صفحات سوريةمعتز حيسو

الثورة السورية في عامها الثاني ((واقع وآفاق))


معتز حيسو

لم يكن مفاجأً خروج السوريين عن صمتهم بعد عقود من المعاناة والإقصاء والقمع والإفقار. صحيح أن التظاهر كان يمثّل حلماً صعب المنال بفعل سيادة ثقافة الخوف المتجلية عن الهيمنة الأمنية،التي اشتغل في إطارها الفرد على تكييف ذاته مع واقع سياسي طابعه الصمت خوفاً واحتساباً من المجهول الذي ينتظره عندما تخول له نفسه التعبير عمّا يفكر به. لتتحول سورية إلى مملكة للخوف والصمت والرعب، وليتحوّل فيها كل إنسان إلى رجل أمن على ذاته، فيضع على حرياته خوفاً، الحدود والضوابط التي لا تنتهي. حتى بات يعاني تناقضاً داخلياً وذاتياً ينعكس على شكل علاقاته الاجتماعية التي تتجلى بالتناقض والازدواجية والكذب على الذات قبل الآخرين .لكن ما أن صدحت حناجر السوريين للحرية، حتى بدأ هذا التناقض بالتراجع، فعاود بناء ذاته على أسس التوافق ،الذي يشكّل نقيضاً للتناقض الذي لازمه لعقود خلت. وبالتزامن مع هذا التحول، بدأ جدار الصمت والخوف يتلاشى في سياق يتشكّل فيه وعياً مطابقاً للواقع ومعبراً عنه وعن ذات الإنسان المتوثبة للحرية. عند هذه اللحظة وفي ساحات( الحرية) بدأ يتشكّل وعياً اجتماعياً وسياسياً جديداً، لكن بقدر ما يحمل هذا التحول من إيجابيات، فإنه يحمل في أحشاءه جنين الإقصاء والرفض للآخر، ليبقى العقل الأحادي خطراً مهيمناً ينذر بالخوف من المستقبل المجهولة ملامحه. ويهدد بمخاض عسير للديمقراطية والكرامة والحرية التي حلم بها وما زال المواطن السوري الذي يقدم دمه وحياته مقابلاً لها. فظاهرة هيمنة الأنا الأحادية، تتجلى ملامحها في نمط و شكل العلاقات في الأوساط السياسية،ولا يخرج عن هذا السياق من يتشكّل وعيهم السياسي في الساحات.

صحيحاً أن الخلاف والتباين السياسي والنظري، يشكّل حالة موضوعية، لكن عندما يتحول التباين إلى تناقض، في لحظة تفترض التوافق على مهمات سياسية مفصلية يفترضها الواقع السياسي الميداني، فإن في هذا إشكالية سياسية واجتماعية. ولا نرد هذا فقط إلى أشكال تجليات نمط الوعي الذي تكرّس بفعل الاحتكار السياسي والاستبداد. بل يرتبط موضوعياً بنمط الوعي السائد، الذي يعبّر موضوعياً عن البنية العقلية للمجتمع. لكن الأزمة تزداد، والفجوة تتعمق عندما تضيع التخوم وتتلاشى القيم والنواظم الأخلاقية والقيمية المعيارية، التي كانت بالأساس تتحلل بفعل التدفق الإعلامي الذي ارتبط بانفتاح الفضاء المعلوماتي، وبفعل الذهنية الاستبدادية التي ترى أن انجذاب المواطن للحقل السياسي تفكيراً وممارسة يشكّل لها الخطر الأكبر، لهذا مارست سياسة انتباذية تهدف إلى تمييع وتسطيح الوعي الاجتماعي وإبعاده عن الحقل السياسي، كما أنها اشتغلت وما زالت على تذرير المجتمع وتفتيته وتحليله أخلاقياً وقيمياً….لكن ما حصل، هو أن المواطن السوري عاد إلى السياسة من بابها الواسع، ليفرض ذاته ميدانياً، وليثبت لنفسه قبل الآخرين أنه حي، وأنه ما زال يتمتع بالقدرة على التفكير و التعبير، حتى لو تجلى في بعض اللحظات أن تعبيره غير عقلاني. لكننا ندرك جيداً بأن الثورات ليست طهرانية،بالتالي لا يمكن أن تكون خالية من الأخطاء والتجاوزات، ولا يمكن تحديدها وضبطها في أطر وأشكال محددة، وفي سياقات مرسومة من قبل المفكرين والسياسيين. وهذا لا يفقدها أهدافها الحقيقية التي تعبّر عن حاجات الإنسان في التغيير والانتقال ديمقراطياً إلى الديمقراطية. فما بالنا إذاً عندما تكون ثورة شعبية، لا يؤطرها أو يضبطها أو يقودها حزباً سياسياً، فمن المؤكد أننا سنلحظ كثيراً من التجاوزات والأخطاء التي يعمل على استغلالها نقيضاً سياسياً يجاهد لإجهاضها، والقضاء عليها وعلى شعور الحياة والحرية الذي بدأ يولد من ركام الإنسان المحطّم. ومع كافة التحولات التي مرت بها الثورة السورية، بقي المواطن السوري متمسكاً بسلمية ثورته، رغم محاولات بعض الأطراف دفعها إلى العسكرة، ليبقى الهدف الأساسي تحقيق الديمقراطية عبر الوسائل السلمية، دون أن يعني هذا عدم حاجة الانتفاضة إلى الحماية من العنف.

فمنذ انطلاق الشرارة الأولى للإنتفاضة، وحتى الآن بقي الشعار والهدف الأبرز سلمية الثورة ووحدة الشعب السوري، وهذا يدلل على تميّز في الوعي، لكن تزامن ارتفاع مستوى العنف ضد المنتفضين مع عوامل متعددة إقليمية ودولية وحتى داخلية، ساهمت في إطلاق شعارات كانت تعبيراً عن رد فعل على العنف وعلى أشكال التعامل المهينة لأجهزة النظام، ومن تم تجنيدهم لقمع المتظاهرين، دفاعاً كما يروجون عن الوطن، لكن بأساليب قطيعية،وأشكال تثير الحقد والسخط والكراهية.

إذاً من الطبيعي أن تتجلى انتفاضة الشعب السوري في سياق سيرورتها بأشكال متعددة ومتجددة وبأطوار مختلفة ومتباينة لكنها بقيت محافظة على أهدافها الأساسية.

ـ منذ اللحظة الأولى وحتى الآن، لم تخرج الانتفاضة السورية، عن كونها انتفاضة شعبية سلمية من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة والمساواة، ضد سلطة أمنية تعبّر عن مصالح فئات ضيقة ومحدودة، نهبت الموارد الوطنية وانتهكت كرامة المواطن، وهدرت مواطنيته وكرامته، وحتى آدميته، وجففت تربة العمل السياسي، فغابت وغيّبت عن المجتمع كافة أشكال الديمقراطية والحريات الأساسية والسياسية حتى بدا للعيان بأن المجتمع عقيماً وفاقداً لمقومات الحياة، فهو لن يكون قادراً على التعبير عن ذاته ومعاناته، حتى بين جدران منزله خوفاً من القمع…وفي ذات السياق تم تقليص هوامش الديمقراطية الاجتماعية، فبات واضحاً انهيار الطبقة الوسطى،ازدياد حدة الاستقطاب،ارتفاع معدلات الإفقار، فغابت العدالة الاجتماعية والمساواة بفعل تحرير الاقتصاد الذي أدى إلى القضاء على سماته الوطنية والإنتاجية، وتم تعميم الفساد والإفساد والنهب والاحتكار والقمع، تحت يافطة الشعارات الشعبوية الفضفاضة….فكان المواطن يُحارب بمصادر عيشه..

ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق الانتفاضة، اشتغلت السلطة بكافة أشكالها ومستوياتها،على تعميم وتعميق القمع لعدم قدرتها على الاستجابة للمصالح الشعبية المحقة، متخيلة أنها قادرة على لجم وكبح جماح الشعب السوري. لكن هذا السيناريو كان فاشلاً على الدوام، وليس هذا فقط، بل ساهم في توسيع وتعميق الانتفاضة الشعبية، ليثبت التاريخ مجدداً بأن إرادة الشعب لا تقهر.

وفي سياق انتفاضة الشعب السلمية، استعادت بعض القوى السياسية التقليدية بعضاً من حيويتها، مستندة على الانتفاضة ومدّعية التعبير عنها، لكنها لم تنجح في ذلك، بل تحوّلت بفعل تناقضاتها البينية وتشتتها وخلافاتها الشكلية وصراعاتها الاسمية وعدم قدرتها على التحالف في إطار الحدود الدنيا وعدم توافقها على آليات عمل محددة لخدمة وتطوير الانتفاضة… إلى عقبة أمام الانتفاضة.

وقد تشكّلت اللوحة السياسية حتى اللحظة من المجلس الوطني ، هيئة التنسيق، تيم، والعديد من التشكيلات السياسية التي تأسست في سياق الانتفاضة( اللقاء الوطني، نبض، الكتلة الوطنية، المنبر الديمقراطي، مواطنة، معاً من أجل سوريا، ائتلاف اليسار، شباب من أجل سوريا، تيار بناء الدولة،..)إضافة لذلك اشتغلت القيادة السياسية على توضيب اللوحة السياسية السورية من خلال فتح الأبواب أمام بعض منتهزي اللحظة، وبالدفع ببعض الشخصيات إلى تأسيس أحزاب سياسية في سياق إعادة تأطير وتوضيب معارضة مضبوطة أمنياً وسياسياً،لتعطي إنطباعاً للعالم على قدرتها على الإصلاحية في تجاوز أزمتها، لكن هذا لا ينطلي على شعب وعى مصالحه، وانتفض للدفاع عنها. ولأن الشعب السوري لم يفتقد يوماً مقومات الحياة، فقد بقي كمن يقبض على جمر التغيير. ومن اللحظة الأولى التي بدأ يستعيد فيها المجتمع السوري ملامح الحياة ، بدأت نويّات التشكيلات السياسية على اختلاف أشكالها ومستوياتها تنبعث كالفطر في أرضٍ بكر. وهذا يدلل على القدرة والحيوية التي يتمتع بها السوريين. ورغم الملاحظات التي يمكن أن توجّه لأشكال وآليات عمل هذه التشكيلات، لكنها تعبّر عن حالة موضوعية لشعب ينهض من تحت ركام الاستبداد… وقد ترافق توسع وتعمق النشاط السياسي الداخلي مع تشكيل المجلس الوطني في الخارج، لكنه بقي حتى اللحظة يدور في فلك تناقضاته ومصالح قياداته، فلم يرتقي للتعبير عن تطلعات الشعب السوري، وفضّل الدوران في فلك الأطراف الدولية محاولاً اكتساب شرعيته منها،بدلاً من اكتسابها من الشعب السوري. وفي سياق نشاطاته الدبلوماسية الدولية كان بعضاً من قياداته يستثمر الانتفاضة السورية، لتحقيق مصالحه الذاتية الأنانية .. ولم يدرك هؤلاء حتى الآن بأن لا مشروعية إلا من الشعب، فالشعب هو من يحدد لمن يمنح شرف تمثيله، وهذا لن يكون إلا لقوى تلتصق به وتشاركه المعاناة والتضحيات وتكون قادرة على التعبير والدفاع عنه في الداخل والخارج. لذا بات واضحاً بأن بعض أطراف معارضة الخارج خسرت ثقة الشعب و المجتمع الدولي. وما تزايد انقساماتها على ذاتها إلا دليلاً يؤكد عجزها. والمفارقة الأشد مأساوية،هي أن كل شخص ينشق عن هذا المجلس يسارع إلى تشكيل تيار سياسي جديد يدّعي تمثيل الشعب السوري وثورته.ولا نشك بأنهم يدركون أن تشرذمهم إضافة إلى آليات عملهم السياسي تعيق تطور الانتفاضة وتحوّلهم إلى عقبة أمامها. ومن السخافة بمكان، أنهم يدّعون تمثيل الانتفاضة السورية ومصالح الشعب الذي بات يدرك أنه تحوّل إلى وسيلة لوصول بعض أطراف معارضة الخارج إلى السلطة، في لحظة يطالبهم الشعب قبل المجتمع الدولي بالتحالف فيما بينهم ، لأن هذا التحالف يشكّل مدخلاً لانتصار الانتفاضة. لكن نرجسيتهم ومصالحهم الأنانية وحسابات اللحظة تضعهم ضد مصالح الشعب السوري. إن اشتغال القوى الدولية على ضمان مصالحها الحيوية في المنطقة أدى لرفضها التدخل العسكري في سورية، وهذا زاد من إصرار بعض أطراف المعارضة في الخارج تحديداً،على طلب التدخل العسكري وتسليح الجيش الحر و الشعب معاً، ونعلم جيداً أن تسليح الشعب،وتسليح الجيش الحر بحالته التي تميل إلى تباين أطرافه ومن يدور في فلكه بفعل عوامل وأسباب متعددة، سيساهم في تدمير بنية الدولة ومؤسساتها واتساع دائرة العنف، ويمكن أن لا يقود لإسقاط النظام، لأن إسقاط السلطة ليس هدفاً داخلياً فحسب ولا يقف عند المفاعيل الداخلية، بل يرتبط موضوعياً بجملة من عوامل خارجية، وحتى لو تم اعتماد مفهوم إسقاط النظام، فلن يدخل حيز التنفيذ، إلا بعد إضعاف وتدمير كيانية الدولة وتمزيق المجتمع بالاعتماد على توسيع وتعميق حدة وشدة مستويات العنف بكافة أشكاله الأهلية والطائفية… لذا فإن إضعاف كيانية الدولة وتدميرها، يشكّل الهدف الأساس، وبالدرجة الأولى لإسرائيل ، وهذا نرفضه ويرفضه الشعب السوري. لذا يجب التفريق بين إسقاط النظام وإسقاط الدولة. ومن البداهة بمكان أن الأمريكان تحديداً، لن ينفذوا إلا ما يتوافق مع المشروع الإسرائيلي المرتبط بنيوياً وعضوياً ووظيفياً مع مشروعهم في المنطقة.

فيما يخص المعارضة الداخلية وتحديداً هيئة التنسيق، كونها تشكّل الجسد الأساس للمعارضة الداخلية، فإنها عجزت حتى اللحظة عن الارتقاء لمطالب الشعب السوري، رغم أنها تمتلك خطاباً سياسياً وطنياً عقلانياً، لكن بنيتها السياسية والنظرية وآليات اشتغالها السياسية ساهمت في عدم قبولها من قبل المنتفضين، فبقيت منعزلة عن الحراك الشعبي، مما أفقدها التأثير على سياق الانتفاضة.

أما فيما يتعلق بالجيش الحر، فإنه يشكّل احد ظواهر الثورة السورية ، وتشكيله كان رد فعل طبيعي وموضوعي على الحل العسكري الأمني الذي انتهجه النظام في مواجهة الحراك الشعبي السلمي , ويجب التعامل معه بشكل موضوعي ، ونشدد على التزامه بعقيدته القتالية القائمة على الدفاع عن الوطن وحماية الشعب، بعيدا عن أي دور سياسي أو حزبي ويجب أن يقتصر دوره على حماية المتظاهرين، والمواطنين العزل، حفاظا على سلمية الحراك الشعبي المدني. و نرفض بذات اللحظة أي استهداف لمؤسسات الدولة والمنشآت الخاصة والأملاك العامة. لأن تدمير بنية الدولة لن يضرُّ إلا مصالح الشعب السوري. ونحذر من تعدد قياداته، وانقسامه على ذاته، تخوفاً من تحوله في المستقبل إلى ميلشيات تعيق الانتقال إلى الديمقراطية، وتساهم في توسيع وتعميق واستطالة العنف بأشكال وآليات مختلفة، وجميعها تهدد كيانية الدولة ووحدة المجتمع والتراب السوري.وننوه بأن المهربين والقتلة واللصوص.. يستغلون اللحظة الراهنة ، فيرتكبون الفظاعات متجاوزين حدود الشرع والقانون.ويعلم الجميع بأن العنف يولد العنف، وإن تراكم القمع والظلم يولد الانفجار، ويعلم الجميع بأن الثورة السلمية تشكّل نهاية النظام بشكله الحالي، وأنها تشكّل المدخل الأسلم للانتقال الديمقراطي إلى نظام ديمقراطي .لذا فإن الأسلوب الذي تم إتباعه في قمع الانتفاضة ساهم في تصعيد وتيرة العنف المضاد، وقاد البعض لحمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم وعن المدنيين بداية. لكن هذا لا يلغي تسلل بعض الجماعات المسلّحة إلى سوريا، ولا يلغي مصلحة بعض الأطراف الإقليمية والدولية في تصعيد وتيرة العنف لأسباب باتت معروفة، وجميعها يندرج في سياق المشروع الهادف لإضعاف بنية الدولة وتفتيتها وتهديمها ليعاد بنائها على أسس التناقض والتناحر الطائفي والعشائري والإثني…ولعلمنا بأن زيادة حدة العنف وتوسعه واستطالته سينعكس سلباً على مستقبل سوريا والسوريين، فإننا نؤكد بأن العنف لن يفضي إلا لمزيد من الدمار والانقسام والاقتتال الداخلي،ولن يكون البديل في هذه الحالة إلا عدم الاستقرار والفوضى والتخلف والتبعية الاقتصادية والارتهان السياسي وتجدد الاستبداد وإن بأشكال مختلفة.

ونعلم ويعلم من يطالب بالتدخل العسكري، بأن هذا لن يتم ولأسباب بات الجميع يدركها، ونشدد على أن دعوات التسليح والتدخل العسكري سوف تساهم في زيادة عمليات القمع ضد الانتفاضة السلمية. ونشدد على أن دعوات الأطراف الدولية والإقليمية إلى تسليح المعارضة.. لن تقود إلا إلى مزيد من العنف والدمار. ونؤكد ونشدد على أهمية الانتفاضة السلمية كونها المدخل الوحيد للانتقال إلى الديمقراطية. ونؤكد على أن التوافق الدولي وتحديداً بين الروس والأمريكان على أولوية الحل السياسي في إطار مبادرة كوفي أنان، والتوقف عن دعوات التسليح، سوف يساهم في الحد من تدخل الأطراف الإقليمية الساعية لتعميق حدة التناقض وتصعيد حدة المواجهات. وفي السياق نفسه، فإن تفارقهما، وعدم توافقهما على الحل السياسي السلمي سوف يزيد من شدة الصراع المسلح، وهذا بالضرورة سيترافق مع زيادة التسليح وبالتالي العنف، مما يحوّل سوريا لمنطقة حرب إقليمية بالوكالة وبمشاركة خارجية دولية وإقليمية مباشرة، لذلك فإن إمكانية انتقال دائرة المعارك إلى دول الجوار قائمة، لذا فإن ما يجري في سوريا لا يتحدد بمفاعيله الداخلية فقط، نظراً لدور الأطراف الدولية والإقليمية في تصعيد التوتر أو إنجاح الحلول السياسية. ونشدد على أن الانتفاضة التي انطلقت لأسباب محض داخلية وبمفاعيل وطنية، تقع الآن في حقل التجاذبات والتناقضات الإقليمية والدولية وقمع النظام.فالطرف الأول يعمل على ضبطها بما يتلائم مع مصالحه الجيو سياسية.والطرف الثاني يحاول القضاء عليها بكل ما يملك من أدوات القمع، متذرعاً بالمؤامرة الكونية ضده، لكننا نعلم بأن التسويات والتوافقات الدولية تتم ضد مصالح الشعب السوري وانتفاضته السلمية و الدولة السورية. ونؤكد بأن شكل التغيير في سوريا سينعكس على كامل المنطقة، ولن تكون سوريا إلا بوابة للتغيير في المنطقة، ولن تكون ثورتها إلا الأهم والأصعب والأعقد في المنطقة، كونها ستساهم في تحديد أشكال النظم السياسية في المنطقة بشكل كامل. وما يعطيها هذه الأهمية موقع سوريا الجيو سياسي، وحجم العنف الذي تواجه به، وحواملها السياسية المدنية والعلمانية، و رغم تجلي الانتفاضة السورية بالشكل الديني، نتيجة لعوامل متعددة ، لكنه لا يعبّر عن بنيتها الحقيقية. ويتقاطع مع هذه العوامل تعقّد وتناقض وتشابك وترابط مفاعيلها وأدواتها، وتعدد الأطراف التي تشتغل على صياغتها، وهذا عائداً إلى أن سوريا تشكل عقدة المنطقة العربية، وعتبة التحول السياسي في المنطقة العربية، الذي سينعكس شكل التحول السياسي فيها على شكل النظام العربي و العالمي.

وبالتأكيد توجد أطراف في المعارضة وخارجها تحاول التسلق على الانتفاضة وتضحيات الشعب السوري للوصول إلى السلطة، وبالتأكيد يوجد من يحاول إضفاء الطابع العنفي و الطائفي.. عليها وكل هذه المحاولات تصب في المشروع الذي يهدف إلى إجهاض الانتفاضة وتحلل كيانية الدولة السورية وتفتيت المجتمع السوري.

ولعلمنا بأن الأزمة السورية في سياق تحولها إلى قضية دولية وإقليمية يتشارك ويتناقض فيها وعليها العديد من الأطراف، يزيدها تعقيداً وصعوبة. لذا فإن الإجابة عن سؤال ما العمل وكيف يمكن للإنتفاضة أن تحقق أهدافها التي انطلقت من أجلها وكيف يمكن دعمها؟؟ يشكّل الحلقة الأساس و يوضح نسبياً آفاق المستقبل. وتحديداً عندما ندرك بأن كتل بشرية لا يستهان بها لم تشارك حتى اللحظة في الانتفاضة، ولم تعلن موقفها المحدد منها؟

إن تشابك وتناقض المصالح الدولية والإقليمية في سوريا وعليها، يضع الانتفاضة السورية في مأزق قلما عايشته ثورة عربية أخرى.أي إن مصير سوريا ومستقبلها يقع في سياق التناقضات والتجاذبات الدولية والإقليمية. وإنجاز مهام الانتفاضة السورية يمر من خلال فكفكة هذه التناقضات وتجاوزها، لكن لا يبدوا حتى اللحظة إن هناك إمكانية للتوصل إلى توافق دولي حول الانتفاضة السورية ومستقبل النظام. وهذا يضع سوريا بين فكي كمّاشة. فوحدتها الكيانية، واستقرار مؤسساتها السيادية، واستقلال سوريا، وتماسكها الاجتماعي قاب قوسين أو أدنى من التحلل والانهيار، فيما لو استمرت الأوضاع عمّا هي عليه، وكما يبدوا أن حدة التوتر والعنف تميل نحو التصعيد، وهذا ما يثير خوف السوريين.

ومن جهة أخرى فإن واقع الانتفاضة يعاني حتى اللحظة من حلقة مفقودة، هي الترابط بين قوى المعارضة والحراك الشعبي. فمن الواضح بأن المعارضة حتى اللحظة عاجزة عن التواصل مع مجريات الواقع الميداني، إضافة لذلك فهي غير قادرة على إيصال برامجها السياسية للمنتفضين، وكلنا يعلم بأن أي برنامج سياسي لا يتحول إلى قوة مادية، ولا يدخل حقل الممارسة السياسية المباشر إلا عندما يتبناها المجتمع، ومن الواضح بأن الانتفاضة السورية لم تتبنى حتى الآن أي برنامج سياسي لأي حزب سياسي، مما يضع كلا الطرفين في حقلين منفصلين، وفي هذا الانفصال والتعارض ضعفاً لكليهما، وتهديداً لمستقبل السوريين. ويتقاطع مع هذا المستوى عجز المعارضة عن ضبط النهوض الشعبي في سياق آليات سياسية واضحة ومحددة. ونرى بأن عجز المعارضة وانقسامها على ذاتها وتشتتها وتناقضها واختلافاتها البينية، ينعكس بشكل واضح على أشكال تجليات الانتفاضة وبنيتها،حتى بات واضحاً انحرافها عن مضامينها السياسية المدنية،إذ يبدوا بأن الطابع الديني وأحياناً السلفي هو السائد. وهذا يشكّل أحد مصادر تخوف السوريين الرافضين للعنف وللسلفية وتحديداً التكفيرية الجهادية، وهنا تكمن أهمية التمسك بالطابع المدني والديمقراطي والسلمي للإنتفاضة.

أما فيما يخص الجيش الحر، فإن حالته الراهنة لا تقل خطورة عن المعارضة السياسية، بل أنه يشكّل الوجه الآخر للتباين والتناقض، ويتجلى هذا من خلال وجود كتائب مسلحة وجماعات سلفية جهادية لا تنضوي تحت لواءه، وتتصرف بشكل منفرد دون العودة إلى القيادة العليا للجيش الحر أو للقيادة السياسية ( المجلس الوطني) ليتجلى بشكل واضح غياب التنسيق بين قيادات الجيش الحر والمجلس الوطني وبين بعض الجماعات غير التابعة للجيش الحر، مما يظهر حجم التناقض الذي ينبئ بإمكانية تحول بعض الجماعات المسلحة لميلشيات لا تحمل أهداف سياسية… إضافة إلى حجم التباين بين قدراته المادية وقدرات الجيش النظامي، إذ من الصعوبة بمكان إن لم نقل من المستحيل المقارنة بينهما. ونشدد على عدم عسكرة الانتفاضة لأن سلميتها هي ضمان انتصارها،ولأن العسكرة والتسلح سيفضي إلى كوارث اجتماعية، إضافة إلى أن حظوظ انتصارها ليست كبيرة، لذا كنا ومنذ البداية ضد تسليح الثورة، ونؤكد على طابعها السلمي حرصاً على سلامة المجتمع من التفكك وحرصاً على قوة وتماسك الجيش الوطني من الانقسام والضعف، ولأننا حريصين على أن يبقى الجيش السوري جيشاً وطنياً هدفه الدفاع عن سلامة الأرض والوطن من أي تدخل خارجي. ورغم أن بعض الأطراف الدولية والإقليمية لها مصالح حقيقية من وراء تسليح الانتفاضة وجر المجتمع لصراعات بينية تضعفه وتهدد وحدته الكيانية. لكن اشتغال بعض أطراف المعارضة وبعض الأطراف الدولية والإقليمية على تسليح الانتفاضة، يتقاطع مع ما يروج له النظام بأنه يحارب جماعات إرهابية، ليتمسك بالخيار الأمني والعسكري لقمع الانتفاضة السلمية. لكن وبعد أن أصبحت المواجهات المسلحة بين النظام والجيش الحر أمراً واقعاً فإننا ندعو الجميع لإيقاف العنف بشكل متزامن، وإن لم يحصل هذا فإن حماية التظاهرات السلمية والمدنيين فقط يجب أن يكون الهدف الأساس، ونشدد على الطابع الأخلاقي والإنساني لمهام الجيش الحر، لأن الطرف المقابل هو سوري، ومن يُقتل هو سوري.ودماء السوريين هي التي تسيل على أرض الوطن لذا يجب التشديد على وقف العنف والبدء بالحل السياسي.

وفي المقلب الآخر، فإن النظام السياسي بقياداته الأمنية والعسكرية عازماً على إجهاض الانتفاضة السورية بشكليها السلمي والمسلح. ويمكن أن نرد هذا الخيار إلى عجزه عن إجراء تغيير ديمقراطي في بنيته الداخلية، وهذا يتقاطع مع عجزه عن الانتقال بسوريا إلى مجتمع ونظام ديمقراطي، وفق آليات ديمقراطية. لذا فإنه يراهن على قدرته الأمنية والعسكرية في الإجهاض على الانتفاضة الشعبية التي يقول هو بأنها تحمل مطالب محقة وعادلة، لكننا لم نرى حتى اللحظة أنه استجاب فعلياً لأي من هذه المطالب.ونشدد على أن الخيار الأمني والعسكري، يضع مستقبل الدولة والمجتمع أمام خطر الانهيار والتحلل والانقسام والحرب الأهلية ذات الأشكال المختلفة، ويتقاطع في خياره هذا مع بعض أطراف المعارضة التي لا ترى إلا العنف وسيلة وحيدة لإسقاط النظام. وكلنا يعلم بأن النظام كان قادراً في بداية الانتفاضة على إحداث تغييرات ديمقراطية وبوسائل وآليات سلمية تحقن دماء السوريين وتضمن سلامة التماسك الاجتماعي ووحدة كيانية الدولة، وتمنع تدخل الأطراف الدولية والإقليمية في الشأن السوري، لكن اعتماده الخيار الأمني أغلق كافة السبل التي تؤدي إلى إنجاز حلول ديمقراطية سلمية، وبالمقابل فتح سوريا على كافة أشكال التدخل الإقليمي والدولي، ووضع الشعب السوري أمام خيارات صعبة.

و نؤكد بأن التوافق على آليات سياسية لتجاوز الأوضاع الراهنة بيد السوريين، ونشدد على أن الشعب الذي اختار الثورة لحل التناقضات السياسية والاقتصادية قادر وحده على تحقيق أهدافه. ونشدد على أن ضمان انتصار الشعب السوري يكمن في تمسكه بثورته السلمية وبشعاراته المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية وبوحدته. وإذا لم تستطع المعارضة تبنى خطاباً وطنياً جامعاً في إطار تشكيل تحالفات وتجمعات سياسية مندمجة بالحراك الشعبي، وإذا لم تبادر القوى الدولية والإقليمية إلى الوقوف صفاً واحداً،مع مصالح الشعب السوري والدفاع عنه، وإذا لم يتخلى النظام عن خياره العسكري والأمني، فإن الشعب المنتفض قادراً على توليد قياداته السياسية كما أنتج قادته الميدانين، وقادراً على تحديد آليات اشتغاله، وبالتأكيد قادر على تحقيق النصر، لأن إرادة الشعب والتاريخ لا يمكن أن تهزمها قوة. (( سنبقى محكــــــــــــــــومــون بالأمـــــــــل))

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى