صفحات مميزةطيب تيزيني

الثورة السورية… وذريعة «المؤامرة الكونية»: د. طيب تيزيني

طيب تيزيني

الثورة هذه هي «مؤامرة كونية ملوثة بالظلامية الإسلامية وبالأموال المبيّضة». كان علينا أن نبدأ هذه الثلاثية بالعنوان المذكور أعلاه. أما السبب في ذلك فهو النظر إليها بمثابتها حالة وافدة من خارج سوريا، أي هي صنيعة ملفقة من قِبل بعض الغرب وبعض الشرق العربي.

وهذا، بدوره، يشير إلى أن حاملها الاجتماعي التاريخي ليس ذا خصوصية سورية داخلية. ها هنا، نضع يدنا على عملية تزوير شاملة تتصل بالبنية الداخلية لسوريا ولوظائفها السياسية والاقتصادية والقضائية وغيرها. ومن ثم، فالأمر المذكور يتلخص بالنظام البنيوي والوظيفي، الذي هيمن على سوريا أربعة عقود ونيفا منذ تسلّم الرئيس حافظ الأسد السلطة ها هنا، وذلك على نحو أفضى إلى نظام شمولي يمثل فيه الجزء نسقاً من أنساق الكل.

وقد لخصنا هذا الأخير بما أطلقنا عليه، في كتابات سابقة، مصطلح «قانون الاستبداد الرباعي» القائم على الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية المجتمعية السياسية المتبلورة بكون حزب «البعث» العربي الاشتراكي، هو الذي يقود الدولة والمجتمع.

وإيغالاً في الضبط المنهجي، يمكن اختزال ذلك كله بمن يقف على رأس ذلك كله، وهو القائد، قائد المسيرة سيّد الوطن. وقد فصّل ذلك بعض الكُتاب والمثقفين والأساتذة الجامعيين، حين عبروا عنه في قول تصدر كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة دمشق، هو التالي: إذا كان المفكرون في التاريخ قد عبروا عنه وجسّدوه، فإن حافظ الأسد هو الذي عبّر عنه وجسّده.

في ذلك وفي غيره من الكتابات والأقوال، نواجه مُفارقة منهجية ونظرية تفتقد الاتّساق المنطقي والفلسفي. أما هذه، فتقوم على التأكيد على أن سوريا التي كانت قيادتها طوال الزمن المعني تسير في الطريق الصحيح من حيث البنية والوظائف والآفاق المستقبلية من طرف، وعلى أن هذا البلد نفسه لم يُنتج – في العموم- إلا حالات نادرة من نقد ما كنا نطلق عليه على مدى ثلاثة عقود خلتْ «حطاماً مفتوحاً»، من طرف آخر.

وقد كان النظام الأمني المذكور يرفض قراءة الانتقادات والرسائل، التي كانت توجَّه إليه، دونما اهتمام أو تواضع، إلى درجة أن باتريك سيل نبّه المعنييّن في السلطة السورية إلى مقالة كتبناها ونشرناها بعد سقوط بغداد وأشرنا فيها إلى ضرورة قراءة ما قد يأتي على سوريا بعد ذلك السقوط؛ لكن عبثاً وعبثاً. ونذكر أنه في إحدى الحالات، التي ظهر النظام معْنياً بذلك إلى درجة أنه أشاع ورقة أعلن أنه أصدرها لتداولها بين السياسيين والمثقفين والمعنيين، وتدور حول قانون جديد عصري للأحزاب يفكر بإصدارها ضمن استحقاقات مشروع للإصلاح يهيء له.

لكن لم ينْقض أقل من أسبوعين، حتى سحب النظام الورقة وأوقف تداولها بل إن مجموعات من الكُتّاب السوريين حاولوا فتح باب مناقشة الإصلاح، لكن أخفقوا. وكان من علامات ذلك ما أصدرناه من كتاب حمل عنوان «من ثلاثية الفساد وقضايا المجتمع المدني». لكن هذا الأخير لم يفعل شيئاً في أوساط أصحاب القرار، مثله مثل ما صدر من كتابات في الإعلام الداخلي نفسه.

لقد ذهبنا بعيداً بعض الشيء عن المفارقة التي ذكرناها فوق وتقوم على تناقض الخطاب الأمني الرسمي، الذي قُوِّل بأن سوريا حققت في حينه من المنجزات ما يجعلها بلداً رائداً في التقدم تحت القيادة التاريخية من طرف، وبأن واقع الحال لم يخرج عن أن ذلك الخطاب الأمني الرسمي، كان ومازال يُخفي تصدّعاً هائلاً في البنية التحتية كما في الحقول الأخرى بسوريا.

والآن وبعد الذي حصل بقيادة نظام أمني وبإدارة دولة أمنية تراهن على تجفيف رهانات التقدم ها هنا، يأتي من يُعلن أن «حركة الشباب»، التي انطلقت في درعا بسوريا منذ ما يزيد على ثمانية وعشرين شهراً تحت ضغط مجموعة من الخارجين على القانون، هي حركة مشبوهة ومرتبطة بالمرجعيات الاستعمارية الكونية. مع الإشارة المأساوية الفظيعة إلى أن من أشعل نار الصراع الجهنمي، (وهما إثنان من المسؤولين في المدينة المذكورة)، لم يُعلن على الأقل بأنهما يخضعان للمساءلة القانونية.

إضافة إلى ذلك تبرز جدلية الداخل والخارج لتعلن إنها تثأر لنفسها، حين يتحدث النظام عن مؤامرة كونية دمرت سوريا، التي هي مدمرة بالأساس على أيدي قانون الاستبداد الرباعي.

لقد كان ذلك نمطاً من الاحتقار للشباب والشعب السوري، بحيث يمكن استلهام ما جاء في خانة شغلها الفيلسوف الألماني هيجل، حين رأى أن غياب العقل لتحتل مكانة الغرائز، يمكن أن يقود إلى مأساة.

وإذا اشتغلت هذه الغرائز ضد العقل والوطن، فإنها يمكن أن تُفضي إلى كارثة. هكذا تحولت سوريا إلى حلبة لصراعات نصفها زائف، ويقوم على تجاهل ما تحتاج إليه سوريا بعد خمسين عاماً من الإقصاء والاحتقار والإهمال؛ ونصفها الثاني وهمي انطلاقاً من الاعتقاد بأن سوريا وشعبها ليسا جديرين بأن «يُنظر فيهما وفي حاجاتهما التاريخية». وهكذا، تأتي القفلة ليُعلن من أعلى المنابر: ما يحدث في سوريا هو مؤامرة كونية. وبذلك، يُفرّط بالإصلاح الديموقراطي بوصفه رذيلة من صنع «الأعداء»؛ وبالعقل بوصفه عبئاً على مَن يرى فيه تهمة تقود إلى فضح المستور.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى