صفحات العالم

الثورة السورية والنفاق السياسي

 

جمال ابو زيد

دخلت الثورة السورية مرحلة عض الأصابع، وقد تكون آخر المراحل وأخطرها، وربما تكون أكثرها دموية على الإطلاق، فعندما يكون الصراع من أجل البقاء يكون قاسيا ولن يدخر أحد طرفي النزاع جهدا في إزالة الطرف الأخر من الوجود. وهذا ما يجعل قوات بشار الأسد تستخدم مخزونها الاستراتيجي من الصواريخ والأسلحة المحرمة دوليا بعد أن منيت بخسائر كبيرة على جبهات متعددة وفقدت مواقع ومطارات ومعسكرات عسكرية. لا ريب أن قوات الأسد اصبحت تتآكل وتضعف أمام الضربات المتتالية التي يسددها لها الثوار، وأخذت الأرض تنحسر من تحت أقدامها. لقد أظهرت الثورة السورية نفاق أنظمة كثيرة ومنظمات دولية، وأحزاب قومية وعربية، ، وشيوخ، وتجار كلام طالما تاجروا باسم القضية الفلسطينية، وباسم المقاومة والممانعة، كما أنها حطمت المشاريع والمؤامرات الدولية التي نسجت منذ عقود من أجل تقاسم النفوذ والسيطرة على بلاد الشام، كما أسقطت هذه الثورة المباركة الشعارات والمبادئ التي تغنّى بها المجتمع الغربي ردحا من الزمن وأحرجت المجتمع الدولي الغربي وأسقطت عنه ورقة التوت وأظهرت سوءته.

لم تكن الدول الغربية صادقة منذ البداية في الوقوف إلى جانب الشعب السوري في تطلعاته للحرية والكرامة الإنسانية، وهذا ما يدلل عليه الغموض والتلكؤ في مواقفها المائعة عن قصد على الرغم من التصريحات المبكرة التي جاءت على لسان قادتها بوجوب رحيل الأسد، ومسارعة بعض الدول الكبرى إلى إسقاط الشرعية عن نظام الأسد إثر مجزرة الحولة التي راح ضحيتها أطفال ونساء ذبحا وأظهرت وحشية فظيعة تقشعر منها الأبدان، وعلى الرغم من مبادرة بعض الدول الغربية إلى فرض بعض العقوبات المالية والسياسية لتأديب النظام السوري، وإرغامه على الانصياع لتوجيهاتهم من أجل تخفيف قبضته الأمنية والتوقف عن إطلاق النار والقتل وارتكاب المجازر، والحد من استخدام القوة المفرطة ضد السوريين، وتلبية بعض مطالب شعبه المشروعة إلا أن تلك المواقف لم تكن إلا لشراء الوقت وذر الرّماد في العيون كي ينتهي النظام من سحق الثورة، وإطفاء جذوتها وفي غضون ذلك اكتفت الدول العربية بالتنديد والمبادرات، وفرض العقوبات الشكلية التي لم تزد النظام إلا شراسة وعزما على سحق الثورة ولم توقف تلك الإجراءات الهزيلة آلته العسكرية من الولوغ في دماء الأبرياء، ثم طفقت الجامعة العربية في إرسال مبعوثيها الواحد تلو الآخر إلى دمشق لعلها تفك الشعب من مخالب الأسد ونيوبه ولكن دون جدوى. عندئذ أعدّ كوفي عنان المندوب المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية خطة من ست نقاط لإنقاذ النظام والمحافظة على ماء الوجه، التي اتخذها النظام كوقت إضافي لوأد الثورة، وأمام الوحشية المطلقة وتعنت النظام في دمشق استقال كوفي عنان كيلا يكون شاهد زور على قتل شعب أعزل، فتقدم لتلك المهمة الأخضر الإبراهيمي. على كل حال تحركت الجامعة العربية متأخرة وقامت بتعليق عضوية سوريا في الجامعة، ورفعت مشروع قرار لمجلس الأمن يطالب بوقف العنف في سوريا ولكن ذلك المشروع أصطدم بصخرة الفيتو الروسي والصيني.

وفي المقابل كان الموقف الروسي والإيراني واضحا وجليا منذ اليوم الأول ودون النظر إلى القواعد الأخلاقية أو المصالح السياسية، فلم تدّخر الدولتان وسعا في تقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي للنظام السوري. ولم تفتأ روسيا تعبر عن موقفها على لسان قادتها بلا مواربة عن تشبثها بنظام الأسد والوقوف إلى جانبه حتى النهاية كما أنها لم تتردد في استخدام حق النقض ‘الفيتو’ بمعية الصين أكثر من مرة لعرقلة أي قرار صادر عن مجلس الأمن من شأنه إدانة جرائم الأسد أو اتخاذ أية عقوبات ضده. وأما إيران الحليف الإستراتيجي للنظام فقد كانت حاضرة بقضها وقضيضها منذ اندلاع الثورة، حيث سارعت إلى الدخول في المعركة بسلاحها ومقاتليها، وأعلنت وقوفها مع الأسد بكل ما تملك من قوة بل اعتبرت المعركة معركتها وعليها القتال مع الأسد والوقوف معه إلى آخر رمق مهما كلفها من خسائر وتضحيات، وأعلنت موقفها صراحة لقطع إي التباس وقد جاء ذلك على لسان المرشد آية الله خامنئي أمام رئيس وزراء تركيا، أردوغان حين التقى به في طهران، إذ أكد له أن بلاده ستدعم النظام السوري إلى النهاية وأن إيران مستعدة لجميع الاحتمالات.

وعلى الرغم من أن الموقف التركي كان منحازا للشعب السوري منذ بداية الثورة، وكان أردوغان مندفعا للدفاع عن الشعب السوري، وعبر عما يجول في خاطره في خطاباته العاطفية بأنه لن يسمح بحماة ثانية في سوريا وأنه سيدافع عن الشعب السوري ضد وحشية النظام إلا أن تركيا اصطدمت بالمصالح الدولية والتجاذبات السياسية ووجدت نفسها عاجزة عن الوفاء بوعودها بيد أنها لم تتخل عن الشعب السوري وتحملت العبء الأكبر في دعمها للشعب السوري.وظف الأسد أجهزته الأمنية وقوته العسكرية وعلاقاته السرية بالقوى الكبرى، مما دفعه ليتعامل مع احتجاجات شعبه بعنجهية وغطرسة ورثها عن والده منذ انطلاق المظاهرات والاحتجاجات في المنتصف من مارس 2011. وقد آل الأسد على نفسه وقف عجلة الربيع العربي إذ أن النظام السوري ليس كباقي الأنظمة العربية فهو قائم على الطائفية التي تتحكم في الأجهزة الأمنية الشرسة وتسيطر على الجيش سيطرة كاملة بالإضافة إلى أنه مدعوم من القوى الإقليمية الفاعلة لذا اختار الأسد الحل العسكري والأمني لقمع المحتجين وتأديبهم منذ اليوم الأول وقد كان ذلك جليا من خطابه الأول في مجلس الشعب الذي تحدث فيه عن ‘مؤامرة كونية’.

وهدد شعبه بعواقب وخيمة. ثم جنح بشار لأسلوب والده الذي نجح في قمع كل الاحتجاجات التي قامت ضده بالحديد والنار، وكان أشهرها انتفاضة مدينة حماة التي قصفها بالدبابات والمدفعية والراجمات والصواريخ عام 1982 وقتل عشرات الآلاف من أهاليها ودمّر المدينة فوق رؤوس أصحابها. ولوقف الاحتجاجات أطلق بشار العنان لأجهزته الأمنية لتوغل في القتل والتعذيب والاعتقال والاغتصاب، كما صعد من استفزازاته ولم تألُ قواته وشبيحته جهدا في الضرب بيد من حديد. كانت أول مواجهة لقوات النظام مع الثوار ‘العصابات المسلحة’ في بابا عمرو وحمص، التي استخدمت فيها قوات الأسد القوة المفرطة بغية القضاء على الثوار.لم يتفق المجتمع الغربي على شيء في الأزمة السورية إلا على منع الثوار من الحصول على السلاح النوعي للدفاع عن أنفسهم وديارهم وأعراضهم في الوقت الذي كان يتدفق فيه السلاح إلى النظام من روسيا وإيران والعراق وغيرها من الدول كما أنّه غض الطرف عن دخول حزب الله في المعركة المقدسة بكل ما يملك من قوة وطفق عناصره يتوافدون زرفات ووحدانا إلى سورية بحجة حماية الأماكن الشيعية المقدسة كما أرسلت إيران بالإضافة إلى الأسلحة والخبراء سرايا الحرس الثوري ليساهموا في قتل الشعب السوري. ومع ذلك كله التفت الغرب إلى الحائط وتشاغل عن معاناة السوريين. بيد أن الدول الغربية هبت من غفلتها ورفعت عقيرتها وأخذت تدق ناقوس الخطر من قدوم بعض المسلمين الغيورين إلى سوريا للدفاع عن إخوانهم الذين يذبحون أمام العالم بدم بارد.

مضى عامان على اندلاع الثورة السورية قتل فيهما عشرات الآلاف وعبر الحدود مئات الآلاف وهجر بيوتهم داخل سوريا الملايين وهدم أكثر من ألف مسجد جراء القصف العنيف الذي لا يميز بين بيت أو مسجد ولم يفرق بين كبير أو صغير، وسوّت الصواريخ والمقاتلات الحربية مدنا وقرى بأكملها بالأرض، وأما عدد الجرحى والمفقودين والمعتقلين في سجون الأسد فحدث ولا حرج. لم يتحرك الضمير الغربي إن كان هناك ضمير – ولم تهتم أمريكا والدول الغربية بالإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب سوريا بقدر اهتمامها بتنامي قوة جبهة النصرة في سوريا وجعلها بعبعا كي تتخذها مبررا لخذلان الشعب السوري أو ربما للتدخل في الشأن السوري لاحقا لحماية ربيبتها. لقد سمعنا عن تهديدات الولايات المتحدة الأمريكية للنظام السوري وتحذيره من اللجوء إلى استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه تحت أي ظرف، وعدّت ذلك خطا أحمر لا يمكن السماح بمجاوزته، ولكن حين تحدى الأسد إرادتها وقصف شعبه بالسلاح الكيماوي في مدينة حلب وفي ريف دمشق وفي غيرها من المدن تعامت عن ذلك ودست رأسها في التراب، ولم تعد الخطوط الحمراء الأمريكية حمراء، وأما الأمم المتحد فقد اجترّ أمينها العام بان كي مون كعادته في كل مرة تنتهك فيه قوات الأسد القوانين الدولية ووعد بأن يجري تحقيقا بالأمس القريب هبّ العالم بأسره لمنع القذافي من قتل المدنيين في ليبيا واصدر مجلس الأمن قرارا لحماية الشعب الليبي. ولم يلبث أن تدخل حلف النالو بقوته الجبارة وعضلاته المفتولة لوقف كتائب القذافي من ارتكاب المجازر ضد المدنيين فما الذي تغير يا تُرى؟ وأين هو المجتمع الدولي ولمَ لا يتدخل اليوم للحيلولة دون قتل النظام السوري لشعب بأكمله ومنعه من استخدام الطائرات الحربية ضد التجمعات السكنية، وطوابير الخبز والمستشفيات، أم أن مصلحتهم لا تقتضي التدخل؟. يشاهد العالم الدخان الأبيض المنبعث من القنابل الفسفورية على شاشات التلفزيونات الملونة دون ان يحرك ساكنا، ويستمع إلى صرخات النساء وبكاء اليتامى وهم يحترقون بالقنابل العنقودية التي تهطل على رؤوسهم كالمطر في طول البلاد وعرضها والتي تبعث الأسى بأعصاب مرتخية دون أن يرف له جفن على كل حال لقد ظهر نفاق المجتمع الدولي في الوقت الذي خذل المسلمون إخوانهم في سوريا الحبيبة.

وفي هذه الظروف العصيبة عقد الشعب السوري عزمه على انتزاع النصر بعد أن أدار ظهره للعالم وأخذ يزحف بخطى حثيثة نحو دمشق لتحريرها من براثن الأسد وإخراجه من سردابه بعد أن كفر الثوار بالسياسة وبالتصريحات السياسية، وأصموا آذانهم ولم يعودوا يلتفتوا لنداء الناعقين الذين ينادون بالحل السلمي، أو السياسي الذي اغتالته صواريخ ودبابات وراجمات النظام منذ زمن بعيد ولم يعد يستجدي العطف من الموتى وشعاره اليوم: ‘الموت ولا المذلة’ بعد أن أدمن أبطاله على شم رائحة البارود، وتصالحوا مع الأسلحة الكيماوية والجرثومية طالما تحمل في طياتها الحرية والكرامة لأبنائهم وإخوانهم وقد فوضوا أمرهم لله وهم ينادونه: ‘الله أكبر’، ويستشرفون النصر الذي لم يعد يفصلهم عنه سوى خطوات معدودة.

‘ كاتب ليبي مقيم في بريطانيا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى