صفحات سورية

الثورة السورية ليست كَرْماً/ أحمد ديبو

 

 

لا نستطيع إلا أن نكون حرَّاساً للثورة. فالثورة ليست ديناً يلبسه اللابسون عمامةً يتموَّهون بها أو حلية يتزيَّن بها المنافقون. الثورة ليست مزرعة لأمير حرب أو دجاجة سحرية تبيض بيضها الذهبي لهذا الشيخ أو ذاك الحزب. الثورة ليست سلسلة أنساب وحلقة دبكة وشابوش و”عليهم يا عرب”. الثورة ليست صهوة جمل يمتطيها كل طامع غريب وليست مؤتمراً صحافياً لمأجور أو مؤتمراً دولياً لالتقاط الصور وتبادل القبل والتصريحات وسامحونا. الثورة هي أحلامنا الذهبية، بستان توقنا إلى فضاء الكرامة والحريَّة والعدالة. إنَّها إحساس بوجودنا، يستكبرون أن يروه ينتفض في دمائنا التي أجبروها لنصف قرن أن تستمرئ المذلّة والهوان. الثورة هي إيمان جديد بطاقتنا وحقنا في السعي إلى حياة أسمى وأعدل. الثورة أن نرفض طغيان الطاغية وجبروته وكلاب أمنه وشراسة استغلال غلمانه وجواريه لخيرات وطننا وثرواته المنهوبة على عينك يا تاجر من دون حسيب أو رقيب. الثورة أيضاً هي صديقٌ رائع خسرناه وقريبٌ بطلٌ وشريف انتفضنا لنجدته عندما أصابت قذيفة منزله فقتلت عائلته وأحرقت سيارته وكل ما جمعه وسعى إليه في هذه الدنيا. إنها نكهة الآه من صبيّة غازلناها على متراس بعدما تركت جامعتها ولفَّت الكوفية على خصرها وصاحت: الشعب السوري ما بينذَّل. واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد. فهتفنا خلفها: الله سوريا حريّة وبس. إنّها مذاق الطعام الساخن بعد ليلة جوع. إنها البرد الذي قصَّ عظامنا والشمس التي كوت جبهاتنا وقبضاتنا المشدودة. إنّها عريشتنا الشاميّة وقدُّنا الحلبي ونواعيرنا الحموية ونكاتنا الحمصيّة وكنيسة أم الزنّار في حمص القديمة التي دعيت بهذا الاسم تيمناً بزنار العذراء مريم أعظم ذخائرها المحفوظ على الرغم من تدميرها من قبل النظام، وجامعنا الأموي في حلب ودمشق. إن الثورة هي طريقنا الوحيدة إلى العدالة.

كانت الثورات وستبقى تجلّيات متتابعة للعدالة الإنسانية، لذلك فإنَّ منبع كل ثورة نجده في ثورة سابقة. فمن يقول ثورة يقول التقدم بالضرورة. فالثورة كالحبّ، هما نبتٌ لشيء موقظ مثمر. أمّا إيماننا بالثورة فأشبه بإيمان الطفل بالدُّمى. وهو إيمان ما أشد دفأه وحيويته. مهما تكن الدمية عادية، دميمة، قذرة، بلا شعر، محطمة، شعثاء، فاقدة الأصباغ… فلا بأس. لقد كفَّ الطفل عن النظر إليها كشيء فيزيائي. فهو إذ يحمل هذا الحطام الصغير بين ذراعيه، فإنما يراه بعين الخيال ملاكاً أو رفيق روح. فالثوري إذا ما استطاع أن يُبقي قوة إيمانه فقد يتخيَّل كمايكل أنجلو صورة داود في كتلة من الرخام البشع. فما من أحد نحت رائعة أو رسمها إلا في ضوء الخيال. الثوار العظام كلهم رؤاة. ألم تبق أشجار السرو حول مدينة آرل في انتظار فان غوغ ليرسمها؟! كلُّ صورة عظيمة تُرينا شيئا نبصره بالعين مع شيء ندركه بالبصيرة: فهي تجمع بين البصر والبصيرة. فأيّ ناظر إلى الثورة من دون خيال لن يرى إلا سطوحاً، حتى ولو نظر إلى الروائع. وكلّما ازداد تأملاً بالسطح قلَّ فهمه لما هو كامن وراءَه. أنا كلي إيمان بنجاح الثورة السورية في تحقيق العدالة. هذا قدرها. كان وسيبقى بقوة التضحيات العظيمة التي قدمها هذا الشعب. إنّ الثورة التي قام بها المسيح منذ عشرين قرناً كانت تقول بمساواة الناس جميعا أمام الله. بذلك أنهى المسيح مقولة: شعب الله المختار. إذاً، خلقت المسيحية حقوق الإنسان وأخوة الأمم أمام الله. تلك الصورة التي كانت عليها أولى الثورات وأعظمها. اندلعت الثورة مجدّداً في القرن السادس عشر وكان مفجرها العالم والفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت، فكانت ثورة فلسفية شريعتها الشك وحرية العقل وشعارها مساواة الناس جميعا أمام العقل. لقد أعطى ديكارت الفلسفة والعلوم الأوروبية آفاقاً لا حدود لها عندما بشّر بالشك وبالعلم التجريبي. ثم جاءت الثورة الفرنسية وكانت ثورة سياسية وسميت ثورة “العقد الاجتماعي” واتخذت شريعة لها سيادة الشعب وكان شعارها: المساواة أمام القانون. هكذا تبدو الحريّة في كلّ ثورة كأداة للعدالة وتبدو العدالة معياراً لها. من أجل هذه القيم كانت ثورة الحسين على الظلم وثورة القرامطة وثورة الزنج والثورة الجزائرية وثورة سعد زغلول وأحمد عرابي والثورة السورية الكبرى في العام 1925 وثورة الأرز في لبنان في العام 2005. ثم جاءت ثورات الربيع العربي للقيم والمبادئ نفسها، ثمّ كانت الثورة السورية في آذار من العام 2011.

في جميع هذه الثورات أخذت فكرة العدالة أسماء مختلفة. ففي الضمير دعيت العدالة وكانت قاعدة للحقوق والواجبات. وفي مرتبة العقل والمنطق والحساب دعيت مساواة. أمّا في دائرة الخيال فسُمّيت “مُثلاً عليا”. إنّ العدالة للثورة هي المبدأ للنضال ولباس له. هذا يعني أن كلاّ منّا يشعر من طريق العدالة بأنه ذات وجماعة، فرد وأسرة، مواطن وشعب، إنسان وإنسانية.

السؤال الأساسي المطروح الآن علينا جميعاً: هل لا تزال الثورة السورية تتقدم بقوة العدالة؟ كل مراقب منذ سنتين حتى الآن، لا بد له أن يرى بوضوح كيف أن عدالة الثورة قد انزوت إلى دوائر ضيقة، مفسحة المجال بقوة الإرهاب لسيطرة خطاب ديني تكفيري أعمى وغاشم، يسعى لإطفاء المصابيح الإنسانية والسموية لكي يشعل مصابيح ظلامه هو، من دون أخذ رأي السوريين في ذلك. إنه خطاب أحادي الاتجاه، يقوم على وهم احتكار الحقيقة نقلاً، وإيهام الهداية إليها إتباعا، وضرورة التصديق بها تقليداً. إذاً، هي علاقة مفروضة بقوة البطش سلفاً. فالأمر باسم الدين هو الأعلى، والمتلقي هو الأدنى. لذلك ليس له إلا تنفيذ الأوامر المنقولة من الله بواسطة الطرف الآمر، وإلا فالعقاب جاء نصاً قرآنياً وسنّة محمدية تجيز الجلد وقطع الذراعين والذبح والرجم…إلخ. هذه الأفعال لا تتناقض مع مفهوم قيم العدالة التي قامت لأجلها الثورة فحسب، بل إنها أفعال ما تحت وحشية. ما يمارسه “الدواعش” علناً يُقّرهُ الإسلام السياسي بتلاوينه سرّا. لكنهم يمارسون مبدأ “التقيّة” حتى تحين ظروف ما يدعى “التمكين” من إشهاره. لذلك، على الثورة السورية أن تكون جريئة في نزع ما تبقى من روح الألوهية من يد حفنة ركبوا مطيتها من دون إذن من الشعب الذي يرفض في غالبيته العظمى هذا الخطاب التكفيري الألوهي، كما رفض ألوهية الاستبداد وثار عليه. ينبغي للثورة إعادة بناء فكرة “العقد” القائم على تشابك الحريّات والعدالة التبادلية في طبيعتها وشكلها بين جميع مكوّنات الشعب السوري.

كان من مصلحة نظام الاستبداد إشاعة الفوضى لأنّ فيها حبْل خلاصه بعد أن خَلُصَ له استحالة سيطرته وقمعه لشعب انتفض على الذل والنهب والموت البطيء. كذلك هي نسبةً إلى “الدواعش” أرض خصبة لزيادة فرص نجاح خطابهم وفرضه على الثورة السورية. فعندما تبتئس الأرض تفرح سماؤهم. النظام و”الدواعش” صار ميدانهما الفوضى. بل يتلذّذان بفتح أبواب سوريا على أجندات خارجية لا تمت بصلة إلى مصلحة الشعب السوري الذي جدع أنفه مرتين: مرّة من نظام الاستبداد التي أثبت للقاصي والداني أنّه غير مستعد لتقديم ذرّة تنازل للشعب، وأن كل ما يستطيع تقديمه هو سلسلة من المسرحيات الهزلية المكشوفة والمفضوحة. ومرةً من هؤلاء “الدواعش” الذي امتطوا الثورة السورية فحرفوها عن مسارها بقوة الإرهاب ما تحت وحشي.

كلّي يقين أنه عندما يُفرز الخيط الأبيض من الخيط الأسود سيتولى هذا الشعب الصابر أمره بنفسه من دون وسيط. هو وحده القادر على إتمام ثورته وإيصالها إلى خواتيم صحيحة. إنّ قوة البقاء والتقدم كامنة في هذا الشعب، لا في النظام أو “دواعشه”.

من حماوة الجرح أقول لا من باب العنصرية، إنّ الشعب السوري أعطى البشرية ممالك عظيمة مثل مملكة راميتا ومملكة ماري وأوغاريت وعمريت وإيبلا التي اكتشفت فيها أقدم مكتبة في تاريخ البشرية ضمّت أكثر من خمسة عشر ألف “رُقَمْ” كاملة مكتوبة باللغة المسمارية، ومملكة قَطْنا الواقعة بين حمص وسلمية، التي أذهلت البعثة الألمانية بغزارة ما اكتشفوه فيها من لقى أثرية قبل أن يدمّرها رمسيس الثاني لأنها رفضت الانصياع والخضوع له، وأيضاً مملكتا أفاميا وتدمر. ثم بعد قرون بنى هذا الشعب أكبر دولة امتدت حدودها من الصين إلى الأندلس وكانت عاصمتها دمشق التي هزمت التتار والمغول والصليبيين، والتي لسوف تهزم التتار الجدد ومعهم هذا الاستبداد البغيض وترميه في مزبلة التاريخ لأنه هو وراء هذه المصائب التي ابتلت فيها سوريا. وسيبني هذا الشعب بقواه الحيّة دولته الديموقراطية القائمة على أساسات الحريّة والمساواة والعدالة. وستكون سوريا الحرّة سنداً وخيراً لجيرانها، بدل أن تكون نقمة عليهم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى