمع السوري من معادلة الصراع، بتدميره أو بمحاصرته البيئات الشعبية المتمردة، أو التي يعتبرها بمثابة حاضنة للجماعات المعارضة، كما حصل في حمص وحلب والقصير والزبداني وكما يحصل اليوم في الغوطة، يضاف إلى ذلك تشريده للملايين من السوريين.
ثالثاً ما زالت الثورة السورية تفتقد إلى القيادة، وبحاجة لتوضيح أو تأكيد خطاباتها المتعلقة بالحرية والمواطنة والديمقراطية، بعد أن أزاحتها الفصائل العسكرية المتغطية بالإسلام لصالح خطاباتها الدينية والطائفية المتطرفة.
رابعاً نجح النظام وحلفاءه في سعيهم حرف الأنظار عن حقيقة الصراع السوري بوصفه جزءاً من ثورات الربيع العربي التي تستهدف نظم الاستبداد والفساد والتغيير نحو أنظمة ديمقراطية، وتوجيه أنظار العالم إلى نواح أخرى، ضمنها ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب، ووقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا، وتأمين المساعدات التموينية والطبية للمناطق المحاصرة، مع علمنا أن النظام ما زال يتصرف -رغم كل ما جرى- باعتبار أن هذه “سوريا الأسد إلى الأبد”، أو كأنها بمثابة ملكية عقارية خاصة، ليس بها مواطنون، أو كأن هؤلاء مجرد مقيمين لا حقوق لهم.
خامساً ثمة حليفان ثابتان وقويان وشريكان للنظام هما إيران وروسيا، يريان أن أي تغيير في سوريا سيكون بمثابة نهاية لنفوذهما فيها، وخاصة على ضوء تورطهما عسكريا في دعم النظام القائم ضد غالبية شعبه.
سادساً لم تكن ما تعرف بدول “أصدقاء الشعب السوري” على ذات القدر المكافئ للدولتين الصديقتين للنظام، إذ أن تلك الدول “الصديقة” تلاعبت بثورة السوريين، وجذبتها لأجنداتها الخاصة والمتضاربة، وهذا يشمل تركيا، التي أضحت تتعاطى مع سوريا من بوابة خشيتها من المسألة الكردية، كما من بوابة مصالحها الخاصة وأمنها القومي، كما يشمل ذلك الولايات المتحدة، التي أضحت تسيطر على جزء كبير من الأراضي السورية في شرقي الفرات وفي الجنوب السوري، مع ثماني قواعد عسكرية.
سابعاً حتى الآن لم تصدر كلمة السر الأميركية الخاصة بوقف الصراع في سوريا، إذ أن القرار حتى اللحظة، ورغم تغير الإدارة الأميركية، من باراك أوباما إلى دونالد ترامب، مازال يتأسس على الإبقاء على ديمومة الصراع، لا غالب ولا مغلوب، لا النظام ولا المعارضة، وإبقاء سوريا ساحة لصراعات القوى الخارجية لإرهاقها واستنزافها، وهذا كله يفسر إخفاق المسارات التفاوضية، سواء كانت في جنيف أو كانت في أستانة.
هكذا فبعد مرور سبعة أعوام على الصراع السوري ثمة صعوبات ونواقص ومخاطر وتحديات جمة تواجه السوريين، وهذا قدر سوريا وموقعها الجيوسياسي كبوابة للمشرق العربي، وفي تأثيراتها على مستقبل الوجود الإسرائيلي.
لكن القول بأن هذا هو واقع الصراع السوري، أو الثورة السورية، وأنه ما كان يمكن توقع مسارات أفضل، لا يعني أن الأمور تسير على ما يرام، ولا التزام التغطية على الأخطاء، أو النواقص. فهذه الثورة انطوت على مفاجآت خطيرة، أولاها؛ عجز الطبقة السياسية السائدة عن إنتاج قيادة، أو أقله مرجعية قيادية، مدنية وعسكرية، فحتى الآن لم تنجح في إنتاج كيان سياسي يعبر عن السوريين ويجمعهم من حوله، وهذا يشمل تشرذم جماعات المعارضة العسكرية التي لا يجمع بينها جامع، ناهيك عن الفجوة بينها وبين الإطار السياسي (المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني)، إذ حتى الهيئات التفاوضية نجد أنها باتت متعددة وتتعرض لتغييرات بين فترة وأخرى.
وثانية المفاجآت؛ عدم محافظة كيانات الثورة السياسية والعسكرية على خطابات الحرية والديمقراطية والكرامة التي أصدرتها في بداياتها، في مقابل مجاملة الخطابات الدينية والطائفية المتعصبة ما أضرّ بمصداقيتها إزاء العالم وإزاء شعبها.
وثالثتها؛ تتمثل في الاعتماد على الخارج والارتهان لأجنداته، بدل تنمية مجالات الاعتماد على الذات، والتركيز على خدمة مصالح السوريين وتطلعاتهم العادلة والمشروعة في الحرية والديمقراطية.
ورابعتها؛ إعادة بناء الهوية الوطنية السورية الجامعة، على أسس جديدة، باعتبار ذلك بمثابة ردّ على حال الهشاشة والتفكك اللذين بدا عليهما المجتمع السوري حين ظهر على شكل جماعات سكانية متباعدة ومتفرقة على أسس هوياتية قبلية وطائفية ومذهبية وإثنية ومناطقية وعشائرية، يكاد لا يجمعها جامع، سوى اعتبارها سوريا بمثابة مكان للإقامة، وليست وطنا يضم كل السوريين، وبديهي أن هذه الهوية لا بدّ أن تنبني على دولة مؤسسات وقانون ودولة مواطنين أحرار ومتساوين.
لكل ذلك فإن سبعة أعوام من الصراع الضاري والدامي والمدمر، تلوح من دون أفق.
كاتب سياسي فلسطيني
العرب

 

 

 

سورية غير السورية/ حازم الامين
يصلح تحقيق «نيويورك تايمز» عن قصة اختطاف أفراد من العائلة القطرية الحاكمة في العراق ومفاوضات الإفراج عنهم، مادة تفكير بأحوال سورية بعد سبع سنوات على بدء الانتفاضة فيها على النظام الحاكم، وما أعقب هذه الانتفاضة من حروب في ذلك البلد. فالاختطاف الذي جرى على بعد أكثر من ألف كيلومتر عن سورية جرى تصريفه في الحرب السورية على نحو فظيع. فتولت الدوحة دفع فدية وصلت إلى أكثر من 400 مليون دولار كانت بمثابة تمويل لميليشيات غير سورية تقاتل في سورية. كما رعت بموجبها كل من الدوحة وطهران عملية مبادلة سكانية كانت في الحقيقة أقرب إلى ترانسفير طائفي ومذهبي. وبيروت بدورها لم تكن بعيدة عن الصفقة، فوفق «نيويورك تايمز» فقد وصلت إلى مطار بيروت الدفعة الثانية من حقائب المال القطري، وتسلّمها في مطار العاصمة اللبنانية مسؤولون من «حزب الله»، ناهيك عن حصة الفصائل المقاتلة السنّية من هذا المال.
نحن اليوم في سورية حيال مجزرة مفتوحة، في حين تكشف الوقائع أن حالاً مافياوية تتم إدارتها من أطراف النزاع الفعليين، وهم في معظمهم من غير السوريين. فالوقائع التي ينوء تحتها السوريون في لحظة انقضاء السنة السابعة على انتفاضتهم على نظامهم كاشفة لمشهد يتصدره الأشرار من كل اتجاه. روس وإيرانيون وأتراك وعراقيون وقطريون وإسرائيليون ولبنانيون، ووحدهم السوريون يموتون. أفراد العائلة الحاكمة القطرية اختُطفوا في العراق وأفرج عنهم بصفقة «سورية». حقول الغاز اللبنانية العتيدة يجري تلزيمها بموجب حسابات الحرب السورية فتفوز بها شركات روسية قريبة من فلاديمير بوتين. مخاوف أنقرة من طموحات الأكراد في تركيا يتم تصريفها في الحرب السورية. تل أبيب تتصدى لطموحات طهران في نفوذ على حدودها عبر غارات تستهدف سورية.
المشهد فعلاً قاتم بعد كل هذه السنوات، وما يعني السوريين منه يقتصر فقط على تلك المجزرة المفتوحة على أرقام هائلة من الضحايا وعلى بعض أمراء الحرب عديمي الإرادة والتأثير. واليوم أجادت علينا الأرقام بمزيد من المآسي، واللاعب الإقليمي والدولي يمعن في الاتجار بدم الناس في ذلك البلد. الغوطة في مقابل عفرين. هذه معادلة أخرى وجد السوريون أنفسهم أمامها. فالنظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون التقطوا الحاجة التركية للقضاء على النفوذ الكردي في عفرين وقرروا أنها اللحظة المناسبة للانقضاض على الغوطة. مدنيون هنا ومدنيون هناك. وعشرات آلاف النازحين على طرفي المأساتين، والعالم صامت وقابل في معادلة الدماء في مقابل الدماء. مأساة حلب تتكرر، وأنقرة فعلتها مجدداً.
لا شيء عدمياً أكثر من مشهد السوريين على بعد سبع سنوات على انتفاضتهم وعلى اشتعال حروب العالم كله في بلدهم. وفي مقابل ذلك لا شيء أدعى إلى التفكير بهذه الحال. والتفكير هنا يجب أن يشمل كل شيء، العالم الشرير والجيران المتآمرين، ولكن أيضاً الخاصرة الرخوة التي شكّلتها سورية لكل هذا الشر. فالسكان الذين تمّت مبادلتهم بموجب الصفقة القطرية- الإيرانية هم سوريون، والغوطة وعفرين مدينتان سوريتان، والقول إنها حرب الآخرين غير دقيق على نحو ما لم يكن دقيقاً القول إن الحرب اللبنانية كانت «حرب الآخرين على أرضنا».
المراجعة يجب أن تشمل كل شيء بما فيها الكيان نفسه، وبما فيها المصالح الحقيقية في العلاقة مع كل الدول المرتكبة. العلاقة مع العراق ومع لبنان بصفتهما من أصحاب الأيادي غير البيض، ويجب أن تشمل افتراق المصالح والتقاءها مع كل من أنقرة وتل أبيب وموسكو. ثم أن حضور كل هؤلاء في سورية وغياب الإرادة السورية مؤشر أيضاً إلى معانٍ يجب إعادة التفكير فيها. فالبعث، وهو التجربة شبه الوحيدة بعد الاستقلال، لم يُبقِ على شيء ولم يُنتج حصانات ولم يؤسس لغير الحروب.
الحياة

 

 

 

لو لم تحدث الثورة/ يوسف بزي
تطغى على مشاعر ملايين السوريين والعرب فكرة “لو لم تحدث الثورة”. حجم الأهوال والكوارث والفصول الجحيمية التي أصابت عموم السوريين، تمنح تلك الفكرة قدراً من الرجاحة والمعقولية. وتحت وطأة الفارق بين ما حلم به أهل الثورة وما آلت إليه الوقائع والأحداث، يكتسب اليأس هنا بعداً عقلانياً ومنطقياً.
من المغري الافتراض أن نصف مليون سوري لم يُقتلوا، وأن أكثر من مليوني سوري مصاب لم يتعرضوا لرصاصة أو شظية، وأن أكثر من 250 ألف معتقل لم يتعرضوا لا للخطف ولا للتعذيب، بل أن خمسة ملايين لاجئ ومنفي لم يغادروا ديارهم، وستة ملايين آخرين لم يتشردوا داخل سوريا. لم تُدمر عشرات المدن ولم تُبَدْ مئات القرى.
سبع سنوات من الألم والدموع والجوع والموت والتشرد والخوف، كان يمكن حذفها لو تفادى السوريون تلك الثورة “الملعونة”. بل إن العيش على المنوال نفسه كما عاشت الأجيال السابقة، في سوريا “الجميلة” العامرة بالحياة والخيرات والسكينة، ولو تحت حكم سلطة مستبدة وقاسية، أفضل بما لا يقاس من سوريا المدمرة والممزقة، أفضل من سوريا المفقودة والضائعة.
قوة هذه الفكرة أنها قد تخاطب فينا الحس الإنساني السليم.
“النظام السوري” ومؤيدوه وأتباعه، وبعض المتذاكين على النظام وعلى المعارضة، يتخذون من هذا الافتراض الوردي حجة على غالبية السوريين و”خطيئتهم” بارتكاب الثورة،
استخفافهم بعناد النظام وقدراته وتصميمه، تجرؤهم على مواجهة وحشيته، تسرعهم في ارتكاب فعل التظاهر والاعتراض، تهورهم في عصيانهم المدني، إشهارهم السلاح للدفاع عن أنفسهم وبيوتهم وعائلاتهم وأطفالهم بوجه رجال النظام، بل وتفريطهم بحياتهم وعمرانهم وبلدهم.
ينطوي لوم السوريين على فعل الثورة، بذريعة الخراب والمأساة أو باسم “الواقعية السياسية”، على خبث أخلاقي، مفاده أن النظام منسجم مع طبيعته وحقيقته “الأسدية” (الحيوانية) أي أنه كائن مفترس ومتوحش، وبالتالي لا يمكن إلقاء اللوم عليه، ويتحمل السوريون الذين خبروه وعرفوه طوال عقود مسؤولية استفزازه.
يؤدي هذا المنطق إلى استنتاج وحيد: النظام لا يتحمل مسؤولية هذه الحرب، ولا لوم عليه إن أنزل الجحيم على رؤوس مواطنيه وأحرق سوريا كلها. ويرتقي هذا الاستنتاج إلى مرتبة البديهة والقانون الطبيعي.. وأكثر من ذلك، النظام هو القدر الذي لا راد له، والسوريون اقترفوا حماقة مواجهة القدر.
يطالب أصحاب هذا التمني “لو لم تحدث الثورة” المواطنين السوريين بأن يندموا على يوم 18 من آذار 2011، وأن يستمروا بالتعايش مع القهر التاريخي الذي كانوا يمضغونه يومياً. ففي كل الأحوال، يبقى هذا “القهر” أقل فداحة من الموت اليومي المستمر منذ سبع سنوات.
ينسى هؤلاء أن السوريين فعلاً، ومنذ العام 1970 على الأقل، وازنوا بين مخاطر الثورة وأثمان الرضوخ، بين دموية التمرد وكلفة الصمت. عاشوا أربعة عقود كاملة وفق معادلة أن النظام الممقوت أفضل من الحرب والدمار، الصمت والخوف أفضل من منصة الإعدام.
ينسى مروجو الندم أن الشعب السوري اعتنق حكمة “الذل ولا القبر”، “الخنوع ولا الموت” على امتداد تاريخ حكم “البعث”. تجربة عصيان حماة وجسر الشغور وحلب في مطلع الثمانينيات، كانت درساً أتقن حفظه السوريون، وتلوا فعل الندامة مراراً، وهادنوا الظلم أكثر بكثير مما يُحتمل، فقط باسم السلم الأهلي والاستقرار.
ينسى هؤلاء، أن السوريين تحاشوا وتفادوا الثورة عام 2000، وعام 2005. قبلوا أن يحترق ربيع دمشق مرتين، من أجل أن لا تحترق سوريا. بل وأتجرأ على القول إن أحداث آذار 2011، حين كان الشعب السوري مازال متردداً،
توحي بأن النظام نفسه هو الذي أراد للثورة أن تشتعل، فعل كل ما في وسعه كي لا يهدأ أهل درعا وحمص وضواحي دمشق، حول الاحتجاجات مناسبة كي يقترف ما يشعل الغضب وينشره. حرص النظام على الإفراط في الوحشية والقمع وجرح مشاعر كل المواطنين السوريين كي يخرجوا من منازلهم إلى ساحات الثورة.
بهذا المعنى، الثورة “صنعها” النظام. كانت هي لحظته المنتظرة لإعلان الحرب على سوريا. ومن تابع لغة الموالين له على امتداد السنوات السبع، ومن يقرأ خطابات بشار الأسد أو مقالات شعرائه وأقوال فنانيه يكتشف مدى احتقارهم للسوريين، ازدرائهم لهم، ضغينتهم العميقة لوجودهم وشهوتهم للإبادة والتطهير، رغبتهم الجامحة بالخروج من “التعايش الاضطراري” مع غالبية الشعب السوري. تعايش لا يطاق، مشوب بالخوف وبفائض القمع. الثورة التي تستدعي الحرب بالنسبة للنظام كانت هي الفرصة التي لا تعوض ليستولي على سوريا و”يحتلها” أو بالأحرى “يستعمرها”. لا يمكن وصف الحرب السورية إلا بأنها حرب استعمارية، تقوم على الإبادة والاستئصال والتطهير الطائفي والتغيير الديموغرافي. لا شيء يهدئ من روع جماعة النظام ولا شيء يبدد “خوف” مواليه سوى انسحاق السوريين التام.
لذا، اليوم، وبعد انقضاء سبع سنوات وصفتها اللغة الديبلوماسية المهذبة بـ”أسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية”، تتم مطالبة السوريين، باسم حقن الدماء والحفاظ على ما تبقى من سوريا، لا بالاستسلام فقط أو إعلان الهزيمة – فهذا ربما قيد التحقق ميدانياً وعسكرياً – لكن بما هو أقسى من ذلك: العودة إلى حضن النظام. عودة مشروطة بأمرين، الأمر الأول هو تبرئة السوريين التامة لنظامهم من كل ما فعله، ونسيان كل ما حل بهم على يد جيشه وميليشياته وشبيحته وحلفائه، والاعتذار عن خطيئة الثورة والتمرد والعصيان. الأمر الثاني الأدهى من الصمت والندم والتوبة هو إجبار السوريين لأنفسهم أن يقعوا في حب النظام. لم يعد مقبولاً بالنسبة لهذه السلطة “المنتصرة” شعباً خائفاً منها وراضخاً لها وحسب، فهذا نقص في الولاء يقارب الخيانة. المطلوب من السوريين ليس أقل من عبادة النظام حباً وإخلاصاً. كل عودة مكرهة إلى حضن النظام ستواجه بالعقاب الصارم، وستجبر السلطة على ممارسة تفتيش الضمائر والنفوس كي تطمئن أن لا ثورة أخرى في المستقبل. الحب المطلق هو شرط النظام على السوريين كي يبقوا أحياء.
أسوأ من ذلك، الضحايا أنفسهم يجب أن يختفوا من الذاكرة والوجود.
على الأموات أن يخبئوا موتهم، على المعذبين أن يشكروا جلاديهم ويقبلوا أياديهم، على الأحياء أن يخجلوا من نجاتهم.
يطلب النظام لا أقل من اعتناق السوريين لفكرة أن الجريمة التي ارتكبها “رئيسهم” بحقهم هي نعمة أسبغها عليهم، وأنقذهم بها من الضلال والخطيئة والانتحار.
من أجل ذلك، تبدو فكرة “لو لم تحدث الثورة” ليست أقل من اقتراح العبودية. هي الجواب الأبدي على ذاك السؤال الذي كان يطرحه “الشبيحة” فيما كانوا يدوسون رؤوس المواطنين: “بدكم حرية؟”.
استحالة قبول السوريين بهذا الجواب، استعصاؤهم على العبودية، يجعل كل ما حدث ويحدث في سوريا يتجاوز توصيف “الثورة” و”الحرب”. إذ يمكن للحرب أن تنتهي، ويمكن للثورة أن تخمد نهائياً. ما لا يمكن تجاوزه أو إغفاله، أمام تلك الاستحالة وذاك الاستعصاء، هو نشوء “القضية السورية” بما يوازي أو يشابه مثلاً “القضية الفلسطينية”، بوصفها قضية حق تقرير المصير.

 

 

 

أبرز ضحايا الثورة السورية في الذكرى السابعة لاندلاعها/ مايكل يونغ
في 24 نيسان/أبريل 2007، عقد أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون اجتماعاً مع الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق. ووفقاً لما جاء في محضر الاجتماع المُسرّب في صحيفة لوموند الفرنسية، تمحور النقاش حول لبنان، وتحديداً حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي كان من المُزمع إنشاؤها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.
وإذ وُجّهت أصابع الاتهام الأولى في تلك الجريمة إلى سورية، أطلق الأسد بدوره تحذيراً إلى بان كي مون مفاده أن الاستقرار الطائفي في لبنان هشّ، مُلمِحاً ضمناً إلى أن أي استهداف للنظام السوري سيُلقي بظلاله على لبنان أيضاً. وأضاف الأسد أن إنشاء المحكمة، خصوصاً تحت الفصل السابع، “سيُطلق العنان بسهولة لصراع قد يتفاقم ليشعل حرباً أهلية في لبنان، نافخاً في إوار انقسامات سنيّة- شيعية يمتدّ لهيبها من البحر الأبيض المتوسط إلى بحر قزوين”. يُضاف إلى ذلك أن إتيانَه المُفاجئ على ذكر الشيعة، يشي بأنه كان على علمٍ بدور محتمل لحزب الله في اغتيال الحريري.
لكن حديث الأسد تضمّن أيضاً رسالة غير مُعلَنة أبدى فيها استعداده لتجاوز كل الخطوط الحمراء للبقاء في سُدة الحكم. ومع حلول الذكرى السنوية السابعة للثورة السورية هذا الأسبوع، بتنا نعرف ما بإمكان الأسد فعله للبقاء في السلطة، وأيضاً مدى عجز المؤسسات الدولية عن الحؤول دون ذلك.
شكّل النزاع في سورية منعطفاً بارزاً في مسار النظام العالمي، وبالتالي لم تكن التهديدات التي نقلها الأسد إلى بان كي مون محض مبالغات. فبحكم موقع سورية في قلب العالم العربي، غالباً ماكانت الأحداث فيها قادرة على ممارسة تأثير إقليمي أوسع، ولاسيما أن الأسد الأب والابن أدرجا زعزعة استقرار الدول المجاورة في صُلب استراتيجيتهما الرامية إلى الحفاظ على السلطة وبقاء النظام. ولقد تمكّنا، من خلال إضرام النيران في طول المنطقة وعرضها، ومن حمل الآخرين على المجيء إلى دمشق للتفاوض بشأن التسويات والحلول. هذا ماجرى في التسعينيات، عندما شجّعت سورية حزب الله على شنّ هجمات ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان لتعزيز أوراقها التفاوضية مع إسرائيل؛ وأيضاً حين سمح النظام للمجموعة التي شكّلت في مابعد تنظيم الدولة الإسلامية بالسيطرة على مناطق داخل سورية لدفع الدول الخارجية إلى مناقشة شؤون مكافحة الإرهاب مع المسؤولين السوريين.
ولإنقاذ نظامه بعد العام 2011، أعطى الأسد رجالَه الضوء الأخضر لارتكاب ممارسات وحشية من دون قيد أو رادع، فلم يتوانوا عن استخدام الأسلحة الكيميائية مراراً وتكراراً؛ وأغرقوا البلاد في لُجج كارثة إنسانية مهولة، إذ أُرغم 5.5 ملايين سوري على مغادرة البلاد، وأمسى 6.1 ملايين سوري نازحين داخلياً، من مجموع سكان البلاد البالغ 17-18 مليوناً؛ ناهيك عن تدمير أجزاء كبيرة من المدن والبلدات الكُبرى، وقصف المدنيين والمستشفيات والمدارس وإمدادات المياه، وارتكاب أعمال قتل جماعي أسفرت عن مصرع الآلاف في سُجون النظام.
مع ذلك، لم يؤدِّ أي من ذلك إلى اتخاذ إجراءات دولية منسّقة لوضع حدّ لأعمال العنف أو لمعاقبة المذنبين. لكن رغم كل شيء، يمكن وصف ردود فعل الدول الديقراطية الغربية، التي تُعتبر هي أسّ النظام الدولي القائم على القواعد، حيال عمليات الذبح هذه بالجبانة، وحين لاتكون متواطئة، بسبب الإغفال، تكون جبانة أيضاً لسماحها باستمرار الوضع على هذا المنوال. وبالفعل، يبدو أن المجتمع الدولي قد انقلب على الضحايا. فأوروبا، على سبيل المثال، خاطرت بالتفكّك والانفصال في العام 2015 على خلفية إمكانية قبول اللاجئين السوريين في مجتمعاتها، كذلك، أقفلت الولايات المتحدة أبوابها في وجه السوريين خلال العام الماضي. لم تكن سورية نقطة سوداء في النظام الدولي وحسب، بل أكّدت أيضاً المقولة بأن هذه الدول التي يُتوقّع أن تدافع عن المبدأ الليبرالي العالمي ليست سوى قوقعات فارغة.
في الوقت نفسه، لم يدفع أقوى داعمي الأسد أي ثمن على الإطلاق لمشاركتهم في القمع الوحشي للشعب السوري. فإيران تواصل توسيع نطاق نفوذها في المنطقة، في حين تتطلّع الدول الأوروبية إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية المربحة مع الجمهورية الإسلامية. أما الولايات المتحدة فتبدو في الغالب غير متّسقة، بقيادة متعهد ترفيه تلفزيوني ترقى سياساته الشرق أوسطية إلى مصافي العناوين الجوفاء والمتناقضة. ويبدو أن أمثال الأسد وبوتين في هذا العالم قد أدركوا حقيقة الغرب، وهم يُظهرون الآن الازدراء لأسباب مفهومة. وفيما يوسّع هؤلاء هوامش ما يمكن أن يقوموا به في سورية، يدركون تماماً أن ردود الفعل ستكون شبه معدومة.
بعبارة أخرى، مسألة سورية أكبر بكثير من أزمتها. فهي بالفعل تضع حداً لفترة الانتقال المقتضبة في نهاية القرن العشرين، حين كان التدخل لأسباب إنسانية رائجاً. كان من المفترض أن تكون مجزرة سربرنيتشا في البوسنة، من الأحداث التي يجب أن “تُذكر ولا تُعاد” في تاريخ العلاقات الدولية، لكن سورية تعيش على مايبدو سربرنيتشا جديدة كل شهر، فيما يتضاءل حجم حصار ساراييفو أمام هول مايحصل في حلب والغوطة الشرقية. وفي حين تنتشر التوجهات المعادية لليبرالية حول العالم، تنحسر أهمية حقوق الإنسان بمساهمة من المجتمعات الغربية. فغياب التسامح يطغى على المشهد، ويكتسب الغوغائيون ومشعلو الفتن الرُخصاء زخماً. قد لاتكون سورية السبب الوحيد في كل ما يحدث، لكنها بالتأكيد تُعتبر عاملاً رئيساً في تخلي الغرب عن قيمه وحتى عن جزء من نفسه وكينونته.
كان لقاء الأسد مع بان كي مون معبّراً إلى حدّ كبير. فقد استمع الممثل الأول للتعاون الدولي إلى تهديدات من طاغية من العالم الثالث، ووقف عاجزاً أمامها من دون أن يتمكّن من القيام بشيء يُذكر سوى تسريب تفاصيل ما قيل. وبعد أربع سنوات، كان يمكن للأسد أن يصدق في كلامه، في سياق مختلف، حيال قدرة سورية على زعزعة استقرار المنطقة الممتدة من البحر المتوسط حتى بحر قزوين، أو المناطق المحاذية له. قد تستمر الحرب السورية لفترة أطول بعد، لكن يمكن اعتبار المبدأ الليبرالي العالمي من أبرز ضحاياها.
كان أمراً حزيناً أن يظنّ الشعب السوري بأن التاريخ يقف إلى جانبه. وهذا على أي حال كان ما سمعوه من المحتالين في الغرب الذين هدفت كلماتهم المشجّعة إلى جعل لامبالاتهم مقبولة أكثر لشعب يعيش تحت حدّ السكين.
في الذكرى السنوية السابعة للانتفاضة السورية، وحدها الأكاذيب تبقى سائدة.
مركز كارنيغي للشرق الأوسط

 

 

 

سورية: سنة كل المواجهات بين الدول المتدخّلة/ عبدالوهاب بدرخان

في مطلع السنة الثامنة من الأزمة السورية لم يعد الصراع المسلّح بين النظام والمعارضة. أصبح بين الدول المتدخّلة التي استطاعت كلٌّ منها انتزاع قطعة من خريطة سورية، سواء بموافقة نظام بشار الأسد أو بحكم الضرورة التي شكّلتها «الحرب على داعش». وبعدما لعبت ورقة «الإرهاب» لمصلحة الأسد والإيرانيين خلال الأعوام الأخيرة لعلّهم يلمسون الآن صعوبة الحفاظ على مكاسبهم منها. فلو بقيت اللعبة حكراً على روسيا وإيران والنظام لأمكن تغليب منطق مَن ينتصر عسكرياً ينتصر سياسياً، أمّا وقد تعدّدت الأطراف فإن استعادة السيطرة الكاملة باتت مستبعدة، إذ لا عودة للنظام إلى الشمال الذي استحوذ عليه الأميركيون بواسطة الأكراد واستحصل الأتراك على رقعة منه، ولا عودة إلى الجنوب الذي يتشارك الأميركيون والأردنيون والإسرائيليون الإشراف عليه، فيما يتقاسم الروس والإيرانيون والنظام وسط البلاد لكن بوضعية صراعية ومرتبكة.

إذا لم تكن هذه أولى ملامح التقسيم أو تقاسم النفوذ – بـ «التوافق» الضمني الموقّت- فلا بدّ أنها خطوط المواجهات المحتملة على طريق التقاسم الدائم. توحي الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، بتشاورها الهاتفي شبه اليومي، بأنها في صدد بلورة ضربة أو ضربات عسكرية كردٍّ على استمرار النظام في استخدام السلاح الكيماوي، بشرط «توفّر الأدلة». لكنها موجودة فعلاً، غير أن جهاز النفي الروسي جاهز لإنكارها ولإحباط أي «شرعية دولية» لأي رد غربي. هذه الدول تحتاج إلى تقدير مسبق لأمرين: أي تغيير يمكن أن تُحدثه الضربة، وما الخطوة التالية بعده؟

في السابع من نيسان (أبريل) 2017 انهالت صواريخ أميركية على مطار الشعيرات شرقي حمص ردّاً على قصف بغاز السارين ومقتل عشرات المدنيين في خان شيخون (إدلب)، وبعد خمسة أيام حطّت طائرة وزير الخارجية الأميركي في موسكو بحثاً عن تفاهمات، أهمها أن تضمن القيادة الروسية ممارسات النظام وعدم تكرار استخدام السلاح الكيماوي. لم ينضبط النظام، ولم يلتزم الروس، بل يشاركونه (مع الإيرانيين) حربه على الغوطة الشرقية ويتجاهلون استخدامه غاز الكلورين، وأضافت إليه طائراتهم قصفاً منهجياً بقنابل النابالم، فيما استخدم عملاؤهم غازاً جديداً لقتل استخباري منشق في ساليزبري (بريطانيا). أصبحت روسيا نفسها موضع إدانة، خصوصاً بعدما اتهمها تقرير للأمم المتحدة بـ «ما يرقى إلى جريمة حرب» حين استهدفت المدنيين في الأتارب (غربي حلب) في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. لكن هذه مجرد واقعة أمكن التحقيق فيها، في حين بقيت عشرات جرائم الحرب الروسية بلا أي مساءلة. لذلك «يرقى» سكوت المجتمع الدولي عنها إلى مستوى «التواطؤ مع الجريمة».

عدا تأكيد مصادر عدة أن سيناريوات لضربات عسكرية وضعت على مكتب دونالد ترامب، يستمر تداول سيناريوات لحرب إسرائيلية أو لضربات للمواقع الإيرانية بالقرب من الجولان وفي مناطق سورية مختلفة حول دمشق ونواحي تدمر وحلب. ولم يتردّد ترامب وبنيامين نتانياهو، خلال لقائهما الأخير في البيت الأبيض، في إبداء توافقهما في شأن هذه الحرب. وجاء قول ضباط أميركيون وإسرائيليون أن مناوراتهم المشتركة الجارية حالياً تظهر استعدادهم «لمواجهة أي تهديدات ناشئة في الشرق الأوسط» ليؤكّد معلومات سابقة أبلغت إلى الروس والنظام السوري بأن واشنطن ستدعم إسرائيل في أي مواجهة مع الإيرانيين. ولمزيد من التوضيح قال قائد القوات الجوية الإسرائيلية الجنرال زفيكا حاييموفيتش «يمكننا استدعاء القوات الأميركية في أي نزاع مستقبلي إذا اقتضت الحاجة»، فيما أكّد قائد القوات الأميركية في المناورات الجنرال ريتشارد كلارك: «سنكون جاهزين، وكبار قادتنا سيلتزمون في حال طلبت الحكومة الإسرائيلية».

كادت الغارات الإسرائيلية صباح العاشر من شباط (فبراير) الماضي تشعل تلك المواجهة لو لم تسارع روسيا إلى تهدئة الطرفَين، ومع ذلك أدّى الاختبار إلى إسقاط الـ «أف16». ومما قاله الإسرائيليون بعدئذ أن التوقيت لم يكن مناسباً للطرفَين في 10 شباط، فالإيرانيون لا يريدون مواجهة مباشرة قبل أن ينتهوا من بناء شبكتهم الصاروخية، أما الجانب الإسرائيلي فلا يزال يبحث عن مزيد من المعلومات عن الاستعدادات الإيرانية، وليس واضحاً ما إذا كان حديثه أخيراً عن صور جوية لقواعد إيرانية يعني أن «ذريعة» الضربة باتت متوفّرة. وتدرس إسرائيل إمكان ربط حربها بالجدول الزمني الترامبي الذي بات حدّد أيار (مايو) المقبل لحسم موقفه النهائي من الاتفاق النووي، لذلك ألح نتانياهو مجدّداً على إلغاء هذا الاتفاق، وكما في مؤتمر ميونيخ للأمن كذلك أمام منظمة «إيباك» كرّر نتانياهو: «علينا أن نوقف إيران وسنوقفها. لن نسمح لها أبداً بتطوير سلاح نووي، لا اليوم ولا بعد عشر سنوات ولا في أي وقت».

يفيد الانطباع الراهن لدى الإسرائيليين أنهم تأخّروا، إذ يعترفون بأن التمويهات الإيرانية تشوّش رؤيتهم، ومع ذلك فإن ما ينقصهم ليست المعطيات العسكرية بل القرار السياسي. تعتبر حكومة نتانياهو أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة القادرة على ضرب الإيرانيين تمهيداً لـ «طردهم من سورية»، ولذلك فهي تطلب وتتوقّع اصطفافاً دولياً وإقليمياً لدعمها واستعداداً لـ «مكافأتها». عدا الدعم الأميركي المضمون لكن «وفقاً لضوابط» اعتقد الإسرائيليون أن العلاقة الجيّدة بين نتانياهو وفلاديمير بوتين كافية لإقناع الأخير بمزايا التخلّص من الإيرانيين، إذا تعرّف إلى المصلحة التي يكمن جوهرها بالنسبة إليه في تفاهمات وضمانات أميركية لجعل الدور الروسي في سورية مريحاً أكثر مما الآن. في المقابل تضع إسرائيل نظام الأسد في موقف يستلزم «تعاونه» مع مشروعها أو يتحمّل التداعيات، كما تتوقّع أن يعجّل ضرب النفوذ الإيراني في سورية بـ «التطبيع» العربي معها سياسياً وبالأخص بزنسياً. أما الأهم عندها فهو أن يستكمل ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لها باعتراف آخر بأن الجولان لم يعد «أرضاً محتلّة» بل صار «جزءاً لا يتجزّأ من أراضيها».

طموحاتٌ كثيرة لا تستحقّها إسرائيل بسبب سوء سلوكها الإرهابي وسجلّها الإحرامي، لكن متطرّفي حكومتها يرون أن الوضع العربي يسمح لهم بطرحها وما كانوا ليفعلوا لولا أن طموحات تماثلها بالشطط والترهيب والإجرام تراود أيضاً مهووسي النظام الإيراني، فهؤلاء يسعون بدورهم إلى إقرار دولي بما حصّلوه من نفوذ في أربع بلدان عربية. بديهي أن الإيرانيين والإسرائيليين يعملون من أجل مصالحهم أولاً وأخيراً لكنهم يروّجون بأنهم يبتغون «استقرار المنطقة». فكما تدعو إيران العرب إلى قبول هيمنتها لمساندة «مشروعها» المضاد للمشروع الأميركي- الإسرائيلي، كذلك تدعو إسرائيل العرب إلى عدم اعتبارها «عدوّاً» بل «حليفاً لا بدّ منه» للتخلّص من التهديد الإيراني. أي أنها تعرض «خدمات» مقابل «صفقات»، لكن مشروع «صفقة القرن» كما طُرح ويُطرح و»صفقة سورية» كما يجري طبخها لا يختلفان جوهرياً عن «المشروع الإيراني» بل يلتقيان معه موضوعياً. فكلّها مشاريع تخريب لتاريخ المنطقة ولحاضرها ومستقبلها.

في أي حال، باتت المواجهة الإيرانية- الإسرائيلية مؤكّدة وإن تأجّلت. ففي خضم الجدل حولها تتظاهر الإدارة الأميركية حالياً بأن لديها مقاربات جديدة، لكن كالإدارة السابقة لم تقدم أي مبادرة تؤكّد اهتمامها بالشعب السوري، وإنْ أكثرت من الخطوات التي فاجأت الروس وربما أقلقتهم، سواء في جعل شمال شرقي سورية محمية أميركية أو في وضع اليد على معبر التنف أو في ردع مرتزقة روسيا حين اقتربوا من حقول النفط في دير الزور. أما روسيا فتنتظر إعادة انتخاب بوتين لتقرّر ما وجهتها المقبلة إذا بقيت آفاق التوافق مع أميركا مسدودة. وأما نظام الأسد فأرسل رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك إلى روما، القناة المعتمدة لتبادل الرسائل بين الأطراف، وبطبيعة الحال هناك استياء لدى النظام من الضربات الإسرائيلية التي تلقّاها في مواجهات 10 شباط وبعدها. لكن الجانب الإيطالي لم يتلقَّ جديداً من زائره بل تكراراً لردود سابقة على رسائل أميركية وإسرائيلية وفيها استعداد للتعاون الاستخباري (تحت الطاولة) في مجال الإرهاب وعروض للمساهمة في إعادة الإعمار، إلا أن النظام شدّد هذه المرة على أنه قد يوقف كل تعاون إذا لم تحسم الدول الغربية الاعتراف بشرعيته وإعادة التمثيل الديبلوماسي معه.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

لأن الحرية قبل الرغيف… هل تعيش الثورة عاماً ثامناً؟/ أحمد حمزة

تدخل الثورة السورية عامها الثامن، في وقتٍ يُجمع فيه كثيرون، على أنها تمر بأسوأ مراحلها، وأشدها مرارةً منذ انطلاقها؛ فهي تأتي بعد عامين ونصف على بدء التدخل العسكري الروسي المباشر، الذي تبع التدخل الإيراني، وغيّر ذلك موازين القوى على الأرض، فتداعت قوى الثورة، بعد أن كانت تتداعى قوة النظام السوري، الذي انتشى بفعل دعم حلفائه الإيرانيين والروس اللامحدود. كما أن الذكرى السنوية هذه السنة، تتزامن مع أشرس هجوم يشنّه محور النظام، على الغوطة الشرقية لدمشق، خلّف مجازر راح ضحيتها ما يزيد على ألف مدني في غضون ثلاثة أسابيع فقط؛ يضاف هؤلاء إلى مئات آلاف الضحايا الآخرين، الذين إما قُتلوا أو أصيبوا خلال السنوات السبع الماضية، وعشرات آلاف المعتقلين في سجون النظام. هذا فضلاً عن مآسي ملايين المهجرين داخلياً، وملايين اللاجئين خارج البلاد؛ فما هو حال الثورة اليوم؟ وأين أصبحت مطالبها الأولى؟

تتطلب الإجابة عن ذلك، عودة إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى السياقات التي اشتعلت معها الثورة، سواء تلك المتعلقة بالثورات، التي انطلقت من تونس ثم مصر واليمن وليبيا وغيرها، ووصلت ارتداداتها قبل مارس/آذار 2011 إلى سورية، أو الأسباب البعيدة غير المباشرة، التي دفعت ملايين السوريين للنزول إلى الشوارع أواسط مارس 2011، للمطالبة بالحرية، وكسر سطوة الاستبداد الحاكم لبلدهم منذ نحو نصف قرن، لتتصاعد المطالب سريعاً خلال أسابيع بفعل القمع الوحشي للمتظاهرين، الذين طالبوا بـ”إسقاط النظام” بدل إصلاحه.

البداية: مطالب الكرامة والحرية

فيما يؤرَخُ للثورة السورية، على أنها انطلقت منتصف مارس 2011، فإن إرهاصاتها والمؤشرات الدالة على اقتراب تفجرها، كانت قد بدأت قبل ذلك بأربعة أسابيع؛ فظهر الخميس السابع عشر من فبراير/شباط 2011، وعند مدخل “الحريقة” أحد أشهر أسواق دمشق القديمة، وبعد إهانة شرطي مرور لشابٍ كان يقود سيارته في ذاك الشارع المزدحم، وتصاعد الإهانة اللفظية لاعتداء بالضرب، تجمّع عشرات الشبان عفوياً في محيط الحادثة، وأطلقوا هتافاً نابعاً من وحي اللحظة المشحونة: “الشعب السوري ما بِينذَل”.

سُمع دوي الهتاف في أرجاء ذلك السوق، ووصل صداه إلى عموم سورية بعد انتشار فيديو الواقعة على الإنترنت. يومها، وعقب أسبوعٍ على الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، وشهرٍ على هروب زين العابدين بن علي من تونس، كشفت الحادثة الرمزية، التي انتهت في غضون دقائق، بعد وصول وزير الداخلية السوري حينها سعيد سمور إلى المكان الذي يبعد عشرات الأمتار عن مكتبه القريب في ساحة “المرجة-الشهداء”، حجم الاحتقان القائم في النفوس المتأهبة للهتاف ضد سلطةٍ تحكم سورية بقبضةٍ أمنية حديدية، تحت حكم قانون الطوارئ منذ سنة 1963، وتُحرّم الهتاف العلني، إلا بحياة وانجازات “القائد” الذي يحكم سورية “للأبد”.

ظهر الثلاثاء، 15 مارس 2011، نظّم العشرات تظاهرة سريعة في سوق الحميدية الشهير وسط دمشق، وبدا الشعار الذي رُفع مرعباً للنظام وأجهزته الأمنية، على الرغم من أن أعداد المشاركين في التظاهرة كانت ضئيلة. فالهتاف المُعلن الذي دوى في آذان السامعين وسط دمشق كان “الله… سورية… حرية وبس”، بينما الآذان السورية تعرف هذا الشعار جيداً على أنه “الله… سورية… بشار وبس”، لكن تظاهرة الحميدية أسقطت الثلث الأخير من الشعار، لتستبدل “بشار” بـ”الحرية”، ولتبدو دلالات المفردتين متناقضتين.

بعد ثلاثة أيامٍ، كانت درعا جنوبي البلاد، تغلي على وقع إهانة أجهزة أمن النظام لمطالب الأهالي بإطلاق سراح أطفالهم من السجون، بعدما كانوا اعتُقلوا لكتابتهم على الجدران شعارات ضد رئيس النظام السوري. بلغ الغليان المُستتر ذروته، وتحول إلى تظاهراتٍ في الشوارع، واجهتها أجهزة أمن النظام سريعاً بقمع وحشي، انتهى بمقتل شابين من المتظاهرين بالرصاص يوم الجمعة 18 مارس، فيما كانت مدنٌ أخرى بينها دمشق العاصمة، وبانياس الساحلية تشهد بالتزامن تظاهراتٍ بدا أن رقعتها تتسع شيئاً فشيئاً.

كرة الثلج: إسقاط النظام

كرة الثلج تدحرجت، وبدأت الأحداث تتسارع شيئاً فشئياً، إذ انطلقت التظاهرات من درعا جنوبي البلاد، مروراً بدمشق وأريافها التي انتفضت، ثم حمص في الوسط، وإدلب في الشمالي الغربي، واللاذقية غرباً، ودير الزور شرقاً، وغيرها من المدن والبلدات شمال شرق البلاد وشمالها. لكن الشعارات فعلياً كانت عبارة عن مطالب بالحرية والكرامة، وكسر سطوة الأجهزة الأمنية على حياة الناس، قبل أن يزداد القمع الوحشي للأجهزة الأمنية مع اتساع رقعة التظاهرات السلمية. وبدأت حصيلة القتلى برصاص الأمن بالازدياد، حتى وصل عدد القتلى من المتظاهرين يوم “الجمعة العظيمة” (22 أبريل/نيسان 2011) إلى نحو مائة قتيل، وأدخل النظام بالتزامن، الجيش إلى درعا، في محاولة لكسر إرادة المتظاهرين هناك.

كل ذلك التسارع في اتساع رقعة المناطق الثائرة، والبطش المضاد لقمعها، بما في ذلك استخدام الأمن للرصاص الحي، وإنزال الجيش إلى بعض المناطق، سرّع رفع التظاهرات لشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”؛ إذ بدا أن النظام غير قابلٍ للإصلاح، وغير مستعدٍ أساساً لسماع أصوات المطالبين به.

يُجمع محللون ومتابعون على أن النظام وجد في اتساع رقعة التظاهرات السلمية ضده، حرجاً كبيراً أمام العالم الذي يراقب هذه التظاهرات ومطالبها، فشجع حركة التسلح التي بدأت بعد أشهرٍ من انطلاق الثورة، وهو ما يرفع عنه حرج شن حربٍ ضد الثورة. بينما وجدت شرائح من المتظاهرين، أن لا سبيل للحماية من رصاص أجهزة الأمن، إلا بحمل السلاح الخفيف، الذي تدفقَ على المناطق الريفية، فيما بقي النظام مسيطراً على مراكز المدن، وبدأ استخدام السلاح الثقيل والطيران الحربي ضد المناطق التي باتت خارج سيطرته، منذ سنة 2012.

بهذا الاختصار السريع، يُمكن إجمال تسارع وتيرة أحداث الثورة، التي أخذت منعطفاً نحو التسلح في سنتها الثانية، وتتالت المنعطفات لاحقاً في السنوات التالية، مع بروز الجماعات المتطرفة “القاعدة” و”داعش”، التي استغلت حالة الفوضى لتدخل على الخط، مستثمرة الاحتقان الشعبي الواسع نتيجة مجازر النظام المتتالية، وتقديم نفسها كطرفٍ يقاتل النظام، لكن وفق مشاريعها الخاصة، وإيديولوجيتها العابرة للحدود. هذا الأمر خلق تحدياً أمام قوى الثورة، التي باتت في مواجهة النظام وهذه الجماعات في الوقت نفسه، بالتزامن مع تسارع استقدام إيران لعشرات المليشيات لدعم النظام السوري عسكرياً لمواجهة قوى الثورة وحاضنتها الشعبية.

ضرب الحاضنة الشعبية

ويبدو أن استهداف الحاضنة الشعبية للثورة السورية، كان وما زال هدفاً رئيسياً، لكافة القوى التي تدخّلت لدعم النظام السوري، بهدف كسر إرادة تبنّيها لمطالب الثورة الرئيسية؛ فقصف المدن والبلدات التي تُعتبر حواضن للثورة السورية، وتعمّد قتل المدنيين فيها، هدفه وضع السكان أمام خياري: الهلاك، أو الخضوع وترك دعم الثورة ومطالبها.

ومع تحويل النظام وحلفائه، مدناً وبلداتٍ وقرى بأكملها، إلى حطامٍ نتيجة القصف والغارات لسبع سنوات، لا تتوفر بفعل استمرار تساقط الضحايا يومياً أرقام محددة لأعدادهم، لكن إحصائيات الأمم المتحدة، والمنظمات الحقوقية تتحدث عن أكثر من نصف مليون قتيل حتى الآن، فضلاً عن ملايين النازحين داخل سورية، ونحو سبعة ملايين آخرين خرجوا منها، معظمهم يقيمون في دول الجوار بشكل خاص، ومئات الآلاف نجحوا في الوصول لدول الاتحاد الأوروبي، ودول أخرى في شمال أفريقيا، والخليج العربي وغيرها.

على الرغم من كل ذلك، ما زالت شعارات الثورة الأولى المُطالبة بالحرية والكرامة وإسقاط النظام، تُسمع حتى اليوم، في التظاهرات القليلة التي تخرج سواء داخل سورية في المناطق التي لا يحكمها النظام، أو في الفعاليات التضامنية التي ينظمها سوريون في الخارج.

مجتمع الأسد “المتجانس”

بعد أن باتت سورية محكومة فعلياً بالتفاهمات بين الدول الكبرى الفاعلة فيها، ومسيطراً على الجانب الأكبر منها من قبل روسيا وإيران، أطل رئيس النظام بشار الأسد في أغسطس/آب 2017، ليقول في خطابٍ له بدمشق: “خسرنا خيرة شبابنا والبنية التحتية لكننا ربحنا مجتمعاً أكثر صحة وتجانساً”، مشيراً بذلك إلى المجتمع السوري “المنشود” الذي يأمل حكمَه في سورية التي يسيطر عليها.

ويبدو أن هذا “المجتمع المتجانس” من وجهة نظر النظام، هو المجتمع الذي لا يوجد فيه معارضون لحكمه؛ وبالتالي فإن تهجير الملايين، وقتل مئات الآلاف، كان للوصول إلى هذا “المجتمع المتجانس”، بدلاً من التنازل أمام مطالب التظاهرات الشعبية عند انطلاقها، وحماية البلد من الفوضى والانقسامات المجتمعية.

وسط كل هذه المآسي والمجازر التي يتعرض لها السوريون في مختلف المناطق، وفي الغوطة الشرقية راهناً، لا تزال شرائح كثيرة من السوريين، تُبدي تمسكاً بالثورة، وإصراراً على تحقيق مطالبها الأولى؛ ولعل كلام أحد السوريين في مدينة دوما لوفدٍ من الأمم المتحدة، الذي دخل تلك المنطقة المنكوبة لساعات، في الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار الحالي، يعبّر عن مشهد الثورة في أسوأ ظروفها. إذ أظهرت مشاهد مصورة نُشرت على الإنترنت، حديث ناشط سوري معروف في الغوطة الشرقية، يدعى أبو عماد المنشد، وقد وجّه كلامه لوفدٍ من الأمم المتحدة قائلاً: “نحن نُقصف بالكيماوي، ونحن نُقتل بالصواريخ الروسية، بسياسة الترويع وسياسة الأرض المحروقة(…) لسنا طلاب رغيف، نحن طلاب حرية ولا نزال ومصرين على انتزاع حريتنا من الطاغية بشار الأسد… كنا طلاب حرية، وبدأنا بسلمية، ولكن بشار الأسد ضربنا بالصواريخ”، قبل أن يرفع بقايا صاروخ بيده، كانت قوات النظام أطلقته على دوما في وقتٍ سابق.

 

 

 

7 سنوات من المسؤولية الإقليمية والدولية عن الدم السوري/ عدنان علي

خلال الأشهر الأولى من عام 2011، استقطبت التظاهرات السلمية التي عمّت المناطق السورية ضد نظام بشار الأسد، اهتماماً وتعاطفاً كبيرين على مستوى المنطقة والعالم، وتصدّرت تطوراتها اليومية نشرات الأخبار وتصريحات المسؤولين في مجمل الدول. وتدفق الدعم الإعلامي والسياسي والمالي على التنسيقيات والناشطين المحليين، مع غياب أي قيادة واضحة لتلك التحركات الشعبية التي اتسمت عموماً بالعفوية، وبالطابع المحلي. ومع أسلوب القمع المفرط الذي اتبعه النظام في مواجهة المتظاهرين السلميين وإزهاق أرواح المزيد منهم كل يوم على الهواء مباشرة، تعالت نبرة التصريحات الدولية المنددة، وصرح كثير من المسؤولين الأميركيين وفي مقدمتهم الرئيس السابق باراك أوباما، بأن “الأسد فقد شرعيته ولم يعد له مستقبل في سورية وأن أيامه باتت معدودة”. وهو ما شكّل أملاً زائفاً لدى السوريين الثائرين على النظام، وربما كان فخاً لهم أغراهم بالانتقال إلى العمل العسكري بدلاً من التظاهرات السلمية بغية تسريع إسقاط النظام، آملين في وقوف العالم معهم إذا عمدوا إلى محاربة النظام عسكرياً، خصوصاً مع ازدياد وتيرة القمع والاعتقالات من دون رادع فعلي من المجتمع الدولي.

غير أن التلاعب بثورة السوريين بدا أكثر وضوحاً في مرحلة الحراك العسكري الذي حقق في أشهره الأولى اندفاعة كبيرة، أوشكت على الإطباق على النظام في دمشق وعموم المدن السورية، لكن، وهذا ما اتضح لاحقاً، فإن “إسقاط النظام” كان ممنوعاً بتوافق دولي لأسباب عدة، إقليمية ودولية، وصولاً إلى الصراع الأميركي ـ الروسي الحالي على سورية.

في تلك الفترة، أي اعتباراً من عام 2012، تدفق المال والسلاح على فصائل المعارضة التي بدأت بالتكاثر ودحر النظام عن كثير من المناطق، غير أن هذا الدعم لم يُوجّه أبداً إلى “قيادة الجيش الحر”، وتوافق مجمل الداعمين على عدم تشجيع قيام جسم عسكري موحد محترف، بل حرصوا على توجيه هذا الدعم مباشرة إلى فصائل محددة، سرعان ما دخلت في التنافس والتناحر. كما أدت أموال الدعم دورها في شراء الولاءات وإفساد القيادات غير المؤهلة في الأصل والتي ليس لها خلفية عسكرية أو سياسية.

وكان التناحر بين هذه الفصائل على المستوى العسكري، وتشتت كتلها على المستوى السياسي، ذريعة أمام القوى الدولية، والولايات المتحدة خصوصاً، للإحجام عن تقديم دعم عسكري وغطاء سياسي للمعارضة السورية. وتعاملت الولايات المتحدة في عهد الإدارة السابقة بسلبية كبيرة مع المعارضة، فلم تقدّم لها سوى أشكال بسيطة من الدعم تحت شعار “أسلحة غير فتاكة” أو برامج تدريب خائبة، تخرّج منها بضع عشرات من العناصر سرعان ما انفرط عقدهم وابتلعتهم الفصائل الأخرى.

وبدلاً من تقديم دعم جدّي للمعارضة السورية، أو محاولة تجميعها في تشكيل واحد، فضّلت الولايات المتحدة الاعتماد على العنصر الكردي كشريك على الأرض لمحاربة تنظيم “داعش”، قبل إعلان واشنطن بوضوح أن “هدفها في سورية يقتصر على محاربة الإرهاب وتنظيم داعش تحديداً، ولن تدعم أية تشكيلات تحارب النظام”.

وعلى الرغم من ذلك، استطاعت فصائل المعارضة بالمستوى المحدود من الدعم الذي تلقته من دول إقليمية، تشكيل تهديد جدي للنظام منتصف عام 2013 وسيطرت على أكثر من نصف مساحة البلاد، حتى بات النظام محصوراً في مراكز المدن الرئيسية التي خسر اثنتان منها، وهما الرقة وإدلب، إضافة إلى مجمل الأرياف في البلاد. وبات وجوده في العاصمة نفسها مهدداً بالرغم من الدعم الإيراني اللامحدود بالأموال والخبرات والمليشيات، فانهارت قوى النظام واستنزفت إمكاناته مع خسارته لمعظم قواته الضاربة وفي مقدمتها سلاح الجو، الذي تعرّض لشبه انهيار مع سقوط المزيد من المطارات بيد المعارضة، وإسقاط الكثير من طائراته الحربية والمروحية.

بالتالي جاء التدخل العسكري الروسي في 30 سبتمبر/ أيلول 2015 بمثابة “حبل نجاة للنظام”، مكّنه من صدّ هجمات المعارضة، ومدّه بالمزيد من أسباب البقاء في ظلّ انكفاء أميركي متزايد ترك الساحة مفتوحة على مصراعيها لروسيا التي وضعت سلاحها الجوي وخبراتها العسكرية في خدمة الآلة الحربية للنظام. ثم تطوّر الموقف الروسي لاحقاً، فأصبحت موسكو هي القائد والمخطط الفعلي للعمليات العسكرية في البلاد، فضلاً عن تحكمها بالقرار السياسي والخيارات الأساسية للنظام.

وعملت الشراكة بين روسيا في الجو، وإيران من خلال مليشياتها على الأرض، على تغيير موازين القوى لصالح النظام تدريجياً، فتمّ قضم مناطق المعارضة تباعاً سواء في محيط دمشق، أم في حلب وشرق البلاد، وصولاً إلى الغوطة اليوم، بينما حصرت الولايات المتحدة اهتمامها بمحاربة “داعش” فوضعت يدها عبر حليفها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) على مجمل المناطق التي كان تحت سيطرة “داعش”، وتحديداً مناطق شرق الفرات الغنية بالنفط والمياه.

أما تركيا التي سعت لسنوات لإقناع الولايات المتحدة باتخاذ خطوات جادة لدعم المعارضة وإسقاط النظام، وسيطر خلال ذلك الوقت التردد على مواقفها متجنبة اتخاذ مواقف أحادية غير منسقة مع الولايات المتحدة، فقد اقتنعت أخيراً بأن لا فائدة من انتظار تغيير في الموقف الأميركي حتى بعد مغادرة إدارة أوباما للسلطة. فعمدت إلى تبديل تحالفاتها وأولوياتها وطوت شعار إسقاط النظام السوري، وتقاربت بدلاً من ذلك مع داعمَي النظام، روسيا وإيران، في ظل ما عرف بمسار أستانة، والذي سعت من خلاله بالدرجة الأولى إلى انتزاع اعتراف من هاتين الدولتين بضرورة مراعاة مصالحها واحتياجاتها الأمنية في سورية، وحماية حدودها مما تصفها “تنظيمات كردية إرهابية تهدد أمنها القومي”. من هنا جاءت عملية “درع الفرات” لطرد “داعش” من بعض مناطق ريف حلب الشمالي، ومن ثم عملية “غصن الزيتون” لطرد المسلحين الأكراد من منطقة عفرين، على الحدود السورية الشمالية الغربية.

أما الدول الأوروبية التي انخرط بعضها في ما سمي مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، فكانت مواقفها متشابهة مع الموقف الأميركي، وظل همها الرئيسي طوال السنوات الماضية ملخّصاً في محاولة ضبط حركة اللاجئين إلى أوروبا، وعدم تسرّب “الإرهاب” من سورية إلى أوروبا، من دون وجود حرج في هذا الإطار بفتح قنوات للتواصل مع أجهزة أمن النظام سراً وعلناً.

واليوم بات النفوذ الخارجي في سورية موزعاً على مجمل البلاد، فتركّز النفوذ الروسي على الشريط الساحلي مروراً بحمص، عبر مجموعة من القواعد البحرية والمطارات العسكرية، بينما بسط الطرف الأميركي نفوذه على جميع مناطق شرق نهر الفرات وشمال شرقي سورية وصولاً إلى الحدود مع تركيا، بما في ذلك آبار النفط والغاز، إلى جانب قاعدة التنف القريبة من المثلث الحدودي ما بين سورية والعراق والأردن، وبنائه قواعد عسكرية ومطارات في تلك المناطق.

أما تركيا فبدأت بالعمل على تشكيل حزام آمن لها من جرابلس إلى عفرين، معلنة قبل أيام بلسان الرئيس رجب طيب أردوغان، أنها “لن تكتفي بذلك وسوف تعمل على طرد المسلحين الأكراد من كامل الشريط الحدودي مع سورية البالغ طوله نحو 900 كيلومتر، بما يعني السيطرة على منبج وعين العرب (كوباني)، وصولاً إلى القامشلي في أقصى شرق البلاد”.

أما إيران فانصبّ اهتمامها بالدرجة الأولى على العاصمة دمشق ومحيطها، متخذة من منطقة السيدة زينب، شرق دمشق، قاعدة عسكرية و”روحية” لمد هذا النفوذ الممتد من كامل الريف الدمشقي، إلى مناطق في القنيطرة وشمال درعا، فضلاً عن مناطق في ريف حلب الغربي، خصوصاً تلك القريبة من بلدتي نبل والزهراء.

وهناك لاعبون آخرون، كالأردن، الذي يساوم جميع الأطراف على معابره الحدودية مع سورية، وإسرائيل الساعية إلى فرض منطقة عازلة على طول الحدود مع سورية، وامتلاكها يداً طويلة استهدفت عبر طائراتها حزب الله والحرس الثوري الإيراني. أما حصة العرب من “أصدقاء الشعب السوري” في ترك السوريين وحيدين، فهي تبقى كبيرة، إذ انقسمت الدول العربية المؤيدة لشعار الثورة السورية سابقاً بين معسكرين: من التحق عملياً بالرؤية الروسية لـ”الحل”، مثل السعودية والإمارات ومصر مثلاً، وهي رؤية النظام السوري، وجزء آخر مثل دولة قطر التي لم تتجاوز السقف الأميركي للمسموح وللممنوع تجاه الملف السوري، وبدت أقرب إلى الموقف التركي إزاء الحدث السوري، فبقيت لفظياً وإنسانياً مع الشعب السوري، من دون أن يتواصل دعمها العملي لفصائل مسلحة تواجه الإبادة الحرفية اليوم.

 

 

 

درعا وحمص وكفرنبل… مدن أشعلت الثورة السورية/ عمار الحلبي

مطلع 2011، كان السوريون يراقبون ثورات الربيع العربي، وكانت البلاد تعيش على صفيحٍ ساخن، حتّى الثلاثاء 15 مارس/آذار، عندما خططت مجموعة من الشباب للاعتصام في ساحة السرايا في مدينة درعا، لكن الأمن كان منتشراً بكثافة، فتأجّل التظاهر إلى يوم الجمعة التالي.

جاءت الاحتجاجات على أثر قيام مجموعة أطفال بكتابة عبارات مناهضة لنظام الأسد على حائط مدرسة في درعا البلد، ما دفع قوات الأمن العسكري بدرعا، بقيادة عاطف نجيب، ابن خالة بشار الأسد، إلى اعتقال الأطفال وتعذيبهم وقلع أظافرهم، وخلال محاولة ذويهم السؤال عنهم، قام نجيب بتوجيه كلمات مهينة لكبار العائلات، ما أدّى لبدء الاحتجاجات في محافظة درعا وقراها، والتي اشتهرت بكون مظاهراتها حاشدة، وضمت لافتات نقلت وقائع ويوميات الثورة.

اقتحمت قوات النظام درعا عدّة مرات، وتمكّن الأهالي مرات، والجيش الحر مرات أخرى من طردهم، حتى سحب النظام معظم ثقله العسكري من المحافظة. في 2017، أطلقت فصائل المعارضة معركة “الموت ولا المذلة” التي انتهت إلى طرد قوات النظام من معظم أحياء درعا البلد، وتوقّفت المعارك على أثر توقيع “هدنة الجنوب السوري”.

واليوم، بعد عدّة أشهر على هذه الهدنة، بدأت قوات النظام ترسل رسائل تنذر ببدء معركة واسعة هناك، بعد أن تمكّنت من شطر الغوطة الشرقية وتشديد الحصار عليها.

عاصمة الثورة

لُقّبت مدينة حمص بعاصمة الثورة السورية لكثرة التظاهرات التي خرجت فيها، والتي استنزفت قوات النظام. يقول الناشط الإعلامي أيهم الحمصي، لـ”العربي الجديد”: “أول مظاهرة في حمص تزامنت مع مظاهرة خرجت في درعا في 18 مارس/آذار 2013، وشارك فيها عشرات المدنيين عقب صلاة الجمعة من أمام مسجد خالد ابن الوليد في حمص القديمة، وتحولت إلى عدد من المظاهرات الطيارة (مظاهرة لا تثبت بمكان واحد)، فلم تتمكّن قوات الأمن من القبض على أي مدني”.

ويضيف أنه “في الجمعة التي تلتها، خرجت مظاهرات حاشدة من عدّة مساجد بمدينة حمص، وتوجّهت نحو ساحة الساعة في مركز المدينة، وتمكّن المتظاهرون من اقتحام الطوق الأمني، وردّت قوات الأمن بإلقاء القنابل المسيّلة للدموع، وحشد قواتها تمهيداً لتفريقها، ما أدّى إلى اندلاع اشتباكات بين الأمن والمتظاهرين، تم خلالها تمزيق صورة بشّار الأسد المرفوعة على مدخل نادي الضباط للمرّة الأولى”.

وأوضح أن “الأمن ردّ بتفريق المظاهرة بالرصاص والمياه واستخدام سيارات الإطفاء، وقام باعتقال عشرات المتظاهرين. تمدّدت المظاهرات بعدها في مدينة حمص، وصولا إلى (اعتصام الخالدية) الشهير، الذي ضم معظم أبناء حمص، وكان من أضخم مظاهرات المدينة، لتبدأ قوات النظام باستخدام الدبّابات والأسلحة الثقيلة وقذائف الهاون”.

لاحقاً، تشكل الجيش الحر، وبدأ الأمر يتحوّل من مظاهرات إلى اشتباكات بين قوات النظام والجيش الحر، وأسفرت الاشتباكات خلال عدّة أشهر عن تقدّم المعارضة وسيطرتها على معظم مدينة حمص. لكن قوات النظام عادت بإمدادات عسكرية، واستخدمت القصف المدفعي لاقتحام المدينة، وتم حصار حمص القديمة، والذي انتهى بسيطرة قوات النظام عليها بعد تهجير سكّانها ورحيل مقاتليها.

ولا يمكن نسيان صوت حارس مرمى منتخب سورية السابق، عبد الباسط الساروت، الذي هتف بسقوط النظام في ساحات وميادين مدينة حمص، وردد خلفه عشرات الآلاف من سكّان المدينة.

كفرنبل المحتلة

قدّمت مدينة كفرنبل في ريف محافظة إدلب، نموذجاً حضارياً في الثورة السورية من خلال لافتاتها الشهيرة، والتي تُرجمت إلى معظم لغات العالم، والتي باتت المدينة تعرف بها.

وتُعتبر كفرنبل من أوائل المدن التي خرجت ضد النظام، وكانت كل مظاهرة تضم لافتات ساخرة من النظام السوري والمجتمع الدولي، وحملت إحدى اللافتات تدوينة معبرة كُتب فيها: “يسقط النظام، تسقط المعارضة، تسقط الأمة العربية وجامعة الدول العربية، تسقط الأمة الإسلامية والمؤتمر الإسلامي، يسقط العالم، يسقط مجلس الأمن، يسقط كل شيء”.

وباتت اللافتات من أكثر الأمور التي تعبّر عن وضع السوريين، فعلى إحداها كتب الأهالي: “إلى جمعيات الرفق بالحيوان، حاولوا إنقاذنا فلم يعد أحد يكترث لإنسانيتنا”. وفي لافتة أخرى: “نطالب بالرجوع إلى خطوط ما قبل 15 آذار”، في إشارة إلى قيام جيش النظام بعد هذا التاريخ باقتحام الشمال السوري.

ولم تكتف المظاهرات بالسخرية من النظام، وإنّما سخرت من الفصائل المعارضة، مثل “هيئة تحرير الشام”، التي حاولت إسكات صوت المدينة عدّة مرات لكنها لم تنجح، رغم أن كفرنبل مدينة صغيرة يبلغ عدد سكّانها بضعة آلاف.

 

 

 

شركاء وأد الثورة السورية: “داعش” و”النصرة” وغيرهما/ عبسي سميسم

أدرك النظام السوري منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة السورية أن الشرط الأساسي، وربما الكافي للقضاء على هذه الثورة، هو شيطنتها وإلباسها ثوب الإرهاب. فمع خروج أول تظاهرة في مدينة درعا، بدأ النظام يروج لفكرة أن من يقوم بالتظاهرات هم عبارة عن مندسين يريدون إنشاء إمارات سلفية بدعم خارجي. وكان الشارع السوري الثائر يتعامل مع دعاية النظام، في تلك الفترة، على أنها غير قابلة للتصديق، حتى على سبيل النكتة بما أن الزعيم الشيوعي السوري العريق، رياض الترك، شارك، بحسب رواية الإعلام الرسمي البائس، في اجتماعات درعا لإنشاء دولة إسلامية هناك!

وحين لم يفلح النظام في إقناع حتى مؤيديه بهذه الفكرة، بدأ يعمل بشكل ممنهج على صناعة إرهاب يدسه في جسم الثورة بهدف القضاء عليها، فأرسلت إيران مستشارين لمساعدة النظام على تطبيق خطة تحويل الثورة إلى إرهاب، قام بعدها النظام بإطلاق سراح معتقلي سجن صيدنايا المتهمين بالجهادية السلفية، والذين كان قسم كبير منهم متهم بالانتماء إلى تنظيم “القاعدة”. وفور خروج تلك الجماعات من السجن، انتقل القسم الأكبر منها إلى شمال سورية حيث قاموا بتأسيس “جبهة النصرة” التي تتبع لتنظيم “القاعدة”، و”حركة أحرار الشام الإسلامية” التي تتبع المنهج السلفي من دون الارتباط بـ”القاعدة”، كتنظيمين جهاديين، صرحا في بداية الأمر بأن هدفهما هو نصرة الشعب السوري من المظلمة التي وقعت عليه من النظام.

وبدا واضحاً منذ بداية تشكيل هذين الفصيلين أن هناك إرادة دولية بتحويلهما إلى قوة ضاربة في مناطق المعارضة، إذ تم تحويل معظم الدعم، المقدم باسم الثورة السورية، إلى هذين الفصيلين، بدعوى أنهما يمتلكان “منظومة أخلاقية”، في الوقت الذي تم فيه حجب الدعم عن الجيش السوري الحر. كما تم تمكين هذين التنظيمين من قراءة الاحتياجات الخدمية لسكان المناطق المعارضة من أجل إكسابهما حاضنة شعبية. كما تم بث العديد من الشائعات، التي تشبه تلك التي تطلقها الفروع الأمنية، والتي كانت كلها تمجد المنهج السلفي “الجميل” وكيف أن النظام كان يحجب هذا المنهج عن السوريين. وبدأ تنظيما “جبهة النصرة” و”حركة أحرار الشام” بالنمو سريعاً، بقوة المال والسلاح الذي امتلكوه، إلى أن حصل الانشقاق في صفوف “جبهة النصرة” إثر إعلان أبو بكر البغدادي الانشقاق عن “القاعدة” وإعلان ما سمي بـ”دولة الخلافة في العراق والشام”، فبقي قسم، بقيادة أبو محمد الجولاني، على بيعة زعيم “القاعدة”، أيمن الظواهري، باسم تنظيم “جبهة النصرة”، فيما بايع قسم منهم البغدادي، وأسسوا ما عرف بتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، التي عرفت في ما بعد اختصاراً بـ”داعش”. في هذا الوقت، بدأت “حركة أحرار الشام” بالتمايز رويداً رويداً عن “جبهة النصرة”، والتخلي عن الجهادية السلفية، وتحويل نفسها إلى حركة وطنية تتبنى مطالب الثورة السورية.

كما شهدت مرحلة تشكيل “داعش”، في إبريل/ نيسان 2013، انكشافاً كبيراً لتوجهات هذا التنظيم، وتنظيم “جبهة النصرة”، المعادية للثورة السورية، والتي بدأت بالظهور بشكل علني، فقام الجيش السوري الحر بطرد كل عناصر “داعش” من شمال سورية، إذ توجهوا إلى مدينة الرقة، فيما بقيت “جبهة النصرة” تعمل ضمن مناطق المعارضة كشريك لفصائل المعارضة في محاربة النظام والعداء لتنظيم “داعش”. ومع توقيع “حركة أحرار الشام” على ميثاق الشرف الثوري مع فصائل الجيش السوري الحر، بدأ تنظيم “جبهة النصرة” يظهر على حقيقته ويُظهر عداءه للثورة، من خلال ملاحقة الناشطين وقتل الكثيرين منهم، كما بدأ باتباع استراتيجية تقوم على إنشاء مناطق سيطرة خاصة به. ومع بداية المعارك بين “داعش” وفصائل المعارضة أواخر العام 2014، بدأت قوات النظام تؤمن الحماية لعناصر التنظيم وتظهر أولويتها بمحاربة فصائل المعارضة على حساب تقوية “داعش”، إذ لعبت قوات النظام دوراً كبيراً في تأمين غطاء جوي للتنظيم من خلال قصفها لمواقع المعارضة أو الهجوم عليها من محاور أخرى، من أجل تسهيل مهمة “داعش”. كما لعب التنظيم الدور ذاته خلال المعارك التي كانت تقوم بها فصائل المعارضة ضد قوات النظام.

واستفادت إيران من تنامي قوة “داعش” في إعادة تأهيل النظام أمام الرأي العام الدولي، وتحويله من نظام قاتل يرتكب جرائم بحق الإنسانية إلى محارب للإرهاب. كما تم استخدام “داعش” في تسويق النظام كحامٍ للأقليات من خلال سحب التنظيم إلى أطراف المناطق التي تسكنها أقليات. حيث تم جلب التنظيم إلى مناطق شرق حماة، التي ينتمي معظم سكانها إلى الطائفة الإسماعيلية، كما تم جلبهم إلى حدود مناطق محافظة السويداء التي ينتمي سكانها للطائفة الدرزية، وتخويف السكان من خطرهم وجعلهم أمام خيار واحد كبديل عن النظام هو “داعش” الذي يعدهم بالموت، ليتحول التنظيم أيضاً إلى فزاعة يستخدمها النظام وإيران في وجه الأقليات.

ورغم كل العداء الظاهري الذي كان يسوقه النظام ضد “داعش”، إلا أن التنظيم كان يرتبط بعلاقات اقتصادية قوية مع النظام، سواء لناحية تزويد التنظيم بالسلع الأساسية التي يحتاجها مقابل استيراد النظام للنفط الذي كان يسيطر التنظيم عليه، أو لناحية تشغيل النظام للمنشآت الحيوية التي وقعت تحت سيطرة التنظيم، كسد الفرات وغيره. وبدأ يظهر، في بداية 2015، بشكل أكبر التنسيق بين “داعش” والنظام، برعاية إيرانية، إذ تم استخدام التنظيم كأداة لتقوية موقف النظام دولياً، فتم السماح للتنظيم في مايو/ أيار 2015 بالدخول إلى مدينة تدمر، ضمن مسرحية كانت واضحة للجميع، إذ تم السماح لعناصر التنظيم بقطع أكثر من 200 كيلومتر ضمن الصحراء وصولاً إلى تدمر من دون أن تقوم أي جهة باستهدافه. وفور وصوله إلى مشارف المدينة، أعطيت الأوامر لعناصر النظام بالانسحاب الكيفي من المدينة، ليتاجر بها النظام كمدينة أثرية مسجلة ضمن التراث العالمي يسيطر عليها الإرهاب.

وبعد التدخل الروسي في سورية أواخر سبتمبر/ أيلول 2015، بدأت الغارات الجوية الروسية تستهدف مواقع المعارضة المعتدلة من دون أن تطلق أي طلقة باتجاه التنظيم، ليبدأ مسلسل استهداف المعارضة تحت بند مكافحة الإرهاب، في حين ترك عناصر من تنظيم “داعش” في جنوب دمشق كذريعة لمنع سكان المنطقة من العودة إليها، في الوقت الذي يمكن للنظام أن يستعيد كل المنطقة خلال ساعات. وانتقلت إيران و”حزب الله” من التنسيق الخفي مع التنظيم، الذي يمكن الاستدلال عليه بنتائجه، إلى التنسيق المباشر والعلني، والذي توّجه “حزب الله” بعقد صفقة مع “داعش”، تم خلالها نقل 250 عنصراً من جرود عرسال الحدودية مع سورية إلى مناطق سيطرة التنظيم في دير الزور في ديسمبر/ كانون الأول 2017 مقابل جثث ثمانية قتلى من “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني كانت لدى التنظيم. ثم ليتابع النظام بعدها تنسيقه المكشوف مع “داعش” الذي استخدمه كرأس حربة في معاركه ضد المعارضة في ريف حماة الشمالي، إذ كان التنظيم يستولي على المناطق ثم يسلمها للنظام. وبعد انتهاء المعارك، فتح النظام ممرات آمنة لعناصر التنظيم باتجاه مناطق المعارضة في إدلب، التي تمكنت من محاصرتهم وأسرهم.

ولم تكن علاقة “جبهة النصرة” بالنظام وإيران وروسيا، تقل أهمية عن علاقة “داعش” معهم، إذ تكمن خطورة “جبهة النصرة” بكونها تسيطر على أراضٍ ضمن مناطق المعارضة. وقد قدمت “النصرة” خدمات كبيرة للنظام، كما حاولت وسم كل المعارضة المسلحة بسمة الإرهاب، من خلال محاولاتها المتكررة جر فصائلها للتوحد معها في الأوقات التي يتم تسليط الضوء عليها من قبل المجتمع الدولي كتنظيم إرهابي. كما ساعدت “النصرة” روسيا على إيجاد ذريعة لاقتحام مناطق المعارضة في حلب. ففي الوقت الذي أعلنت فيه روسيا أنها ستدعم قوات النظام في عملية اقتحام حلب القديمة بحجة وجود “النصرة” فيها، بدأ عناصر “الجبهة”، الذين لا يتجاوز عددهم المئات، في حلب بإقامة الحواجز والظهور أمام الكاميرات كي يثبتوا ذريعة الروس للتدخل. كما عقد “حزب الله” صفقة مع “جبهة النصرة” في سبتمبر/ أيلول 2017 نقل من خلالها عناصر من “النصرة” الموجودين في لبنان إلى محافظة إدلب. وتعود الخدمات التي قدمتها “جبهة النصرة” للنظام إلى بدايات تأسيسها، إذ ساعدته على وسم المعارضة بالإرهاب، في أول اجتماع دولي لما يعرف بأصدقاء سورية، والذي استبقته “جبهة النصرة” بساعات، لتعلن بيعتها لتنظيم “القاعدة”، الأمر الذي أربك الاجتماع ومنع دعم المعارضة.

 

 

 

ناشطون سوريون… تمسّك بالثورة وصمود في الوطن/ ريان محمد

خلال سبعة أعوام، هُجّر سوريون كثيرون من بيوتهم ومناطقهم. منهم من نزح إلى مناطق أخرى أكثر أماناً، ومنهم من ترك البلاد ولجأ إلى بلدان مجاورة وأخرى بعيدة. إلى هؤلاء، حسم آخرون أمرهم وقرّروا البقاء في سورية و”النضال” من أجلها.

تدخل الثورة السوريّة عامها الثامن، مع كلّ ما حملته الأعوام الأخيرة من ألم وقهر وموت واعتقال وإخفاء قسري وتهجير ونزوح ولجوء ودمار… وسط كلّ ذلك، لا سيّما اليأس المسيطر على أهل البلاد، ظلّ سوريون كثيرون متمسّكين بالأمل ومصرّين على الصمود في الوطن ومصمّمين على البقاء على تماس مع الآخرين وعلى العمل من أجل هؤلاء ومن أجل سورية حرّة على قدر آمالهم. مؤمنة أبو مستو، ومدين نحاس، ورضوان الحمصي، وأبو بشير دغمش، من هؤلاء الذين يحملون صفة “ناشطين”، وهذه حكاياتهم.

مؤمنة أبو مستو

من إدلب، حيث تكمل مؤمنة أبو مستو عامها الأول بعد تهجيرها من مدينة مضايا في ريف دمشق، تتحدّث إلى “العربي الجديد” عن الحصار الذي عانت وعائلتها منه، مثلما عانت مئات عائلات مدينة الزبداني التي اضطرت للنزوح إلى مضايا. اليوم، تتمسّك مؤمنة بحلم “العودة إلى مدينتي لأعيد بناء منزلي وزراعة أرضي”، في حين أنّها ما زالت تمارس في إدلب نشاطها المدني التطوّعي الذي كانت قد بدأته قبل أعوام، من خلال مبادرات مدنيّة تتعلق بتعليم الأطفال ودعمهم نفسياً بالإضافة إلى دعم النساء.

ومؤمنة أم لأربعة أولاد، ثلاث بنات وابن واحد، تقول: “كنا نعيش كأسرة نموذجية ميسورة الحال خارج البلاد، لكنّنا عدنا إلى سورية في شهر مارس/ آذار من عام 2011. حينها، كانت التظاهرات قد بدأت في الزبداني، وسرعان ما انخرطت فيها مع اثنَين من إخوتي، مشاركة وتنظيماً”. تضيف: “عملت تطوعياً مع ستّة ناشطين وناشطات على نقل أخبار الحراك وأسباب ثورتنا عبر مجلة محلية على شبكة الإنترنت. وبعد نحو عشرة أشهر، اكتشفنا أنّ ثمّة من يستغل الثورة لتحقيق أرباح مالية. كان واحداً منّا وأكثرنا تحمّساً للثورة، وكان يحصل على تمويل للمجلة من إحدى المنظمات من دون علمنا. كانت تلك أول صفعة في فبراير/ شباط 2012. بعد ذلك، صار السلاح ينتشر بين الناس لأسباب عدّة. بالنسبة إليّ، ما يهمّ هو أنّنا فشلنا في المحافظة على سلميّة الثورة. وبعد قليل من طغيان السلاح على العمل المدني، أيقنت أنّهم يسرقون الثورة منّا، فقررت مغادرة الزبداني والانتقال إلى مضايا التي كانت مستقرة نوعاً ما. وبعد أشهر من إقامتي فيها ووفاة ابنتي الكبرى في حادث سير، راحت الأوضاع في البلاد تتدهور بصورة متسارعة. وصارت الثورة مأزومة، فقررت العمل في السياسة، وانضممت إلى أحد التيارات السياسية وشكّلت مع مجموعة من الناشطات جمعية ضمّة، وكنا نهتم بمجال التعليم ورعاية الأطفال”.

وتتابع مؤمنة أنّه “على الرغم من أنّ عملي مدني، اعتُقلت في سبتمبر/ أيلول من عام 2013 لأسابيع عدّة، ومن بعدها استأنفت نشاطي وحاولت مع عدد من النساء الناشطات الدخول في تسوية تنهي الاقتتال وتعيد الأهالي إلى المدينة. لكنّ الرهان كان كبيراً على السلاح في إسقاط النظام، كذلك كان في الجهة الأخرى من لا يريد وقف القتال، ففشلت مساعينا. هكذا، رأيت نفسي أتوجه إلى العمل في مجال تنمية المجتمع ومساعدته على تحمّل كوارث الاقتتال. فنفّذنا مشاريع عدّة، تنموية واقتصادية وتعليمية وإغاثية”.

ولا تخفي مؤمنة أنّه “مرّت عليّ فترات كنت أشعر فيها بأنّني مهدّدة من قبل كل الأطراف المتحاربة. وقد تلقيت بالفعل تهديدات مباشرة، لكنّني ما زلت أؤمن بأنّ سورية هي جنّة من جنان الأرض، وأحلم بتوقّف القتل والتجويع، لأنّ ذلك لا يخدم أحداً وتجّار الحرب مستفيدون”. وتؤكد أنّها تحلم بـ”دولة يكون فيها كلّ إنسان حراً في حياته ودينه ورأيه، من دون إلحاق أيّ ضرر بالآخرين. وأحلم باستعادة سيارتي وبالعودة إلى منزلنا ومطبخي، وبالعمل في مجال التعليم والشأن العام”.

مدين نحاس

من معرّة النعمان، مدينته، كان الناشط مدين نحاس يراقب ما يجري في درعا في بداية الثورة. يخبر “العربي الجديد” أنّ “أوّل تظاهرة في معرّة النعمان خرجت بعد أشهر، إذ كان الجميع متخوّفاً من الأمن وغير قادر على التعبير عن رأيه. لكن حاجز الخوف كسر، وراح الناس يشاركون في التظاهرات، ليبدو الأمر واضحاً في يوليو/ تموز من عام 2012”. يضيف مدين أنّه “حينها، قررت مع عدد من الناشطين نقل ما يحدث في مدينتنا. لم نكن نملك التقنيات المطلوبة لرفعها على شبكة الإنترنت أو إرسالها. لكنّ الفكرة وُجدت، وبدأنا نصوّر بهواتف بدائية جداً ونبثّ التسجيلات عبر مواقع إلكترونية. ومن تلك المواقع كانت محطات التلفزيون تنقل ما يجري”.

ويتابع مدين أنّه في وقت لاحق، “شكّلنا ما يسمّى تنسيقية معرّة النعمان وريفها، واشترينا كاميرات ذات تقنية أفضل، وصرنا نبثّ مباشرة ونتعاون مع الوكالات المحلية والدولية لنقل ما يحدث في سورية. كذلك، كنّا ننسّق مع ناشطين من مناطق أخرى”. ويوضح مدين: “أنا شاركت في الثورة بعدما شاهدت كيف كانت تواجَه التظاهرات السلمية وتهاجَم، وكيف تطلق دوريات الأمن الرصاص على المتظاهرين. أظنّ أنّني حينها اخترت نقل أحلام السوريين ومطالبهم. أمّا اليوم، فقد اختلفت الرسالة نوعاً ما، إذ إنّنا وبدلاً من نقل الأحلام صرنا ننقل أخبار الموت والقصف ومعاناة السوريين”.

رضوان الحمصي

في ريف إدلب، يستقرّ الناشط رضوان الحمصي اليوم، هو الذي تهجّر من بابا عمرو في حمص. يخبر “العربي الجديد” أنّ بداية مشاركته في الثورة السورية كانت من خلال تظاهرات حمص، “عاصمة الثورة”، التي اشتهرت بأعداد المشاركين فيها والشعارات التي أطلقتها. ويقول رضوان: “كنت أخرج في التظاهرة وأصوّر بهاتفي المحمول، من دون أن أعلم سبب ذلك. وفي يوم، قرّرت نشر ما أصوّره على مواقع التواصل الاجتماعي، ليبدأ الصحافيون بالتواصل معي ومع أمثالي من الناشطين، وكذلك القنوات التلفزيونية. من خلالنا كانوا يعرفون ما يحدث على الأرض وينقلون ذلك عبر صور وتسجيلات فيديو. هكذا صار الأمر شغلي الشاغل”.

بعد حملات عسكرية عدّة على بابا عمرو، توجّه رضوان إلى دمشق حيث بقي نحو عام ونصف العام، ثمّ راح يتنقّل بين عدد من المناطق السورية الثائرة إلى أن انتهى به المطاف في إدلب. ويلفت إلى أنّ “المميز في تلك الفترة هي العلاقة التي بُنيت مع ناشطين في مختلف المحافظات ليُستكمل التواصل عبر الإنترنت وغرف التنسيقيات”. وفي إدلب، شهد رضوان معارك وقصفاً على مناطق إدلب، وما زال يحاول نقل معاناة السوريين، على الرغم من أنّه أصيب مرّات عدّة. وآخر إصاباته كانت في معسكر المسطومة في ريف إدلب، وقد جعلته يستعين بعكازات لفترة طويلة.

اليوم، لا يخفي رضوان امتعاضه ممّا وصلت إليه الحال في سورية. بالنسبة إليه، “بعد عام 2013، لم تعد ثورة مثلما خبرتها. الأمر صار مسألة بيع وشراء”. إلى ذلك، “ما زلت أحلم بالعودة إلى شوارع بابا عمرو”، لكنّه يعبّر عن “قلقي على مستقبل سورية في ظل بقاء النظام وكذلك في ظل ما أوجده تجّار الدين الذين يدّعون أنّهم ثوار”. ويشدّد على أنّ “الخلاص هو باندثار هؤلاء وإفساح المجال أمام المتعلمين والمثقفين والمدنيين للعمل. حينها تصير سورية أجمل”. على الرغم من نقمته تلك، فإنّ رضوان يؤكّد أنّه باقٍ في سورية ويحاول مواصلة ثورته “كرمى لشهداء الثورة الأوائل والمعتقلين حتى اليوم في سجون النظام”.

أبو بشير دغمش

ما زال أبو بشير دغمش، ابن المليحة، في الغوطة الشرقية، يتذكّر الأيام الأولى للثورة على الرغم ممّا يعانونه اليوم في الغوطة من حصار وقصف وتهديد بالتهجير. ويقول لـ”العربي الجديد” إنّ “امتلاكي دراجة نارية جعل الشباب في الغوطة يعتمدون عليّ في التظاهرات الأولى لمراقبة مداخل البلدة، خوفاً من هجوم الأمن على المتظاهرين. في وقت لاحق، صار هذا العمل منظماً وتشارك فيه مجموعة من الناشطين”. ويخبر أبو بشير أنّه “في إحدى التظاهرات، رأينا عناصر الأمن يقفون قبالتنا على بعد 300 متر وقد أخذوا وضعية الاستعداد لإطلاق النار. كنّا واثقين من أنّهم لن يطلقوا النار علينا، بل هم يحاولون إخافتنا، إذ إنّهم إخوتنا. وما الذي قلناه أو فعلناه ليطلقوا النار علينا! لكنّهم أطلقوا النار، وكانت الصدمة الكبرى بالنسبة إلينا”. يضيف أبو بشير أنّه “لبرهة، لم أصدّق. صرت أسمع أزيز الرصاص يمرّ بيننا. ركضنا بعدها وقد استشهد أحد المتظاهرين وجُرح آخرون. في ذلك اليوم، لم أعلم أن طبيعة نشاطي سوف تتبدّل من متظاهر يشغله تأمين المتظاهرين ورصد تحركات الأمن إلى مسعف للجرحى”.

ويتابع أبو بشير: “يومها، لم تستقبل المستشفيات والنقاط الطبية الجرحى، فنقلناهم إلى إحدى مزارع البلدة وتواصلنا مع أحد الأطباء ليسعفهم. كان طبيباً مسيحياً، وهو ما يؤكد أنّ الثورة لم تكن طائفية. مطالبها كانت تمسّ كل السوريين، وفي التظاهرات كان يشارك شباب مسيحيون ودروز وآخرون”. ويشدّد على أنّ “الثورة لم تكن إسلامية ولا سلفية أو غيرها”. يتوقّف ليشير إلى أنّ مرض ابنته لفترة طويلة وقضاؤه معظم وقته في المستشفيات، وكذلك إصابة أخيه من بعدها، دفعاه لأن يكتسب معرفة بالأدوية وببعض أساليب العلاج، كالحقن وغيرها، بالإضافة إلى معارفه من الأطباء. ثمّ يعود أبو بشير ليكمل حديثه عن المزرعة، فيقول: “ساعدت الطبيب في إخراج طلقات نارية من أجساد الجرحى. وقد عانينا كثيراً لتأمين الضمادات الطبية وأدوية التعقيم والخيوط الطبية. فتوليت مهمّة تأمين المستلزمات وتواصلت مع أحد الأطباء”. يضيف أنّه بعد ذلك، “شكّلنا فريقاً من 15 شاباً حينها، ورحنا نسعف الجرحى من دون الكشف عن هوياتنا. ومع زيادة العنف من قبل النظام واستخدام الأسلحة الثقيلة وبدء عمليات السيطرة على الغوطة من قبل الفصائل المعارضة، أقمنا نقطة طبية هي الأولى في الغوطة، وراح يتعاون معنا ثلاثة أطباء من طائفة الموحّدين الدروز وطبيب مسيحي. وأنا تابعت عملي في تأمين المستلزمات الطبية والأدوية ورعاية الجرحى. وصار الكادر الطبي يكبر حتى وصل إلى 10 أطباء”.

بعد ذلك، تحوّل أبو بشير إلى العمل في فرق الإطفاء والإسعاف، وسرعان ما شكّل نواة للدفاع المدني في الغوطة الشرقية انضمّت إلى منظمة الدفاع المدني. تسلم إدارتها لفترة، قبل أن يتنازل عنها لمصلحة من يحمل شهادة جامعية وقادر على تطوير عملها. بالتالي، راح يواصل عمله كعنصر في الدفاع المدني حتى يومنا هذا، في حين يحلم بأن “تتوقّف الحرب وأعود إلى بلدة المليحة وأحقق أحلام الثورة التي كنت أرددها في التظاهرات… حرية وكرامة لكل السوريين”.

 

 

سورية تكاد تختفي من الخريطة: فسيفساء لتقاسم مناطق نفوذ/ محمد أمين

اختفت سورية أو تكاد من الخارطة الجغرافية للشرق الأوسط بعد سبع سنوات من حرب مفتوحة شنّها النظام وحلفاؤه على السوريين المطالبين بنقل بلادهم من ضفة الاستبداد إلى ضفة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة. ونظرة فاحصة للخارطة الجغرافية السورية، توضح بشكل لا لبس فيه أن البلاد باتت مقسّمة على شكل مناطق نفوذ بين لاعبين إقليميين ودوليين اتخذوا من دعم المعارضة أو النظام فرصة للسيطرة على سورية، في ظلّ انعدام أيّ أمل بحلّ سياسي قريب ربما يُنقذ ما يمكن إنقاذه من دولة كانت مساحتها قبل عام 2011 نحو 180 ألف كيلو متر مربع، وتتمتع بموقع جغرافي استثنائي، وثروات جعلتها مطمع وهدف العديد من الدول.

بعد سبع سنوات على الثورة التي تحوّلت إلى صراع على سورية، أصبحت البلاد حطاماً أو تكاد، حيث لم يعد للسوريين، موالاةً ومعارضةً، أي دور في راهن بلادهم وربما مستقبلها. شرّع النظام أبواب سورية للمحتلين الذين بدأوا بتوزيع غنائم الحرب السورية عليهم.

وتبدو الولايات المتحدة الأميركية أبرز الخاسرين في سورية أخلاقياً، وأهم الرابحين على الصعيد العسكري وفرض النفوذ، إذ وضعت يدها على نحو ربع الجغرافيا السورية من دون أن تنخرط مباشرة في الحرب. دعمت قوات “سورية الديمقراطية” (قسد) التي يشكّل مقاتلون أكراد عمادها وقيادتها، حتى باتت تلك القوات تسيطر على جلّ منطقة شرق الفرات التي تعدّ “سورية المفيدة” بثرواتها المائية والزراعية والنفطية.

كذلك، تسيطر قوات “سورية الديمقراطية” اليوم على غالبية محافظة الرقة وكامل ريف دير الزور شمال نهر الفرات، وغالبية محافظة الحسكة، باستثناء مربعين أمنيين للنظام في مدينتي القامشلي والحسكة. كما تسيطر على ريف حلب الشمالي الشرقي شرقي نهر الفرات، ومدينة منبج وجانب من ريفها غربي النهر. ولكن هذه المنطقة خرجت بعد سنوات من سيطرة تنظيم “داعش” عليها، محطّمة، خصوصاً أنّ طيران “التحالف الدولي” أزال مدينة الرقة بشكل شبه كامل عن الوجود، وشرّد عدداً كبيراً من سكانها، وباتت لا تصلح للحياة. وتسيطر “قسد” أيضاً على سلسلة قرى جنوب نهر الفرات والتي تمتد من مدينة الطبقة غرباً حتى مدينة الرقة شرقاً، على مسافة أكثر من 60 كيلومتراً. كما تحتفظ الولايات المتحدة بوجود لها في قاعدة “التنف” على الحدود السورية العراقية والتي أُنشئت في عام 2016.

من جهتها، تسيطر قوات النظام ومليشيات إيرانية تابعة لها، على مدينة دير الزور وكامل ريف دير الزور جنوب النهر، بما فيه مدينتا الميادين والبوكمال. كما تسيطر على جزء كبير من البادية السورية التي يحتفظ الروس بوجود لهم فيها، خصوصاً في مدينة تدمر قلب البادية السورية. كذلك، تسيطر قوات النظام والمليشيات الإيرانية على غالبية مدينة دمشق وريفها، حيث تحوّلت العاصمة ومحيطها إلى منطقة نفوذ لإيران ممثلة بـ”حزب الله” ومليشيات عراقية وأفغانية. ويسيطر “حزب الله” على كامل الحدود السورية مع لبنان من جهة ريف دمشق، بدءاً من القلمون الغربي، مروراً بوادي بردى وانتهاءً ببيت جن وسواها من بلدات حدودية مع فلسطين المحتلة. كما يسيطر الحزب اللبناني على كامل منطقة القصير في ريف حمص الجنوبي الغربي، حيث تحوّلت المنطقة إلى قاعدة عسكرية للحزب إثر تهجير غالبية سكّانها في عام 2013، عقب حملة عسكرية وضع الحزب فيها كل ثقله.

ولا يزال النظام يسيطر على مدينة حمص التي تعرّض نحو 18 حيّاً من أحيائها لتدمير من قبل قواته خلال عامي 2012 و2013، في حين لا يزال ريف حمص الشمالي تحت سيطرة قوات المعارضة السورية وخصوصاً الرستن وتلبيسة والدار الكبيرة، إضافة إلى سهل الحولة وقرى عدة أخرى.

وتفرض قوات النظام سيطرة جزئية على محافظة حماة وسط سورية، حيث تسيطر على مدينة حماة مركز المحافظة وغالبية ريفها، في حين أنّ المعارضة لا تزال تسيطر على جزء كبير من ريف المحافظة الشمالي والشمالي الغربي. وتحتفظ إيران بقاعدة مهمة في منطقة جبل زين العابدين شمال غربي حماة، فيما تتمركز قوات روسية في مطار حماة العسكري الذي كان ولا يزال أهم مطارات النظام التي تقلع منها الطائرات والتي قتلت عشرات آلاف المدنيين.

وتعدّ منطقة الساحل السوري منقطة نفوذ واضحة للروس، حيث أقاموا قاعدة عسكرية كبرى في مطار حميميم العسكري في ريف اللاذقية، ومنها تنطلق الطائرات التي تجوب سورية وترتكب المجازر بحق السوريين منذ أواخر عام 2015. كما يحتفظ الروس بقاعدة بحرية في مدينة طرطوس على الساحل السوري، في إطار اتفاق طويل الأمد مع النظام، الذي منح الروس وجوداً دائماً في سورية، مقابل حمايته عسكرياً وسياسياً في المحافل الدولية.

وفي جنوب البلاد، تحوّلت محافظة درعا إلى منطقة نفوذ أردني أميركي، حيث ترتبط فصائل الجبهة الجنوبية التابعة للمعارضة السورية بالعاصمة الأردنية عمّان. وتسيطر المعارضة على جزء من مدينة درعا وريفها، فيما لا تزال محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية مدينة وريفاً تحت سيطرة النظام، مع وجود نفوذ إيراني في المحافظة من خلال مليشيات محلية تابعة لها تمويلاً وهدفاً.

وفي شمال وشمال غربي سورية، تقع محافظة إدلب بالكامل مع ريف حلب الغربي، تحت سيطرة المعارضة السورية وهيئة “تحرير الشام”، حيث تحتفظ تركيا بنفوذ واضح فيها من خلال الفصائل المرتبطة بشكل كامل بأنقرة، التي باتت على وشك السيطرة على منطقة عفرين شمال غربي سورية، حيث يخوض الجيش التركي وفصائل معارضة عملية “غصن الزيتون” ضد الوحدات الكردية.

كما تسيطر تركيا على مناطق واسعة من ريف حلب الشمالي الشرقي، إثر طرد تنظيم “داعش” منه في عام 2016، في سياق عملية “درع الفرات” التي انتهت بالسيطرة على مدن جرابلس والباب، وبلدات مهمة مثل الراعي ودابق. كذلك، تفرض أنقرة سيطرة غير مباشرة على مدينة أعزاز، كبرى مدن ريف حلب الشمالي، التي تقع تحت سيطرة فصائل معارضة سورية مرتبطة بالجيش التركي.

وبذلك، تحوّلت سورية بعد سبع سنوات من الحرب، إلى نموذج صارخ لـ “الدولة الفاشلة”، إذ لا سلطة للنظام ولا للمعارضة عليها، بعد أن تحوّل مفتاح القرار والمصير إلى دول إقليمية ودولية تبحث عن مصالحها وسط مأساة السوريين، التي خلّفت ما يربو عن عشرة ملايين مهجّر ونازح، ونحو مليون قتيل، وأكثر من مليون معوّق، وملايين اليتامى، في مأساة لم يشهد تاريخ البشرية الحديث مأساة تضاهيها. ورغم ذلك، لا يزال النظام يرفض التوصّل إلى حلّ سياسي يمهّد الطريق أمام عودة اللاجئين والنازحين للشروع في إعادة إعمار البلاد، إذ لا يزال يحلم بإعادة السوريين إلى حكمه المستبد، فيما يؤكد المجتمع الدولي أنه لن يشارك في عملية إعادة الإعمار من دون حلّ سياسي يرضي السوريين جميعاً.

لقد كان النظام خلال السنوات التي مضت، أميناً لشعار أطلقه في بدايات الثورة السورية “الأسد أو نحرق البلد”، وهو ما تحقّق إلى حدّ بعيد، إذ تحوّلت سورية إلى حريق كبير يصعب إطفاؤه في المدى المنظور؛ حريق عسكري، سياسي، اقتصادي، اجتماعي وفكري. انشطر المجتمع السوري عامودياً وعمّت البغضاء وانتشر الحقد الطائفي والعرقي. مدن كاملة اختفت عن الأرض، وأحياء باتت أطلالاً لحلمٍ تواطأ العالم بأسره على وأده بالصمت المطبق على جرائم لم تُرتكب من قبلُ بحق شعب من شعوب الأرض. تحوّلت البلاد إلى ميدان تجارب للأسلحة الروسية والأميركية الفتاكة، وساحة تكاسر وكباش سياسي دفعت ثمنه دولة كان اسمُها سورية تقع شرقي المتوسط، اختفت أو تكاد عن الخارطة.

 

 

 

شهداء أوائل غذّوا الثورة السورية بأرواحهم/ عمار الحلبي

مع دخول الثورة السورية عامها الثامن، ما زال السوريون يسقطون قتلى وجرحى على خلفيّة العنف المتمادي، لا سيّما العمليات العسكرية المتواصلة من قبل قوات النظام السوري. وتشير آخر بيانات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إلى أنّ 212 ألفاً و786 مدنياً قُتلوا منذ اندلاع الثورة، 192 ألفاً و793 شخصاً منهم على أيدي النظام السوري، بينما قتلت روسيا 5233 مدنياً. والثورة ما كانت لتستمر من دون التضحيات التي قدّمها الناشطون الأوائل، لا سيّما التضحية بأرواحهم. بهاء الدين العلي وغياث مطر ووجدي الصادق، من هؤلاء الشهداء، وهذه حكاياتهم.

“أحلم بالحرية”

حلم الحرية راود بهاء الدين العلي، الذي كان في عام 2011 يستعدّ للبدء بدبلوم الدراسات العليا في تخصصه، هو الذي أنهى دراسته في كلية التربية في جامعة حمص. وكانت الشرارة في درعا، فرأى بهاء نفسه ينخرط مباشرة بالعمل السلمي ضد النظام السوري. هذا ما يحكيه محمد أبو النور، لـ”العربي الجديد”، هو الذي كان رفيق بهاء لأكثر من عشرة أعوام في الدراسة وفي السكن في حيّ بابا عمرو. يضيف محمد أنّ “بهاء لم يردّ حتى على والده ووالدته في الأيام الأولى الثورة وقال لهما: أنتم في حماة استسلمتم أمّا نحن فلن نستسلم. وخرج واضعاً الشماخ (حطّة حمراء) على رأسه”.

ويكمل محمد: “انطلقت التظاهرة الأولى في حمص، عاصمة الثورة، من مسجد خالد بن الوليد، وكان بهاء في مقدّمتها. سريعاً، تمكّن الأمن من تفريقها واعتقل عدداً من المشاركين فيها. نجح بهاء في الهرب بأعجوبة من عناصر الأمن والاستخبارات، بعد عراك عنيف تمكّن في خلاله من تسديد لكمات إليهم. لكنّ ذلك لم يثنه عن الخروج لاحقاً في تظاهرات أخرى”.

وبهاء، بحسب محمد، كان “على قناعة بأنّ انتصار الثورة أمر حتميّ لأنّها حقّ. لذا قاد تظاهرات عدّة وهتف في مقدّمة المتظاهرين في حيّ بابا عمرو في حمص وحيّ جوبر الدمشقي: سورية نحنا رجالك… الله يلعن خوّانك. وفي وقت لاحق، تطوّع في صفوف فرق طبية بعد متابعته دورات عدّة في الإسعاف الأولي، وتمكّن من إنقاذ مدنيين. ومع اشتداد العمليات العسكرية ضد حيّ بابا عمرو، أُجبر على حمل السلاح مع كثيرين من شبان الحي الذين انخرطوا في صفوف الجيش السوري الحر”.

قضى بهاء في 14 سبتمبر/ أيلول من عام 2012، في أثناء اشتباك مع قوات النظام على محور حيّ جوبر في إطار عمليات لـ”الجيش الحر” حاول من خلالها استعادة السيطرة على حيّ بابا عمرو. استشهد تاركاً خلفه أحلاماً كثيرة لم تتحقق بعد، على رأسها “انتصار ثورة الكرامة والحرية ورحيل بشار الأسد”.

“عريس داريا”

لُقّب الشهيد السوري الشاب غياث مطر بـ”عريس داريا”، وهو كان من الناشطين الذين انخرطوا في الاحتجاجات الشعبية في عام 2011. عُرف غياث بسلميّته المطلقة، هو الذي كان يحمل المياه والورود ويقدّمها إلى المتظاهرين وعناصر الأمن والجيش الذين كانوا يهمّون بقمع التظاهرات، حتى بات أيقونة للنشاط السلمي.

تخبر شقيقته سوزان مطر “العربي الجديد”: “كنّا في المنزل نتابع الأخبار، عندما قرأنا خبر اعتقال يحيى شربجي ومعن شربجي وغياث مطر إثر كمين نصبته قوات النظام في السادس من سبتمبر/ أيلول 2011. وفي التاسع من الشهر نفسه، استشهد غياث في المستشفى العسكري بدمشق، قبل أن تنقطع بعد ظهر اليوم التالي الاتصالات الأرضية والخلوية وتُغلق كل مداخل الشوارع في داريا وينتشر الأمن في كل الأحياء والأزقّة”. تضيف سوزان أنّه “في الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم نفسه، أفرج الأمن عن شقيقي أنس مطر بعد اعتقاله لمدّة 60 يوماً. وبعد ربع ساعة من وصوله إلى المنزل، أتى شخصان ليبلغا والدنا باستشهاد غياث. فدخل إلى الغرفة حيث كنّا مجتمعين وقال لنا ودموعه تنهمر: زلغطوا… رح يجيبولكم الشهيد”. وتتابع سوزان أنّه “بعد نصف ساعة، تسلمنا جثمانه وسط حصار أمني خانق وإطلاق للرصاص والغاز المسيّل للدموع من على أسطح المنازل”.

تغصّ سوزان وهي تكمل سردها: “منعونا من تشييعه. وقد استشهد أحمد عيروط خلال محاولة تشييع غياث وسُمّي ذلك اليوم بالسبت الأسود. لا أنسى أيّ ثانية من ذلك اليوم، فأخي عاد جثّة هامدة واستشهاده أدمى قلوبنا”. وتشير إلى أنّ “سفراء دول أجنبية وشخصيات سورية شاركوا في العزاء. وبعد مغادرتهم، داهمت قوات الأمن المكان وأطلقت عيارات نارية وقنابل مسيّلة للدموع بهدف فضّ مجلس العزاء”.

بعد أسابيع من استشهاد غياث، ولد ابنه الذي أطلق عليه اسم والده: غياث مطر. يُذكر أنّ غياث كان يحمل الشهادة الإعدادية ويعمل في محل للمفروشات، وهو من “أوائل الذين دعوا إلى الحراك الشبابي السلمي”، بحسب شقيقته سوزان.

“ابني متل القمر”

وجدي الصادق، شهيد الثورة السورية الأوّل في محافظة إدلب، شمالي غرب سورية، وقد سقط خلال إطلاق نار على متظاهرين في حيّ القابون بدمشق. تحكي والدته، أم وسيم، لـ”العربي الجديد” عنه، مشدّدة على أنّ “وجدي كان جميلاً جداً مثل القمر”. تقول إنّ “وجدي حصل على الشهادة الإعدادية ومارس حياته بصورة طبيعية وكان يصنّع الحقائب. وبعد زواجه بستة أشهر، يوم الجمعة في 15 يوليو/ تموز 2011، طلب من زوجته أن تعطيه طقم عرسه. وعندما سألته عن السبب مستغربة، إذ كان متوجّهاً إلى المسجد، أصرّ على طلبه من دون أيّ توضيح”. تضيف أم وسيم أنّه “بعد صلاة الجمعة، كان اجتماع في الحيّ بهدف تنسيق تظاهرة في حيّ القابون بدمشق، لكنّ قوات النظام استبقت الاجتماع وأطلقت النار على الموجودين في المكان، فدخلت رصاصة في قلب وجدي وسقط على الفور جثّة هامدة”.

في ذلك الحين، كانت والدة وجدي في زيارة في مدينة بنش بمحافظة إدلب، “فوردنا اتصال من ابني الكبير يقول فيه إنّ وجدي استشهد، فطلب منه والده إحضار الجثّة إلى إدلب بسرعة”. وتخبر أنّ “أشقاءه كانوا يساعدون في إسعاف الجرحى في ذلك اليوم، وخلال توجّههم إلى مكان الحادثة وجدوا جثّة وجدي أمام المسجد مغطاة بعلم الثورة السورية. فنقلوه في سيارة خاصة إلى إدلب حيث جرى تشييعه بمشاركة آلاف المتظاهرين”.

وتكمل أمّ وسيم: “ما إن وصلت السيارة التي تقل وجدي إلى مدينة سراقب، كان في استقبالها مئات من سكان المدينة الذين رافقوها حتى وصلت إلى مدينة سرمين. هناك، خرج آلاف لمرافقة أوّل شهيد يصل إلى محافظة إدلب. ولا أنسى منظر الطريق الذي يصل مدينة سرمين بمدينة بنش، والذي ملأه المتظاهرون وربطوا المدينتَين بعضهما ببعض. بعدها، تحوّل تشييع الشهيد ومراسم العزاء إلى عرس شارك فيه كلّ أهل مدينة بنش”. واليوم، تتمنّى أم وسيم “الانتقام” من قتلة ابنها، وتؤكّد أنّها ترفض مغادرة سورية، لافتة إلى أنّ “الثورة في بداياتها كانت نظيفة لكنّها سُرقت لاحقاً”.

 

 

 

الاعتقال يؤرّق السوريين منذ سبعة أعوام/ ريان محمد

لطالما أرّق الاعتقال السوريين على مدى عقود، غير أنّ القلق كان على أشدّه خلال الأعوام السبعة الأخيرة، إذ نُفّذت حملات اعتقال واسعة طاولت عشرات آلاف الأشخاص، منهم أطفال ونساء وكبار في السنّ، على خلفية التحرّكات المطالبة بالحرية والكرامة. من هؤلاء أشخاص اعتقلوا لأيام، وآخرون ما زالوا محتجزين حتى اليوم من دون محاكمة عادلة منذ أعوام، في حين تختلط التهم بين واقعية وملفّقة، في ظل فساد شديد واتجار بملفات المعتقلين، إذ يصير للمعلومة عن أحدهم ثمن ولنقله أحدهم من مكان إلى آخر ثمن، ولإخراجه ثمن آخر. وتبقى عائلات كثيرة عاجزة عن معرفة مصير معتقليها بسبب فقرها، لتتخيّل قصص تعذيب محتمل وموت محتمل في تلك المعتقلات.

أولاد أم محمد

أم محمد، نازحة من الغوطة الشرقية منذ عام 2011، تنتظر مع زوجها منذ عام 2012 الإفراج عن أبنائها الثلاثة. تخبر “العربي الجديد” أنّه “في شهر سبتمبر/ أيلول من عام 2012، اعتقل ابني الكبير عند أحد الحواجز داخل دمشق بينما كان عائداً من عمله. هكذا حكى لنا زميله الذي كان يرافقه في الحافلة. وبعد أقل من أسبوع واحد، اعتقل ابني الثاني من محل الحلاقة حيث يعمل، وفي اليوم التالي داهمت دورية منزلنا واعتقلت ابني الصغير. حينها، لم يكن قد أتمّ بعد 18 عاما”. وتتابع أم محمد أنّ “ابني الكبير ترك زوجة وثلاثة أطفال خلفه، لم نوفّر فرصة أو سبيلاً لمعرفة مصير أولادنا، لكن من دون أيّ جدوى. وقد باع زوجي سيارة أجرة كانت مصدر رزقنا الوحيد، وأنفقنا ثمنها ونحن نحاول الحصول على معلومة عن أولادنا. لكن في كل مرة، كان ينقل لنا شخص ما خبراً مفاده أنّهم موجودون في فرع ما أو نقلوا إلى ذلك الفرع، أو أنّ أحدهم قتل. والخبر الأخير الذي وصلني كان قبل عامَين، ويقول إنّ اثنَين منهما انتقلا إلى رحمة الله، في حين أنّ الصغير ما زال على قيد الحياة. لكنّ ناقل الخبر طلب مبلغاً كبيراً لإخراجه. وعندما عبّرت عن صدمتي بالمبلغ، سألني الوسيط: ألا تشترين حياة ابنك؟”.

وتشير أم محمد إلى أنّه “ما زال لديّ أمل بأن أرى أولادي. لم أصدّق ولا للحظة واحدة أن يكون أحدهم قد مات. لن أصدّق إلا إذا دفنتهم بيدَي”. وتتابع بغصّة: “ما يحرق قلبي هو أنّني لا أعلم بأيّ ذنب أحرم من أبنائي. وأتساءل عن ذنب أولئك الأطفال الذين سوف يكبرون من دون والدهم. ماذا أجيبهم عندما يسألونني عنه؟”.

رجال عائلة تهاني

من جهتها، تهاني، نازحة من مدينة دوما في الغوطة الشرقية لدمشق مع عائلتها، تخبر “العربي الجديد”: “خرجنا من دوما، أنا وأخي الوحيد وأختي ووالدَينا، في عام 2012، نظراً إلى خوف أبي على أخي عبدو الذي كان يبلغ حينها 17 عاماً، واستقرينا في دمشق”. تضيف: “توظفت وكانت حياتنا عادية جداً. فوالدي رجل كبير في السنّ وأخي يعمل في محل تجاري. لكن في سبتمبر/ أيلول من عام 2016، اعتقل أخي عند أحد الحواجز من دون أن نعلم السبب. وبعد ثلاثة أشهر تقريباً، أتت دورية إلى بيتنا فجر أحد الأيام واعتقلت والدي كذلك. حينها، كان قد باع سيارته لكي يؤمّن مالاً يخرج به أخي. اليوم، مرّ أكثر من عام، ولا نعلم أيّ شيء عن مصيرهما”. تتابع تهاني أنّ “والدتي تسوء حالتها يوماً بعد يوم، وتستيقظ من النوم وهي تصرخ، وتعجز عن النوم إلا عندما تخور قواها. وحديثها كلّه يدور حولهما، وتدعو لهما، فهي قلقة عليهما… هل يحصلان على الطعام؟ هل يتعرّضان للتعذيب؟”.

وتلفت تهاني إلى أنّ “اعتقال والدي وأخي مثّل عبئاً كبيراً علينا، نفسياً واقتصادياً، بالإضافة إلى إنّنا نشعر برعب يومي. فنحن نتوقّع مداهمة منزلنا في أيّ لحظة إمّا للتفتيش أو لاعتقالنا. بالتأكيد، ليس لأنّنا ارتكبنا جرماً ما. وأعلم جيداً أنّ أخي ووالدي لم يرتكبا أيّ جرم كذلك. هما اعتقلا فقط لأنّنا من دوما. هنا، الاعتقال غير مرتبط بجرم، بل بمسقط رأسك. ابن عمّي كذلك، الذي اعتقل قبل أربعة أعوام، لم يفعل أيّ شيء. لكن بمجرّد أن يدخل معتقل ما إلى تلك الأقبية، فإنّه يعترف بألف تهمة”.

رامي هناوي

إلى هؤلاء، فإنّ ناشطين كثر اعتقلوا من جرّاء تحرّكاتهم وجرى تغييبهم قسراً عن الساحة السورية العامة. الناشط رامي هناوي، واحد منهم، تروي قصة اعتقاله الفنانة كفاح علي ديب، لـ”العربي الجديد”. تقول: “طوال الأعوام الماضية، فشلت في أن أروي أو أن أكتب قصة رامي الذي ما زال معتقلاً إلى يومنا هذا من دون أيّ محاكمة، ومن دون أن نعلم ما هو وضعه الجسدي أو النفسي. عندما يكون الشخص قريباً، فإنّ الحديث عنه مهمة صعبة جداً، لكنّني سوف أحاول”. وتخبر أنّه “يوم اعتقلنا في الخامس من أغسطس/ آب من عام 2012، كنت ورامي عائدَين من ضاحية قدسيا في ريف دمشق بعد لقاء بعض الأصدقاء، وكانت وجهتنا صحنايا. تلقينا اتصالاً من شخص قال لنا إنّ ثمّة عائلة في الشارع وتحتاج إلى مواد غذائية. وعلى الرغم من أنّ الرقم كان مسجّلاً لدى رامي، فإنّه لم يتذكر هوية المتصل. قلت له حينها إنّ الاتصال يثير قلقي وارتيابي، خصوصاً أنّ الشخص أصرّ على أن نلتقي في نقطة محددة. حاولت إقناع رامي بالاتصال به والاعتذار”.

وتسترجع كفاح الحديث الذي دار بينهما خلال توجههما إلى مكان الموعد، وتروي: “قلت لرامي إنّنا نتعامل مع الأشخاص بثقة زائدة من دون التدقيق مع من نتعامل. من الممكن أن يكون بينهم أشخاص يتعاملون مع الأمن، الأمر الذي قد يتسبب في أذيتنا. وعلى الرغم من أنّه أيّد مخاوفي، فإنّه كان مقتنعاً بأنّنا لا نفعل أيّ شيء خاطئ، إذ نشاطنا يقتصر على تأمين بعض المواد الغذائية وبعض الأدوية… نحن لا نحمل السلاح ولا نحارب أحداً، نحن نقدّم مساعدة إنسانية”.

وتتابع كفاح أنّه “خلال حديثنا، عاود ذلك الشخص الاتصال ليستعجل رامي. كان الموعد عند إشارة مدينة الجلاء على أوتوستراد المزة. وصلنا وتوقّفنا إلى جانب الطريق قبل الإشارة بمترَين. كنت أقول له ألا يتوقف بمجرّد فتح الإشارة، لكنّني لم أتمكّن من إكمال حديثي، إذ حاصرتنا ثلاث سيارات وترجّل من كلّ واحدة منها أربعة أشخاص، وجّهوا جميعهم فوهات بنادقهم صوب رأسينا، وطلبوا منّا الترجّل من السيارة ورفع أيدينا. حاولت أن أصرخ بأعلى صوتي أنّني كفاح علي ديب، لعلّ أحدهم يسمعني ويعرفني، فيخبر عائلتي وأصدقائي بأنّني اعتقلت. لكن سرعان ما تلقيت ضربة قوية على ظهري، وطُلب منّي أن أخرس”.

وتكمل كفاح أنّه “جرى إغلاق عيوننا بقطع من القماش ووضع كلّ منّا في سيارة مختلفة إلى أن وجدنا نفسينا في أحد المباني التابعة للأجهزة الأمنية وأُدخِل كلّ واحد منّا إلى غرفة تحقيق. استمرّ التحقيق معي نحو ستّ ساعات، وعندما خرجت كان رامي في الممر يتعرّض للضرب من قبل عدد من العناصر. بعدها، أنزلوني إلى الزنزانة، ولم أره حتى يومنا هذا”. وتساءلت: “لا أدري إن كان بعض من المواد الغذائية يستحق الاعتقال لأكثر من خمسة أعوام، وإن كان يصحّ أن يوصّف الأمر بالجريمة”.

لا قانون

في السياق، يقول محام في دمشق، فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ”العربي الجديد”، إنّ “القانون مغيّب ومشلول في سورية، وما من جهة تعتمد على القانون في ما يخصّ الاعتقال، بل إنّ الاعتقالات تخالف الدستور”. يضيف أنّه “لا يوجد أيّ دور للمحامي في متابعة المعتقلين قبل تحويلهم إلى المحاكم ونقلهم إلى السجون المدنية. أمّا في حال تحويلهم إلى المحكمة الميدانية، فالأمر سيّان، إذ لا دور للمحامي فيها، وهو كذلك بالنسبة إلى محكمة الإرهاب، إلا إذا كان المحامي يعرف أساليب ملتوية، ويكون ذلك في مقابل مبالغ مالية كبيرة”.

تجدر الإشارة إلى أنّ تقارير إعلامية تتحدّث عن أكثر من 200 ألف معتقل، في حين يجري الحديث ضمن مباحثات جنيف عن 70 ألف معتقل، بينما يعترف النظام بـ30 ألفاً.

العربي الجديد

 

 

 

سوريا إلى عام “الترانسفير” الثامن/ نذير رضا

سوريا إلى عام “الترانسفير” الثامن الخروج من المدن استحال صوراً تنخر وسائل الإعلام

…ولعام ثامن مقبل، يُستكمل “الترانسفير” السوري. لا وجهة محددة له، ولا ترتيبات. وحدها القذائف تحدد التوقيت. ووحدها آلة القتل، ترسم معالم الطريق للخروج.

لا فرق في التسمية. خروج آمن أم نزوح. هو خروج بالاكراه.

لا يعرف الطفل المحمول في شنطة سفر من الغوطة الشرقية إلى دمشق، أياً من تلك التسميات، وهي لا تعنيه. كل ما يعرفه أنه يستودع قلباً في منزل تركه. في غرفة هشمها الرصاص. في نافذة تسلل منها دخان القصف الى سريره، فاحتمى تحته، قبل أن ينتقل في رحلة “خروج آمن”.

كان السوريون يطمحون في ربيع 2011 أن يدخل من أَقصاه الحكمُ، بلاده مرة ثانية. سار السوريون لتحقيق الهدف. أخرجوا مَن عرقل دخول المبعدين، من البلدات والمدن. اشتغلوا بـ”الأمل”. الأمل وحده ببناء سوريا تعددية، ودولة ديموقراطية، لا تُبعد ولا تُقصي.

وبعد سبعة أعوام، وجدوا أنفسهم مبعدين، كل من بيته وحارته. بدأوا بخروج استحال صوراً تنخر وسائل الإعلام وتتصدر صفحاتها الأولى. والآن يستكملون رحلة الخروج.

بعد سبعة أعوام، وجد السوريون أنفسهم مجبرين على رحلة معاكسة. لا المُبعد عاد، ولا المهاجر تجرّأ على العودة.. وعوضاً عن ذلك، رحل المقيم. غادر. نزح. تشتت. انها رحلة الترانسفير السوري. لا تهم تسميتها، ولا كيف يتناقل الاعلام العالمي توصيفاتها. انها تهجير.

خروج تحت ضغط الخوف والوعيد بالموت. “ترانسفير” الغوطة وعفرين، يستكمل ما حصل في حلب وداريا والغوطة الغربية والجنوبية وحمص وكفريا والفوعة والرقة.. يكمل سياق الإعدام بالإبعاد. الحكم بالموت المكتوم. حكم الموت بالحنين لبيت الياسمين.

كانت أطراف القتال تتصارع على الثبات. اليوم تتصارع على الإبعاد، وتحاول تجميل صورته. وبينما يعمل النظام على تقديم “صورة إنسانية” لجنوده، ما زالت المعارضة أسيرة الصورة الأولى. صورة القتال، وكادر الجثث الذي يوحي بانتصارات وقتية. وهي الصورة التي علق فيها المقاتلون الأكراد أيضاً، ويبثونها للعالم.

تتصارع الصور الحربية بعضها مع بعض. كما تتصارع صور الخروج. لم يعد الصراع على حق في السكن والأمان. بات الصراع على الخروج. الخروج الآمن، يقابل التهجير. تقاتل الأطراف على منح النزوح صفة انسانية. تركيا والنظام يتفقان على منح ممرات الرحيل صفة “الممر الآمن”. وتحتدم الصور مرة أخرى: عسكري يساهم في ملاطفة طفل، بينما طفل آخر يُحمَل في حقيبة سفر. انه الصراع على الشكل، وليس على المبدأ الذي بات واقعاً في العام السابع، بتوافق دولي، ويُستكمل في عامه الثامن، كل من موقعه ومكانه.

آلاف الصور الشبيهة خرجت من سوريا مع أهلها. لم تحرك العالم، ولن تحركه. فهؤلاء مجرد أرقام. وخروجهم، يتخطى كونه انجازاً لـ”المنتصر” في الحرب. أيضاً لا يهم من المنتصر وكيف؟ المهم أن هناك انتصاراً يُبنى على ركام، ولو أنه يسكن دموع العجز، ونظرات الأطفال الذاهلين.

سوريا إلى عام ثامن من الثورة، وهي رحلة تهجير مستمر. ترانسفير الوجع.. وبعض من آمال مرسومة على الجدران المدمرة، تركها العائدون في يوم ما الى المنزل الأول.

المدن

 

 

 

سوريا: سبع سنوات من الثورة والتجاهل الدولي/ سلام السعدي

مرّت سبع سنوات على انطلاقة الثورة السورية ولا تزال صور القتلى والجرحى والنازحين واللاجئين والدمار تهيمن على المشهد السوري. لم يتوقّع أحد أن يتمكن نظام دكتاتوري في أي مكان من العالم من قتل المئات من الآلاف وتهجير الملايين من شعبه لمدة سبع سنوات متواصلة، بلا توقف ولو ليوم واحد، ودون لأن يحرك العالم ساكناً. وعندما قررت بعض دول العالم التدخل، جاء قرارها إما لحماية النظام السوري في حالة روسيا، وإما لقتال تنظيم داعش في حالة أميركا. وفي كلتا الحالتين، ساعد التدخل الخارجي النظام السوري على متابعة عمليات القتل والتهجير والتدمير والانتقام من الثورة الشعبية.

ولكن التجاهل الدولي للجرائم التي يرتكبها نظام دكتاتوري ليس مقتصرا على الثورة السورية. ففي النزاعات الداخلية، سواء كانت تطالب بالديمقراطية أو بحق تقرير المصير، غالبا ما كان المجتمع الدولي يقف متفرجا. وعندما تقرر بعض الدول الغربية التدخل، كانت تفعل ذلك في وقت متأخر للغاية، وبالتزامن مع حاجتها لتحقيق مصالح جيوسياسية معينة.

حدث ذلك على امتداد عقد تسعينات القرن الماضي في الحروب الأهلية التي اندلعت في يوغسلافيا السابقة. أبرز تلك الصراعات كانت حرب البوسنة حيث ترك المجتمع الدولي القوات الصربية تعيث خرابا وقتلا وتدميرا في البوسنة وتقوم بالتطهير العرقي دون أن يحرك ساكنا لمدة ثلاث سنوات. في ذلك الوقت، رددت الولايات المتحدة تبريرات مشابهة لتلك التي ترددها لتبرير التقاعس الدولي عن حماية المدنيين في سوريا. “لا يمكن لأميركا أن تكون شرطي العالم”، ردد وزير الخارجية الأميركي آنذاك في جلسات عديدة لمجلس الأمن كانت تنتهي من دون أي اتفاق على حماية المدنيين ووقف عمليات التطهير العرقي، وتؤكد بدلا من ذلك، وبصورة سريالية،على “الحل السلمي” للنزاع.

وكما في الحالة السورية، وجدت القوات الصربية كل الدعم من موسكو التي كانت خارجة للتو من تجربة انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكنها كانت لا تزال قادرة على حماية نظام التطهير العرقي بقيادة الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش.

تصاعدت انتهاكات القوات الصربية عاماً بعد آخر، وتزايدت جرائم الإبادة التي ارتكبتها، كما منعت قوافل المساعدة والإغاثة الدولية من الدخول للمناطق المستهدفة والتي يقطنها السكان المسلمون من البوسنة، بل واحتجزت قوات حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة. كل ذلك دفع الولايات المتحدة بقيادة الرئيس الأميركي الجديد، في ذلك الوقت، بيل كلينتون إلى قرار إنهاء الصراع باستخدام القوة الأميركية.

أدركت الولايات المتحدة حينها أن الوسيلة الوحيدة لإنهاء الصراع والتوصل إلى “حل سلمي”، كما دعت دائما، هو للمفارقة، استخدام مدروس للقوة العسكرية وتحقيق توازن عسكري بين الطرفين. هكذا شنّت قوات حلف شمال الأطلسي حملة قصف عنيفة للغاية على مواقع القوات الصربية. من ثم جمعت أميركا أطراف الصراع في مدينة دايتون وتمّ الاتفاق على إنهاء الحرب.

تبدو فصول حرب البوسنة وتفاصيلها وكأنها تعيد نفسها في سوريا ولكن بصورة أكثر مأساوية. منذ بداية الحرب السورية، كان لأي دارس لطبيعة النظام السوري أن يتيقن من عدم إمكانية حصول مفاوضات جدية طالما استمر التفوّق الكاسح للنظام السوري وطالما امتلك بصيص أمل بالنصر المطلق. عقدت الأمم المتحدة تسع محادثات سلام في مدينة جنيف انتهت جميعها لفشل تام.

وبدلا من أن يجري وقف جرائم النظام السوري عن طريق تحييد الطيران الحربي الذي كان يدك مناطق المعارضة ويرفع بصورة هستيرية من أعداد القتلى ويتسبب بأزمة لجوء ويمنع تشكيل مناطق ذات حكم ذاتي، قرر العالم إيصال رسالة للأسد مفادها أنه لا يوجد أفق حقيقي للمحاسبة. وصلت الرسالة بصورة رئيسية بعد تراجع الإدارة الأميركية عن توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد بعد استخدامه للسلاح الكيماوي في أغسطس من العام 2013.

ولكن عوامل أخرى ذاتية ساعدت في تعزيز التجاهل الدولي لمعاناة السوريين بخلاف ما حدث في النهاية في حرب البوسنة. ففي حين عملت القوات البوسنية تحت قيادة سياسية مركزية ومن خلال جيش موحد، وإن كان مسنودا بالميليشيات، بقيت الثورة السورية تعاني من اللامركزية الشديدة والتشتت والاقتتال الداخلي منذ انطلاقتها.

كما أعطى الخطاب الإسلامي المتشدد الذي هيمن على صفوف الفصال العسكرية للثورة منذ العام 2013 العالم ذريعة مناسبة لعدم التدخل. لم يحدث ذلك للقوات البوسنية رغم التحديات الكبيرة وجرائم التطهير العرقي، كما لم يحدث للثورة الفلسطينية رغم التفاوت الهائل في ميزان القوى بين الطرفين. ولكن الثورة السورية حدثت في زمن مختلف. إذ شهد العقد السابق لها تجذّر تجربة الجهاد الإسلامي في أفغانستان والعراق. نتج عن تلك التجربة الآلاف من العناصر والقادة الجهاديين، وقد توافدوا إلى سوريا، أو خرجوا من سجون نظام الأسد مع اندلاع الثورة ليؤسسوا عددا كبيراً من الفصائل العسكرية. وأخيراً، تغيّر ميزان القوى العالمي في زمن الثورة السورية، إذ نما طموح موسكو على الصعيد العالمي وأكدت عودتها كقوة إمبريالية عالمية.

وقد كان دورها حاسما في صمود النظام السوري من جهة، ومنع أي تدخل دولي ذي معنى في الأزمة السورية من جهة أخرى. هكذا، ورغم أن التجاهل العالمي لمعاناة المدنيين في النزاعات الداخلية يبدو أمراً مألوفاً، لم يحدث أن استمر هذا التجاهل لسبع سنوات لم تتوقف فيها عمليات القتل يوما واحدا. من جديد، تسجل الذكرى السنوية السابعة للثورة السورية استثنائية وفرادة تلك الثورة ضمن سجلات التاريخ.

كاتب فلسطيني سوري

العرب،

 

 

 

غرفة تعذيب اسمها سوريا… وحياد أممي فاضح

رأي القدس

استعاد نظام بشار الأسد، ذكرى انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية السلميّة ضدّه في آذار/مارس من عام 2011 بمنهجيته المعتادة: تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بوقف فوري لإطلاق النار عبر اجتياح الغوطة الشرقية لدمشق، وكانت آخر أفعاله قصف سوق شعبي في الغوطة الشرقية المحاصرة والمجوّعة والمتعرضة للاجتياح حالياً، مما خلّف عددا كبيراً من جثامين الأبرياء المحترقة، وإعدامات ميدانية لمئة شخص في بلدة حموريّة التي احتلها قبل أيام، ثم استخدم أهاليها دروعاً بشريّة لصدّ هجوم معاكس للمعارضة، فيما تعرض وسائل إعلامه صور آلاف المدنيين الجوعى يخرجون من أراضيهم وبيوتهم مهزومين، في متابعة حثيثة لمقتلته الكبرى التي بدأها في درعا وانتقلت إلى بانياس وحماه وحمص، ثم تمدّدت إلى كافّة أنحاء سوريا.

الأمم المتحدة، التي تراقب، عبر مبعوثيها ومنظماتها والناطقين باسمها، تفاصيل الكارثة السورية، تابعت بدورها تقاريرها المخيفة عن أحوال تلك البلاد: قوات «الحكومة» السورية والميليشيات المتحالفة معها تستخدم الاغتصاب والاعتداء الجنسي على النساء والفتيات والرجال لمعاقبة المناطق المعارضة، والأطفال خصوصاً هم ضحايا «جرائم حرب»، وأن البلاد صارت كلها «غرفة تعذيب ومكانا للرعب الوحشي والظلم المطلق»، وأن النظام السوري يخطط لما يشبه «نهاية العالم»، وتنهي كل ذلك بتبشير السوريين بأن المحنة السورية في عامها الثامن ستشهد «معارك طاحنة».

لكن باستثناء هذه التصريحات المرعبة للمنظمات التي تمثل الشرعية الدولية فإن العالم، وأدواته الفاعلة، كمجلس الأمن الدولي، والمنظومة الدولية عموما، مستنكف تماماً عن أي محاولة للتدخّل لوقف المجازر، فيما يطلق أقطابه كل فترة تحذيرات للنظام من استخدام النظام للأسلحة الكيميائية (التي لم يكفّ طبعا عن استخدامها) في خذلان عجيب لملايين السوريين الذين تُركوا ليواجهوا نظاماً وحشيّاً، مدعوماً بآلة القتل الروسية التي جعلت سوريا ميدانا لتجريب أسلحتها والتفاخر بفاعليتها وتسويقها تجارياً، وبميليشيات إيران المتعددة الجنسيات، التي تعتبر ما يحصل تكريساً لنفوذها الكبير في المنطقة العربية.

استدعت هذه المحنة المستمرة أسئلة ممضّة للسوريين، وخصوصاً بعد انتشارهم الكبير في المنافي وتنامي التيارات العنصرية الكارهة للمهاجرين والمسلمين منهم خصوصا، عن سبب تكاثر السكاكين عليهم، وإذا غضضنا طرفاً عن الموالين الذين نزعوا عن المدنيين إنسانيتهم ورحّبوا بأعمال الإبادة، لوجدنا حلفاً عجيباً يجمع بين أيديولوجيات متخاصمة نظريا، فيجتمع في تأييد نظام الأسد وإبادة شعبه بعض مدّعي المقاومة والممانعة العرب، مع ميليشيات تابعة لإيران، مع تيارات العنصريّة الفاشية الغربية الكارهة للإسلام، مع اليسار الستاليني.

بعض أنصار الثورة أعادوا، في هذه المناسبة، تأكيد وفائهم لفكرة الثورة رغم الكارثة المديدة على الجغرافيا السورية، والهزائم الكبيرة التي تعرّضت لها، وتحوّل بلادهم إلى مركز صراع إقليمي ودولي بالوكالة، وتراجع التيارات الديمقراطية والمدنية أمام مدّ السلفيّة والجهادية المسلّحة، التي ضيّقت بدورها على سكان المناطق المحررة من النظام، وكثيرون منهم انهمكوا في لوم العالم، والعرب، وبعضهم البعض، فانهمر اللوم على التيارات الإسلامية، وعلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة وعلى المثقفين، بل إن البعض انشغلوا بلوم الشعب نفسه، وذمّ هويتهم العربية والإسلامية وثقافتهم ودينهم، في حالة تدمير ذاتي ناتج عن الإحباط أو الألم والمرارة.

البعض الآخر طالب بمراجعة لمفاهيم متجذّرة، كالوطنيّة السورية نفسها، التي انقسمت شر انقسام على أسس طائفية وإثنية، بعد أن امتهنها النظام شرّ امتهان، بتحوّله إلى مطيّة للقوى الأجنبية ضد شعبه، وهو ما حوّله، بالنسبة للسكان أنفسهم، وللعالم، إلى جيش احتلال أجنبيّ وحشيّ يدافع عن طغمة كاسرة دمّرت البلاد وباعت مستقبل الشعب وأراضيه للحفاظ على السلطة.

لقد فتحت المحنة أبواب الجحيم على السوريين، لكنّها فتحت أيضاً نافذة الوعي الحادّ بإشكاليات العالم كله، والوعي هو جزء من حلّ المشكلة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى