صفحات العالم

الثورة السورية وسلمية الربيع العربي: الخصوصية والمحاذير


صادق أبو حامد

على مقربة من إشعال شمعة الشهر الرابع لميلاد الثورة السورية، بات من الجلي أن عمقها واتساعها تجاوز أي إمكانية لحصرها أو إطفاء شعلتها.

كما أن ما حققته من تطور في قدرتها التنظيمية واستراتيجيتها الإعلامية أمّن لها النمو والصلابة في معركتها، في الوقت الذي يبدو النظام مصاباً بعقم سياسي وإعلامي يشير إلى عمق أزمته، وانسداد أفقه، حيث مازال يكرر نفسه في إطار الحلول العسكرية والأمنية التي ثبت فشلها تكتيكياً واستراتيجياً، وإن كانت مازالت قادرة على التسبب في المزيد من الضحايا والأوجاع.

ويبدو أن النظام نفسه بدأ يدرك لا جدوى عنفه العسكري، إلا أنه يستمر في اللعب بورقته الوحيدة في معركة بدأت تأخذ شكل عض الأصابع.

في هذه المرحلة من الصراع، يراهن النظام على أن تكون قدرة احتماله أكبر من قدرة احتمال الشعب، لذلك بدأنا نسمع الخطاب الرسمي يكرر فكرة أن النظام يستطيع احتمال هذه المظاهرات لعدة سنوات. وهو إدعاء ليس له أي سند في الواقع، فالجيش والأمن يعيشان ظروفاً مرهقة نفسياً وجسدياً إلى أبعد حد، مما يجعل زمن احتفاظهما بالتماسك محدوداً، بينما يقترب النظام من أزمة اقتصادية تصعب السيطرة عليها، كما أن رجال الأعمال والطبقة الوسطى لا يمكنهم القبول بأن تستمر حالة الركود والكساد لفترة طويلة، ولحظة إدراكهم أن النظام الحالي لم يعد يملك أية مفاتيح للخروج من الأزمة، سينتقلون إلى الطرف الآخر في سعي براغماتي لتقصير فترة المراوحة بين نظامين. ولعل ذلك يفسر، من بين أسباب أخرى، التزايد الملفت لأعداد المنخرطين بشكل مباشر في المظاهرات المطالبة بسقوط النظام، وهو تزايد تشهده المناطق المدنية بعد أن شكلت المناطق الريفية والضواحي منابع الاحتجاجات منذ المراحل الأولى.

لكن لعبة عض الأصابع تلك لها محاور تأثير عديدة، ولا يمكن تبسيطها وكأن انتصار الثورة فيها هو تحصيل حاصل. ولعل أخطر ما يمكن أن يواجه الثورة في مرحلة اختبار الإرادات هذه، هو المساس بسلمية الثورة، تلك السلمية التي تمثل ضمانة النجاح الأولى، ما يجعل المساس بها يعني إصابتها في مقتل.

ليست “السلمية” صفة ضرورية لصورتها الحضارية، ولا لرومانسية هذا التعبير، وإنما لأن الربيع العربي برمته يستند في خصوبته إلى هذه البذرة. ما أثبتته التجربة أن من بين أسباب التأخر في محاولة تغيير النظام اقتصار نظرتنا إلى النظام على قوته العسكرية والأمنية، وبالتالي استحالة مواجهة هذه القوة بقوة مكافئة، خاصة وأن العديد من تجارب التمرد المسلح في أكثر من بلد عربي، يسارية كانت أم يمينية، سُحقت على يد الآلة العسكرية للأنظمة الحاكمة التي بالغت في استثمار الصدام المسلح لجهة بناء ودعم أجهزتها الأمنية، بينما لم تستطع تلك الحركات كسب تأييد جماهيري واسع، لأنها كانت تمثل استبداداً فكرياً من نوع آخر، لا تبدو تمايزاته واضحة مع الأنظمة الحاكمة.

الثورة السلمية حملت في طبيعتها عوامل قوتها ووضع الأنظمة في مأزق لا مخرج منه. فالسلمية كانت نقطة القوة لدى الثورة التي تواجه مباشرة نقطة ضعف النظام الاستبدادي. فمن جهة لم يكن بمقدور النظام أن يترك المظاهرات الجماهيرية تعبر عن نفسها دون أن يقمعها. إذ أن افتقاره إلى الشرعية سيجعل الغالبية الساحقة من الجماهير تخرج إلى الشارع مطالبة بإسقاط نظام لم تختره، ولم يذقها إلا المرارة. ومن جهة أخرى كلما واجهها عسكرياً وأمنياً كلما زاد من حالة الغضب، وفتح الأبواب لدخول المزيد من الجماهير في معركة التحرر. إضافة إلى خسارته على صعيد الرأي العام العالمي الذي مهما ساءت نواياه، ومهما حاول تجاهل فظائع أنظمة كانت تخدم مصالحه، فإن تزايد العنف وتطور الحراك، يفرض عليه مواجهة الواقع واتخاذ مواقف واضحة. وهو ما فعلته بنجاح الجماهير العربية بمساندة عملية من التطور التقني والإعلامي، وبمساندة نفسية اعتباراً من نجاح ثورة تونس في إسقاط الطاغية.

سورية والمثال الليبي

هناك من يقول إن ما يحدث في سورية مختلف عن بقية ثورات الربيع العربي، فالإفراط في استخدام القوة العسكرية والأمنية الذي يمارسه النظام السوري، يجعل من المستحيل على الثورة الاحتفاظ بسلميتها، كما أن من حق المحتجين، وفق هذه الرؤية، الدفاع عن أنفسهم.

هذا المنحى في التفكير هو بالضبط ما يسعى إليه النظام، ولعل جل التحركات العسكرية في المدن والقرى السورية في الشهر الأخير، بعد أن اتضح ضآلة قدرتها على إسكات الثورة في حوران، تهدف أساساً إلى استفزاز ردود مسلحة. بينما يبدو جلياً أن الهدف المستمر لآلة النظام الإعلامية هو إثبات وجود جماعات مسلحة، وهو ما فشلت فيه إلى حد بعيد. ما يتمناه النظام إذن هو الانتقال بأسرع وقت ممكن، وقبل أن يخسر جيشه تماسكه، إلى مواجهات مسلحة، تجعله يستعيد المبادرة بسلب الثورة نقطة قوتها، وبجرِّها إلى حلبته، حيث يستطيع أن يمارس من الوحشية ما لا يمكن تصوره.

ما حدث ويحدث في ليبيا، يبدو مثالاً على مخاطر التخلي عن السلمية. فقد عمل القذافي منذ بداية الثورة على دفع الثوار إلى التسلح من خلال الإيحاء بهزيمته السريعة، وترك قواعد عسكرية تحت سيطرة الثوار، مما حول الثورة السلمية، منذ خطواتها الأولى، إلى مواجهة مسلحة استخدم فيها القذافي كامل قوته الضاربة. وكان من المنطقي حينها أن يحقق نجاحات سريعة، أمام افتقار الثوار للخبرة العسكرية وللأسلحة المتطورة. والنتيجة كانت تراجع الثوار، كما نذكر جميعاً، إلى آخر معاقلهم في بنغازي، ووقوف قوات القذافي على بعد خطوة من حسم المعركة لصالحها.

مشهد الجماهير الليبية تبتهل إلى الله في بنغازي خوفاً من دخول قوات القذافي إلى المدينة وارتكاب مجزرة مروعة يعلن القذافي بعدها انتهاء الثورة، واستمرار حكم عائلته بالنار والحديد، هو المشهد الأول الذي يجب أن يذكره كل فرد أو جماعة تفكر في حمل السلاح رداً على همجية النظام. أما المشهد الآخر فهو المرحلة التالية من السيناريو الليبي.. أي التدخل العسكري الخارجي.

لعل خللاً في الزمن لم يحسب القذافي حسابه هو الذي أنقذ الثورة ولو جزئياً. إذ أن ما ظهر من انهيار سريع لقوات القذافي في البداية، وسيطرة الثوار على غالبية الأرض الليبية، عجّل في تحرك الدول الكبرى التي اعتبرت أن عصر القذافي قد انتهى، وساندت مَن بدا أنهم حكام ليبيا الجدد. لذلك عندما استعادت قوات القذافي ما فقدته، كانت الدول الغربية قد وضعت جميع أوراقها في سلة الثوار، ما جعل عودة القذافي تبدو مستحيلة سياسياً، وهي الحسابات التي أدت في نهاية المطاف إلى قرار تدخل قوات الناتو عسكرياً تحت مسمى حماية المدنيين. التدخل الذي لم يكن بالإمكان رفضه، رغم بقائه غصة في حلق الربيع العربي، لأن ذلك كان يعني نهاية الثورة على أبشع وجه، وعودة السيادة إلى القذافي وبنيه.

ما زالت الثورة مستمرة في ليبيا، وما زال الثوار يبذلون الغالي في سبيل تحقيق أهدافهم، وأملنا أن يستعيد الشعب الليبي المبادرة فور سقوط الطاغية، لكن ذلك لا يحول دون رؤية التشوه الذي أصاب هذه الثورة، حيث تشكل على عجل مجلس انتقالي ليس من الواضح صلة أعضائه بثورة الشباب التي سمعنا بها، وحيث للخارج يد طولى في ترتيبات الثورة وما بعدها، بحكم حاجة الثورة والمجلس الماسة إلى الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي، وليس أدل على ذلك التشوه من أن شخصاً كبرنارد هنري ليفي عدو القضايا العربية، والقائل بأن الجيش الإسرائيلي هو أكثر الجيوش إنسانية، بات صديقاً للمجلس الوطني الانتقالي، ويحظى بالحفاوة والترحيب في زياراته المكوكية إلى المجلس وإلى معاقل الثوار.

عدو لأصدقائه.. صديق لأعدائه!!

مما لا شك فيه أن الدول الغربية لا تتدخل عسكرياً إلا إذا كانت لها مصلحة مباشرة في هذا التدخل، وحين نتحدث عن المصلحة فالأمر أبعد ما يكون عن حقوق الإنسان والعدالة، هذا هو ديدن العلاقات الدولية، والربيع العربي مثال جلي على هذه المعادلة.

في كل الثورات التي أثمرت أم لم تثمر بعد، كانت مواقف الدول الغربية تبدأ بمساندة المستبد أو تجاهل الاحتجاجات ضده، فقد كان الطغاة يضمنون للدول الكبرى محاربة التيارات الشيوعية في فترة سابقة، ثم الجماعات الإسلامية، إضافة إلى مكافحة الهجرة غير الشرعية. وقبل هذا وذاك، يحافظون على الاستقرار دون أية شطحات غير محسوبة مهما تعرضت شعوبهم للاستغلال والغبن وحتى الاحتلال. أما انتقال تلك الدول إلى مرحلة تأييد ودعم الثورة فهو يأتي عندما يُظهر الحراك الجماهيري إرادة واستمراراً يعبر عن قوة الثورة وقدرتها على تحقيق أهدافها. موقف الدول الغربية، وهذه الحال، يبدو أقرب إلى تكيف ذكي مع متغيرات لا مهرب من الاعتراف بها.

لكن الواقع يشير إلى تمايزات في الموقف الغربي من الثورات العربية، فقد بات من الواضح أن الغرب لم يستطع حتى الآن تقبل فكرة تغيير النظام السوري، وبالتالي تجاوزَ مرحلة التصريح بضرورة الإصلاح. بل إن ما يتندر به المعارضون السوريون الآن، أن النظام الذي يدّعي الممانعة، والأكثر إعلاناً عن عدائه للسياسات والمصالح الغربية في المنطقة، يحظى بما يشبه الحماية من أعدائه المفترضين، فبعد أكثر من ثلاثة أشهر على بدء الثورة السورية، وبعد أن تجاوز عدد القتلى والجرحى مجموع ما سقط في الثورات العربية الأخرى، مازالت التصريحات الغربية تجاه سورية تراوح مكانها، بينما لم يتردد الغرب في التخلي عن أقرب أصدقائه في تونس ومصر بعد أيام معدودات على بدء الاحتجاجات. ويبدو أن أهداف الدول الغربية كانت محصورة في استثمار الحراك الشعبي في سورية لعقد صفقات مفيدة لها مع النظام، دون أن يؤثر ذلك على بقائه واستقراره.

لطالما أثبت النظام السوري أنه خير ضامن لاستقرار الحدود مع إسرائيل، وتوريطه للفلسطينيين في ذكرى النكبة وذكرى النكسة باجتياز الحدود مع الجولان كان تنبيهاً وتذكيراً للغرب بأهمية وحساسية الدور الذي يلعبه هذا النظام في حماية حدود إسرائيل. سياسة التهديد المبطنة بالأوراق التي يملكها النظام، والتي تتناقض مع شعاراته وطروحاته العلنية، كانت لزمن طويل إستراتيجية النظام في حماية كرسيه، فأفرع المخابرات السورية، بامتداداتها وعلاقاتها مع تنظيمات وجماعات مسلحة على المستوى الإقليمي، تمثل سلاح النظام لحماية نفسه. وهو ما فهمته تركيا كما يبدو من تهديدات وليد المعلم حين ألمح إلى قدرة النظام السوري على إيذاء تركيا عبر الحدود المشتركة. تهديدات أخذتها تركيا، كما يبدو، بعين الاعتبار خاصة وأنها تأتي من نظام يخوض معركة حياة أو موت.

واقع الحال أن التدخل العسكري مستحيل عملياً في سورية على المدى القصير والمتوسط، ولعل الدول الكبرى، والدول العربية والإقليمية، ستنتظر إشارات أوضح على ضعف النظام عسكرياً وأمنياً، واهتزازه أو حتى انهياره اقتصادياً، كي تنتقل إلى مرحلة متقدمة في مساندة الثورة السورية على الصعيد السياسي والدبلوماسي والإعلامي.

خصوصية الحالة السورية في علاقتها بالخارج ربما ينطبق عليها المثل: “رب ضارة نافعة”، فهي ضمانة للشعب أن الثورة لن تخرجه من نير الاستبداد ليسقط تحت نير التبعية، كما أن ما تشير إليه المواقف الإقليمية والغربية من حاجتها إلى الحفاظ على الاستقرار في سورية، لضمان استقرار دول الجوار، بما فيهم إسرائيل التي تفكر الدول الغربية بعقل مصالحها، تبدو ضمانة أخرى لعدم دخول سورية في الفوضى كما يهدد أبواق النظام، وهو ما يمثل أحد أكبر التخوفات لدى قطاعات مازالت صامتة من الشعب السوري.

القراءة المتأنية للمشهد السوري تثبت نجاح الثورة في صراعها مع السلطة على الصعيد الموضوعي من خلال اكتسابها قطاعات واسعة من الشعب السوري، وتفكيك الخطاب الرسمي السياسي والإعلامي، وعلى الصعيد الذاتي عبر بناء شبكات تنظيمية فاعلة على امتداد القرى والمدن السورية، وبلورة رؤى سياسية واجتماعية لدى تيارات معارضة جديدة للمرحلة الانتقالية، ومرحلة ما بعد الاستبداد. وهي مقومات تدفعنا إلى الاعتقاد بأنه طالما حمت الثورة نفسها من خطر التسلح، فإن ما اكتسبته من قوة وتنظيم وخبرة يكفيها لإكمال مشوارها اعتماداً على طاقتها الذاتية. وإذا كان النظام، كما نتوقع، سيستنفر جميع قدراته في الفترة القادمة، في محاولة أخيرة لسحق الاحتجاجات والإيحاء بأنه مازال في كامل قوته، فإن ذلك لن يكون قادراً على وقف زخم الثورة، ولن تكون عربدته سوى الأنفاس الأخيرة التي سينتهي بانتهائها.

*كاتب فلسطيني مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى