صفحات سورية

الثورة السورية ومخاطر انحرافها عن المسار السلمي


طلال النجار

من قال أن صوت الشعب من صوت الله لابد أنه كان يفكر بآلهة الإغريق، الحادة الطباع المتقلبة المزاج، التعسفية في أحكامها. وإلا فإن الحركات الشعبية بمختلف أشكالها وأوطانها تقدم أمثلة كثيرة عن تطرف الجماهير أحياناً، وغلوها في سعيها للخلاص بأي ثمن. وكم من ثورة انحرفت عن مسارها العادل في إحقاق الحق ورفع الظلم إلى الانتقام والفوضى والعدمية التي تجعل من إسقاط النظام القائم غاية في حد ذاتها، وليس طريقاً إلى حياة الأفضل.

والثورة السورية التي تواصل منذ ستة أشهر تحديها لواحد من أعتى أنظمة القمع وأشدها عناداً واستخفافاً بحياة مواطنيه تقدم ولاشك أمثلة مشرفة ليس فقط في الشجاعة المدهشة والعزيمة التي لا تثني، بل أيضاً في اعتزازها باستقلالها وإخلاصها لوحدة الوطن وسيادته، فضلاً عن التزامها بسلمية المقاومة ورفضها الانجرار إلى مسار اقتتال كارثي العواقب، رغم استفزازات النظام الكثيرة. إلا أن المتابع لتطورات الحركة الشعبية السورية في الأسابيع الأخيرة لابد أن تقلقه بعض بوادر التطرف التي تتمثل بشعارات أخذت تطفو على السطح في المدة الأخيرة وتهدد إن استمرت وصارت اتجاهاً عاماً أن تحرف الثورة عن مسارها، وتحولها في اتجاه لن يفيد منه في النهاية إلا النظام. صحيح أن الشعارات الجهوية تبقى محدودة ومعزولة، وصحيح أن الاحتكاكات الطائفية وحوادث حمل السلاح تبقى الاستثناء وليس القاعدة، وصحيح أيضاً أن هناك تياراً غالباً مازال يتمسك بسلمية الاحتجاجات وبرفض التدخل الخارجي، إلا أن هناك اتجاهاً بدأ يتسع بشكل مقلق في الفترة الأخيرة يرفض المنحى السلمي صراحة، ويدفع في اتجاه التصعيد والمواجهة المباشرة التي لن تفيد إلا في تقديم مبررات القمع للنظام. وليست الدعوة إلى الحماية الأجنبية التي انتشرت في المدة الأخيرة إلا عرَضاً بارزاً من أعراض هذا الاتجاه الجديد. وقد كانت تقتصر في السابق على جماعات بعينها ضمن المعارضة السورية (وخصوصاً في الخارج) وعلى بعض الشعارت المتفرقة في الداخل، فإذا بها تنتشر مؤخراً إلى مختلف تيارات المعارضة، حتى جعلتها “التنسيقيات” التي تنظم حركات الاحتجاج الشعبية على الأرض شعاراً لجمعة احتجاجات 6 أيلول، وحتى خرج موضوع التدخل الخارجي من مجال المحرمات وصار الحديث فيه مباحاً، بل ومقبولاً. ولاشك هنا أن تسمية “جمعة الحماية الدولية” خطأ كبير، بل وسقطة قد تكون لها عواقب وخيمة على سمعة الانتفاضة في الداخل والخارج. والمقلق في الأمر أن التسمية لم تأت من فرد واحد، أو من جاماعة بعينه، بل أنها فيما يفترض حصيلة لمداولات ومشاورات بين من يفترض أنهم يمثلون الحركة الشعبية في الشارع، فلا يمكن أن نصفها بمحدودية الإنتشار وضعف التأثير. والملفت أن تلك الشعارت المرفوعة في الداخل ترافقت مع دعوات أخذت تطلقها بعض أطراف المعارضة الخارجية لتسويغ التدخل الأجنبي وتبريره، إن لم يكن الدعوة إليه صراحة. ولايسع المرء هنا إلا أن يضرب كفاً بكف وهو يرى عبد الرزاق عيد، والذي يعد من أقطاب المعارضة السورية، وهو يلف ويدور في حواره على قناة France 24، فلا يتبنى خيار التدخل الخارجي بشكل مباشر، ولكنه، وأمام إلحاح المذيعة على جواب صريح، يعود فيقول أنه لا يستطيع أن يتحدى رغبة الشعب الذي استقبل السفيرين الفرنسي والأميركي بالترحاب والذي يدعو الآن إلى التدخل الأجنبي. ألهذا المستوى نزل مستوى المطالب السياسة للمعارضة؟ وهل يستغرب بعد ذلك أن نصدق شعار “لا للوحدة الوطنية” الذي ظهر، فيما قيل، في بعض المظاهرات؟

ولا مجال هنا لكل التبريرات التي تساق في تبرر التطرف والغوغائية، من عنف السلطات والقمع الوحشي وغياب الدعم العربي والخارجي، وترافق سلمية الثورتين المصرية والتونسي بإحجام الجيش فيهما عن التدخل لحماية السلطة. ولا مجال للمقارنة حتى مع الثورة الليبية التي يبدو أن انتصارها على نظام يشبه النظام السوري من عدة أوجه، وفي معركة بدت شبه مستحيلة في البداية، قد شجع البعض على المضي في نفس النهج. فنصر الشعب الليبي تم بقوة السلاح المنتشر لدى القبائل منذ البداية، وفي مواجهة تحولت عسكرية منذ انطلاقها ونجح فيها الثوار في السيطرة على نصف ليبيا على الأقل، ثم جاء التدخل الأجنبي على شكل ضربات جوية حيدت السلاح الضارب للقذافي ومكنت الثوار من حسم المعركة بأنفسهم على الأرض. والواضح أن الوضع السوري مختلف تماماً، فمقومات المواجهة العسكرية (حتى لو ترافقت مع دعم جوي) غير متوفرة بأي شكل. فحتى لو فرضنا أن هناك من هو على استعداد لتحمل الخسائر البشرية المخيفة (والتي تصل في ليبيا إلى 30000 قتيل في أقل التقديرات) والكلفة المادية الباهظة (والتي لن يعوضها نفط ولا أموال مجمدة)، فالظروف على الأرض مختلفة تماماً. فلا الجيش السوري كتائب القذافي، ولا الثورة السورية مسلحة، وليس بوسعها أن تكون كذلك حتى لو شاءت.

وهكذا فإن دعوات حمل السلاح التي علا صوتها بعض الشيء لن يكون من شأنها، كما يقول هيثم مناع، إلا إلقاء الأبرياء في مواجهة انتحارية مع نظام لا يبحث عن مبرر لممارسة عنفه الدموي، فضلاً عن إضفاء المصداقية على إعلام النظام ومساعدته في حملة التهويل التي يمارسها، والتي تخير المواطنين بينه وبين الحرب الأهلية. أما توسل الحماية الأجنبية فلن يكون لها إلا أن تثير مخاوف المواطن السوري قبل غيره من أهداف الاحتجاجات وغايتها وجدواها. ذلك أن نجاح الثورة السورية أو فشلها يتوقف على من يسميهم مناع نفسه الأغلبية الصامتة من الشعب السوري، والذين يقلق العديدَ منهم شبح التغيير العنيف والمفاجئ، والذي رأوا توابعه المأسوية في العراق. وهو شعور حقيقي وموجود لدى كثير، مهما بدا غير منطقي ومهما جادلنا في بعد المقارنة بين سوريا والعراق واختلاف طبيعة التغيير في كل منهما، ومثل تلك الشعارات لن تخفف طبعاً من هذه الهواجس ولن تطمأن الخائفين على مستقبل البلاد بعد التغيير، بل أنها ستدفع الكثيرين إلى مزيد من الحياد، إن لم نقل تأييد النظام باسم الاستقرار بأي ثمن.

هذا كله إذا رأينا الأمر من الناحية البراغماتية العملية، ومن منطق التغيير بأي شكل. أما لو تحدثنا بمنطق من يريد التغيير من أجل مستقبل أفضل، ومن لا يريد هدم البلاد من أجل أن يهدم النظام، فالحل العسكري يبقى مرفوضاً حتى لو توفرت مقوماته. وهل هناك من هو على استعداد، حتى بفرض تحقق السينايو الليبي الذي يبدو أفضل المسارات الممكنة للحل العسكري، أن يرى حرية الشعب السوري تتحقق بمساعدة أكبر داعمي إسرائيل ومؤيديها، ممن يضعون على رأس أولوياتهم في الشرق الأوسط، ليس فقط “أمن” إسرائيل وبقاءها، بل وهيمنها العسكرية والاقتصادية في المنطقة؟

ولا نريد هنا أن نكرر البديهيات، من أننا لا ندافع عن تعنت النتظام ووحشية أجهزته الأمنية، وعجزه عن فهم ما يجري في العالم، ولا عن إعلامه المنافق الوقح في انحيازه وتضليله. ولكن التعجل والاندفاع الذي يسيطر أحياناً على بعض أطراف المعارضة يهدد بعواقب قد تكون وخيمة. ولا مجال هنا لاعتراضات من نوع أوليس التدخل الأجنبي أفضل من استمرار الظلم والإهانة؟ وإلى متى نستطيع نحمل القمع والترويع؟ وهل نلوم المدنيين إن دافعوا عن أنفسهم؟ واتجاهات لا يمكن أن نصفها إلا بالعدمية، من قبيل أن يسقط النظام ونفكر بعدها، أو أن أي شيء أفضل من هذا النظام، مما قد يقود إلى مسارات انتحارية. ولسنا هنا في معرض مقارنة شر بآخر. لأنه ليس من شيم الثورة أن تفاضل بين مستبد وآخر، وبين قمع وقمع غيره. الثورات تنطلق باتجاه أهداف محددة لا تقبل عنها بديلاً. والثورة السورية قامت لتحقيق أهداف معروفة في الحرية غير المشروطة واستعادة الشعب لحقه في حكم بلده وحكم نفسه، وليس ضد أشخاص بعينهم ولا اتجاهات بعينها، ولذلك فإن إسقاط الحكم القائم ليس غايتها القصوى، فتلك الوسيلة وليس الهدف ذاته، وهكذا يجب أن تستمر وإلا فمصيرها الفشل.

ولذلك فإن المعارضة السورية، ليس فقط بمعناها السياسي المباشر بل وبوصفها تضم كل من يرفض استمرار هذا النظام وما جره على البلد من تأخر واستبداد، تقف أمام امتحانٍ حقيقيٍ، يتمثل في الحفاظ على المسار السلمي للثورة والابتعاد عن نزوات المغامرين والمزاودين، فالمسؤولية تتعلق بمصير بلد بأكمله. وإذا كان الاعتراض على ذلك أن الحل السلمي لم يعد مجدياً، وأن المحتجين العزل لم يعد لهم الصبر على مواجهة الدبابات بصدورهم العارية، فالجواب بكل بساطة أنه ليس هناك من يجبرهم على ذلك. لا أحد يطلب من أي سوري، مهما كانت درجة وطنيته وتفانيه في التضحية، أن يخرج لمواجهة رصاص النظام وقذائفه، ولن يلومه أحد إن أحجم عن ذلك. فالثورة إما أن تكون سلمية مستقلة نابعة من الشعب السوري وحده، أو لاتكون. وإذا وصل المحتجون حداً أدركوا معه أنه لا قبل لهم بالنضال السلمي، فليس الحل بالمواجهة المسلحة غير المتكافئة، والتي ستجر البلاد إلى دوامة لا نعرف لها نهاية، بل بالبحث عن طرق أخرى للمواجهة السلمية. والشعب، مهما قلنا في شططه أحياناً، تبقى له عبقريته التي لن يعجزها أن تجد طريقاً للخلاص من نظام سقط شرعياً وأخلاقياً ولكنه لم يسقط فعلياً بعد، والفرق كبير بين الحالتين.

وإذا بحثنا عن أمثلة نتعلم منها، فليس علينا أن ننظر بعيداً. فلنا قدوة في الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، والتي بدأت عسكرية مسلحة حتى تم لها تحرير دمشق وطرد المندوب السامي منها. ولكنها ما لبثت أن صُدمت بوحشية الفرنسيين في قمع الثورة المسلحة، والتفاوت الكبير في ميزان القوى العسكرية، فتحولت إلى منحى النضال السلمي السياسي، حتى تم لها أخيراً تحقيق أهدافها في التحرر من الاستعمار التقليدي، الاستعمار الخارجي. ولا نظن أن الشعب السوري اليوم ستعوزه الوسائل في التحرر من الاستعمار الجديد، الاستعمار الداخلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى