صفحات سوريةغازي دحمان

الثورة السورية والسوق الدولية/ غازي دحمان

من قال إن الثورات لا تحتاج إلى تخطيط إستراتيجي ومهارات دبلوماسية تساعدها على تسويق وجهة نظرها، تماماً وفق معادلة البائع والزبون، مادام مطلوباً من هذا الزبون التفاعل مع المنتج المعروض أمامه، عبر تشكيل رأي عام يضغط على صانع القرار باتجاهات معينة، خصوصاً وأن هذا الطرف المستهدف يعاني من حالة إغراق في العروض التي تقدم له من جهة، و يتمتع بعقلية انتخابية تفضيلية مدربة؟

لنعترف بصراحة، لم تعد الصيغة القديمة للثورة صالحة للعمل الخارجي، ولم يعد لديها القدرة على تحقيق اختراقات نوعية في الوعي والضمير العالمي، واستمرار الرهان على البعد الملحمي للأزمة السورية صار نوعاً من التكرار الممل. لننتهِ من هذه المسألة التي أسقطها رفض الرأي العالم الغربي للحرب على النظام، فهل من شك بعدها؟

ثمة أسباب كثيرة تقف وراء هذا التطور، لعلّ أهم ما يخص أداء الثورة منها، هو الرهان على يقينيات تجاوزها الإدراك السياسي الغربي، بفعل التغيرات الطارئة في الواقع الاجتماعي، وما نتج عنها من بزوغ نزعات إنعزالية جديدة. وبالتالي إعادة تعريف سياسي اجتماعي جديد لمنطق التدخل يقوم على فكرة التدخل في بناء الأمة (المقصود الوضع الداخلي) وهو ما برز بشكل واضح في سجالات الساسة الأميركيين أخيراً.

والسبب الأخر، إصرار المعارضة على مقاربات حسابية خاطئة وتأطيرها ضمن مقولات جامدة، ثبت أن السياسة الدولية قادرة على استيعابها وتجاوزها، مثل أن الأزمة ستهدد عاجلاً أم آجلاً المصالح الأميركية، والغربية عموماً، في المنطقة، ما سيدفع بهؤلاء إلى التدخل، والاكتفاء بذلك، بدل بلورة إستراتيجية تؤلف بين الأهداف السياسية بعيدة المدى والأهداف الآنية، المتمثلة بالحصول على الدعم السياسي والتقني اللازم. فقد ثبت أن تحقيق هذه المعادلة يتطلب قدرة موازية على تحريك دائم للمعطيات تتناسب وطبيعة التوجهات الدولية الراهنة.

وثمة مسألة أخرى تتمثل بعدم الاعتراف بقدرة الطرف الآخر على مصادرة البعد الإنساني للحدث عبر استثماره لبعض الأخطاء التي ترسخت في بنية الثورة وسلوكها، إذ استطاع الطرف الأخر تحوير الحدث في الدوائر العالمية المؤثرة لمصلحته بمهارة واضحة، في حين ظلّ خطاب الثورة يسعى إلى التوفيق بين التحليل الوصفي للأحداث ودراسات الاستغراب غير الممنهجة والناضجة، منطلقاً من فرضية أن أبواق النظام غير كفؤة لإتباع تقنيات هذا النمط من المقاربات!

حسناً، لا يبدو مفيداً الاستغراق كثيراً في تحليل أداء وسلوك الثورة والناطقين بها، فيما يتشكل في سياق الحدث السوري مسار دبلوماسي ينطلق بتوافق دولي، والمطلوب إعطاء هذا المسار فرصته الكافية. وعليه يصبح السؤال الملح: كيف يمكن الاستفادة من هذا السياق؟

يستدعي المنطق السياسي التعاطي العقلاني والواقعي مع هذه النافذة الدولية المتاحة، وإعادة رسم المناظرة الثورية من جديد، فمن يقول إن إظهار الثورة بمظهر المتطرف وغير القادر على الفعل السياسي هو أمر لمصلحتها ولا يضر بها؟ ألا تستدعي التغيرات الجديدة معايير جديدة للتعاطي؟ وهل ممكن معها تكرار التكتيكات القديمة التي ثبت فشلها؟ أليست الاستفادة من المتاح أيضاً عملاً ثورياً؟

تحتاج المعارضة في هذه المرحلة إلى نمط من التفكير المبدع لدى قياداتها يسمح لها بتحديد منطقة وسطى بين الدبلوماسية والثورة، بمعنى أن تمتلك المرونة والمبادرة الثورية، بحيث تستطيع توظيف المكاسب الميدانية في الحقل الدبلوماسي الدولي، وذلك بلا شك عمل يتطلب بلورة الموارد الثورية، وضبط مخرجات الثورة في إطار أهداف وسياسات عقلانية ومنطقية.

نعم، تحتاج الثورات إلى عملية تسويق، وهذا الأمر يتطلب إجراءات شكلية من قبيل التوضيب والتغليف الجيد، ليصار إلى تقديمها بأحسن صورة لعالم ثبت أنه ينبهر بالصورة، وكذا إجراءات في تحسين نوعية المنتج عبر إظهار درجة تبادلية قيمه وتوافقها مع المعيار العالمي السائد. لسنا وحدنا في عالم باتت قضاياه متعددة ومعقدة ومتشابكة

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى