صفحات سوريةلؤي صافي

الثورة السورية وصراع الإرادة الوطنية والمصالح الدولية


د. لؤي صافي

ثمة صراع دائر اليوم في سوريا وحول سوريا يتطلب الكثير من الحذر واليقظة وبعد النظــــر، كما يتطلب من قادة الثورة في جناحيها السياسي والعسكري التحليل العميق والنفس الطويل، وتجنب أي قرارت ومواقف لا تتشوف مستقبل سوريا ومصالح الشعب السوري وشعوب المنطقة. الوضع الدولي والإقليمي والداخلي للثورة السورية بالغ التعقيد، فالعقبات كثيرة وصعبة، ورغبة القوى الدولية في تحقيق انتصار سريع للثورة السورية على نظام الأسد ضعيفة.

لكن الثورة السورية رغم هذه التحديات تملك زخما روحيا ونفسيا هائلا، وإرادة قوية تزداد صلابة مع تزايد التضحيات على تحقيق الانتصار على النظام المجرم. الشعب السوري يمتاز بوعي عال لأهمية موقعه ودوره وتنوعه السكاني، كما يمتلك طاقات بشرية خلاقة ومبدعة برهنت على أنها قادرة على تحقيق أعلى مستويات العطاء علميا وأدبيا وتجاريا وصناعيا داخل البلاد وخارجها. ويمتلك قبل هذا وذاك حسا وطنيا متميزا وشجاعة مشهود لها من قبل الصديق والعدو.

الضعف الأساسي الذي تعاني منه الثورة السورية نابع من الثقافة السياسية السورية التي تنزع إلى الفردية في القرار والتحرك، والميل إلى التشرذم عند الاختلاف، وغياب القدرات التنظيمية في دائرة الناشطين السياسيين والمثقفين السوريين. التشرذم وغياب التنظيم والاعتماد على التحركات الفردية والإعلامية، وإهمال البعد التنظيمي نقاط ضعف في الثورة السورية لا بد من تجاوزها من خلال التنظيم والتخطيط والتواصل والتشاور. وهذا يتطلب تطوير آليات عمل وبنى إدارية وتنفيذية.

التحرك السياسي في المرحلة القادمة يحتاج إلى فهم عميق للسياق الدولي والإقليمي، وإلى مجموعة من المبادئ الأساسية في الحركة تشكل الإطار الذي يتم من خلاله وحوله الدخول في عمل سياسي مع مختلف القوى والأطراف المعنية. بيد أنه من المهم أن يتذكر المعنيون في انتصار الثورة السورية وفي خضم التعاطي مع تحديات الجغرافيا السياسية السورية أن السياسة هي في جوهرها فن الممكن. فن الممكن يقضي الليونة والمرونة في القرار لاستيعاب المتغيرات لكنه يتطلب أيضا الحفاظ على الثوابت الوطنية، وفي مقدمتها احترام المصلحة الوطنية للشعب السوري والحفاظ على السيادة السورية واستقلال القرار.

ثمة معطيات أصبحت واضحة أفرزتها التجربة السياسية للثورة خلال الشهور المنصرمة، وهي بطبيعة الحال تنبع من مصالح الدولية والإقليمية، وترسم بمجملها الإطار العام لحدود الممكنات السياسية للمرحلة القادمة.

المعطى الأول أن النظام الأسدي لا يرغب بالقيام بعملية تغيير ديمقراطي بل يريد القيام باصلاحات شكلية لا تغير طبيعة الحياة السياسية الراهنة. فنظام بشار الأسد لا يسعى إلى إيجاد حل سياسي أو القيام بإصلاح حقيقي، بل يعمل بدأب لاتخاذ مواقف تخفف عنه الضغط السياسي وتعطي لحماته والمنافحين عنه في الخارج الذرائع لإلقاء اللوم على المعارضة.

الحل السياسي والإصلاح الحقيقي يعني نهاية النظام، وبالتالي فإن أنصار النظام يشددون على بقاء الأسد على رأس السلطة ويدعون إلى حكومة وحدة وطنية. لذلك فإن انجاز العملية الانتقالية يتطلب الأصرار على تنحي الأسد وقياداته الأمنية عن السلطة وتسليم السلطة إلى حكومة وطنية تقودها المعارضة.

المعطى الثاني أن القوى الدولية تخشى من تزايد الحراك العسكري وتفضل الوصول إلى حل ســــياسي يعيد حالة الأستقرار السابقة. ثمة تراجع واضح في دعم الثورة السورية مع تزايد القدرات العسكرية للفصائل الثورية وخشية البعض من تزايد تأثير الجماعات الإسلامية في سوريا. القوى الدولية تسعى اليوم إلى العودة إلى حالة الإستقرار السابقة’ ضمن صيغة تضعف من تأثير النظام وتسمح لبعض فصائل المعارضة السياسية الدخول في حكومة وحدة وطنية. ولا تمانع الدول الغربية من بقاء الأسد وهي لذلك ترفض كل المحاولات لنقل الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية.

أما المعطى الثالث فيرتبط بخشية القوى الدولية من التحالفات السياسية الراهنة داخل المعارضة السوري وتبدي تحفظها بشكل خاص على التحالفات عبر الخطوط الأديولوجية التي يتداخل فيها اليسارالسوري والقوى الإسلامية واليبرالية. هذه التحالفات تجعل القوى الدولية عاجزة عن التنبؤ بمسار الثورة السورية في المرحلة القادمة. إضافة إلى ذلك وتواصلا معه ثمة ثلاثة محددات مهمة تؤثر على موقف الغرب من الثورة: أمن إسرائيل والموقف من المقاومة الفلسطينية، النظام الأمني والمالي العالمي ورفض أي مساحات سيادية مباينة له، ومنظومة الأمن الدولي والحرب على الإرهاب ومنظمة القاعدة. ويبدو أن صانعي السياسة الشرق أوسطية في الغرب لديهم تحفظات كثيرة حول موقع الثورة السورية من هذه المحددات.

وأخيرا : يبدو جليا أن القوى الإقليمية الداعمة للثورة السورية لا ترغب بالتحرك خارج المظلة الدولية. القوى الإقليمية التي تقف مع الثورة السورية تملك علاقات ممتازة مع الولايات المتحدة ومنظمة الناتو، وهي ملتزمة بحلفها القوي مع القوى الغربية خاصة في مواجهة الخطر الإيراني بالنسبة لدول الخليج والروسي بالنسبة لتركيا. وبالتالي فإن الدول الإقليمية الداعمة للثورة السورية، خاصة تركيا وقطر والسعودية، حريصة على التحرك داخل المظلة الدولية. ومن هنا فإن اعتراضات الدول الغربية على تحركات الثورة ومواقف المعارضة ستلقى صدى اقليميا.

ما العمل إذن في خضم الاصطفافات الحالية؟ بالتأكيد ان لدى السوريين الكثير للقيام به للحفاظ على استقلالهم وسيادة بلدهم، ولعل في مقدمة المسؤوليات الملقاة على أحرار سوريا وحدة الصف لمنع أي توظيف للثورة السورية لتحقيق مصالح خارجية تتعارض مع حرية الشعب السوري ومستقبله، والاستفادة من الطاقات السورية الكبيرة داخل البلاد وخارجها، والعمل بدأب لخلق تحالفات مع منظمات المجتمع المدني في الدول العربية والصديقة. وقبل هذا وذاك إدراك أن الممكنات السياسية يجب أن تحسب أنطلاقا من الثوابت الوطنية للشعب السوري الشجاع والمعطاء.

‘ عضو الأمانة العامة رئيس مكتب السياسات والتخطيط في المجلس الوطني السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى