صفحات سوريةمنذر خدام

الثورة السورية وسياسة المكان


منذر خدام

لا يمكن لوم الدول الاخرى عندما تعمل من أجل مصالحها كما تراها هي، لكن اللوم كل اللوم يقع على المعارضة السورية، بشقيّها السياسي والعسكري، وهي التي جعلت نفسها منذ البداية أسيرة المكان المتواجدة فيه بما يرمز اليه من مصالح اصحاب المكان.

تعلّمنا أن السياسة هي تعبير عن المصالح، إنها في وجهها الأول اللغة التي تتم قراءتها بها في سياق تحولاتها وتغيرها عبر الزمن، وهي في وجها الثاني سلوك ومواقف تعمل على تحقيقها. بهذا المعنى وانطلاقا من الوجه الأول يمكن تفهم تغير اللغة السياسية لبعض الشخصيات السورية المعارضة أو القوى والتجمعات، بحسب مكان تواجدهم، إذ أن المكان له صلة قوية بالمصلحة.

والمصلحة هنا ليست بالضرورة مصلحة مادية أو معنوية يتم اكتسابها إضافة، بل مصلحة مكتسبة بالناقص يدفع إليها الخوف من حصول ضرر مادي أو معنوي على الشخص ذاته أو الجهة ذاتها. لكن، وانطلاقا من وجهها الثاني، فإن تغير السلوك السياسي والمواقف السياسية مع بقاء المصلحة ثابتة يعد نوعاً من النفاق الذي يضر بالمصلحة، بل قد يقضي عليها في كثير من الحالات.

ويزداد الأمر خطورة في حال توافقت تقلبات اللغة السياسية والسلوكات والمواقف العاملة على تحقيقها مع تقلبات المكان بما يرمز له من مصالح الآخرين، فتضيع عندئذ المصلحة العامة والخاصة ويصير السياسي ذاته مجرد أداة لتحقيق مصالح الآخرين سرعان ما يتم الاستغناء عن خدماته بمجرد قيامه بالدور المنوط به.

بكلام آخر يمكن القول إن السياسة هي مسؤولية تجاه المصلحة، سواء لجهة التعبير عنها أو لجهة تحقيقها، وبهذا المعنى فهي مسؤولة عن ابتكار الطرق الملائمة لبلوغها في ظروف الزمان والمكان المتغيرة. والطرق المعتمدة في التعبير عن المصلحة ليست شيئا خارجا عن المصلحة بل هي ركن أساسي من أركانها، إنها السبل الموصلة إليها، فكم من مصلحة ضاعت أو انقلبت إلى ضدها نتيجة لعدم اختيار الطريقة المناسبة للتعبير عنها ولتحقيقها!

في ضوء هذه المقدمة المنهجية يمكن القول إن معظم السياسات التي تنتهجها المعارضة السياسية السورية خصوصا تلك العاملة في الخارج، وكذلك المعارضة المسلحة في الداخل تفتقر إلى المسؤولية تجاه القضية المركزية التي تدعي أنها تعمل عليها وهي “إسقاط النظام بكل أركانه ومرتكزاته ورموزه من أجل بناء نظام ديموقراطي تعددي”. وفقدان المسؤولية هنا يعني عملياً إضافة إلى جهد النظام في القضاء على المعارضة وعلى قضيتها المركزية معاً.

ثمة أمثلة كثيرة تدل على افتقار سياسة المعارضة السورية  للمسؤولية تجاه قضيتها المركزية، بل تجاه قضاياها الفرعية الخاصة. من هذه الأمثلة  نشير إلى حضور الشيخ العرعور أخيراً اجتماعا لتوحيد قوى عسكرية في شمال سوريا لمجرد إلقاء كلمة وأخذ بعض الصور، الأمر الذي أفاد النظام منه كثيراً. وللمناسبة كان ظهور العرعور وخطابه الشعبوي على مسرح أحداث الثورة في سوريا منذ البداية ضارا بالثورة ذاتها لجهة استخدام النظام له في تخويف الأقليات وشد لحمة أجهزته ومناصريه. وضرره لم يكن نابعا من طبيعة خطابه فقط بل من المكان الذي انطلق منه أيضاً. ثم أين هي المسؤولية في محاولات بعض أطراف المعارضة السورية إبراز الطابع الإسلامي للثورة في سورية، في بلد يشكل فيه غير المسلمين أكثر من ثلث السكان، ويشكل من يعارض ذلك غالبية السكان؟

 ثم أية رسالة وجهها تشكيل التجمع السوري للإصلاح الذي أعلن عنه في القاهرة ويضم قوى سياسية ودعوية ذات صبغة دينية تراوح من أقصى التطرف وأقصى الاعتدال لكثير من السوريين من غير المسلمين الذين يتخوفون أصلا من المد الديني الإسلامي ناهيك عن القوى العلمانية واليسارية والليبرالية في سوريا وهي قوى مهمة جدا في المجتمع أو في الثورة؟ وأية رسالة أراد القيمون على تشكيل جيش تحرير سوريا الإخواني، وكذلك كتائب صدام حسين، هذا عداك عن كتائب المجموعات الإرهابية الموصوفة للشعب السوري؟ النتيجة المباشرة لكل هذه السياسات والسلوكات  التي تمارسها المعارضة السورية وما أكثرها تتمثل في أنها خلقت للنظام قضية مقنعة، بل محقة يستخدمها لشد أزر مناصريه، ولرفع معنويات قواته العسكرية والأمنية. ومن النتائج المباشرة لهذه السياسات والسلوكيات أن توقفت الانشقاقات عن أجهزة النظام المختلفة أو كادت خلال الشهرين الأخيرين رغم اشتداد المعارك في جميع أنحاء سوريا. وبالكشف عن المستور وراء كل ذلك ربما نجد العجب العجاب من تدخلات جهات عربية وإقليمية ودولية لا تعنيها حرية الشعب السوري ولا كرامته ولا الديموقراطية التي يحلم بها وثار من أجلها، بل مصالحها الخاصة وفي القلب منها تدمير سوريا وشعبها  خدمة  لحسابات إستراتيجية تخصها.

لا يمكن لوم الدول الأخرى عندما تعمل من أجل مصالحها كما تراها هي، لكن اللوم كل اللوم يقع على المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، وهي التي جعلت من نفسها منذ البداية أسيرة المكان المتواجدة فيه بما يرمز له من مصالح أصحاب المكان، حتى صار السوريون يطلقون عليها مسميات المكان ذاته أو مسميات أصحابه. لقد صارت المعارضة السورية تعرف باسم  جماعة اسطنبول، أو جماعة باريس أو جماعة قطر وحتى جماعة النظام بالنسبة للمعارضة المتواجدة في الداخل. إن تشتت المعارضة السورية وتناحرها ليس نتيجة لغياب الحياة السياسية عن سوريا لعقود من السنين فقط، كما يحاول البعض اشتقاق عذر مخفف ، وليس نتيجة لاختلافاتها الأيديولوجية أيضا رغم حضورها كغطاء في بعض الحالات، بل نتيجة لسياسة المكان والأجندات الخاصة المرتبطة به.

فمنذ البداية أعاقت جهات عربية وإقليمية ودولية تدّعي صداقة الشعب السوري وحدة المعارضة السورية، وهي لا تزال تحول دون ذلك. ومنذ البداية عملت هذه الأمكنة على تشجيع التطرف في سوريا وعلى تأجيج الصراعات الطائفية حتى صار الخطاب الطائفي عنوانا عريضا للمعارضة السورية. ومنذ البداية وحتى اليوم فهي تعوّق أي حل سياسي من خلال العمل على دفع بعض أطراف المعارضة السورية لتتبنى مطالب مستحيلة أو خيارات كارثية.

إن الصلة بين المكان بما يعنيه أيضاً من مصادر تمويل وتسليح وتغطية إعلامية من جهة، والسياسات الخاطئة للمعارضة السورية من جهة ثانية، تصب في خدمة النظام في المديين القصير والمتوسط، وهي في النهاية وفي المدى البعيد لا تخدم مصلحة أحد في المنطقة أو في غيرها سوى إسرائيل. إنه لمن الخطورة بمكان إشعال النار في الجوار عندما تكون المنطقة كلها هشيماً، كما إن  الاستثمار السياسي أو المادي في التطرف والإرهاب له نتائج مؤكدة تسمى كوارث.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى