صفحات العالم

الثورة في عيون عمّال سوريين


رامي الأمين

رسم لإيلي حداد. كأن الكلام رمل ينساب من ساعة رملية، راح من سأسميه أحمد، وهو مواطن سوري من درعا، يعيش في مدينة شيعية في جنوب لبنان، يحدثني عن أيامه الأربعة التي امضاها في مسقطه الذي دخله سراً ليطمئن إلى أهله واخوته قبل أن يعود أدراجه إلى زوجته وأولاده الذين ينتظرونه في جنوب لبنان، حيث يعمل لدى مؤسسة إعلانية. بدأ الكلام متقطعاً بعض الشيء، ذائباً في لعاب الرجل الذي أكثر من ابتلاعه، كأنما يريد للكلام أن يعود إلى بطنه، حيث تعوّد أن يكتم أسراره. الرجل، الذي قال إنه ماركسي الهوى، بدأ يحدثني، متمنياً عليَّ بشيء من الترجّي ألا أذكر اسمه لأن ذلك سيعرضه لخطر هو وعائلته، ولن يكون في مقدوره بعد ذلك العودة إلى درعا، التي وصفها بأنها “صندوق خضر” سوريا. فالمدينة الجنوبية، التي تقع عند الحدود الأردنية، والتي يقوم عليها سهل حوران، تشكل أرضاً زراعية خصبة، وهي تحتل مرتبة عالية في انتاج البندورة والخضروات. مطيلاً في مقدمته، ومسترسلاً في عرض تاريخي وجغرافي لواقع درعا، ثم في استعراض سيرته الذاتية، وتحصيله العلمي وشهادته الجامعية في الحقوق، وعشيرته الكبيرة التي تقف كلها صفاً واحداً في كل الظروف والمناسبات، كان أحمد يحاول أن يقذف إلى الأمام الحديث عن المآسي، كأنما يؤجّل الألم ولو لدقائق معدودة. وكنت، رازخاً تحت حشريتي، أقاطعه، وأسأله عما رآه هناك، فبدأ حينذاك بإخباري كيف دخل إلى سوريا عبر الحدود اللبنانية – السورية بطريقة غير شرعية، وبالسر، خوفاً من اعتقاله لمجرد أنه من أبناء درعا، ولمّا يقبل بإخباري عن كيفية دخوله عبر الحدود اللبنانية – السورية، مكتفياً بالإشارة إلى أنها حدود سائبة وغير منضبطة، يمكن أي شيء أو أي أحد أن يمر عبرها.

عندما قلت إنني لا يمكن أن أصدّق سهولة دخوله إلى سوريا بهذه الطريقة، ضحك وقال إن ذلك شأني، ثم بدأ يحدّثني عن أمور متقطعة وغير مترابطة. كان يصعب عليَّ إحكام السيطرة على مجريات الحديث، فكان يقفز من موضوع إلى آخر، فبدا حديثه مشتتاً، حيث استهله بمشاهد العسكر والدبابات، ثم راح يصف حقول الخضر التي داستها جنازير الدبابات، وعمّه الثمانيني الذي لقي مصرعه برصاص الأمن عندما خرج إلى الشارع، غافلاً أن فيه حرباً. عرّج طبعاً على حال أهله، الذين فقد الاتصال بهم طوال الفترة السابقة بسبب انقطاع خطوط الهاتف، فاضطر إلى الذهاب للإطمئان إليهم، وكانوا كلهم بخير إذ لم يتعرض لهم أحد، ثم أخذ يتحدث عن خطوط الهاتف الأردنية التي عملت السلطات السورية للتشويش عليها فصارت غير ذات فائدة، وقال إن من يتصلون بالقنوات الفضائية والوكالات من داخل المدن السورية يستخدمون نظام الثريا، الذي يصعب التشويش عليه. أحمد الذي يريد التغيير، لا ينطق صراحة برغبته بإطاحة نظام الرئيس الأسد، لكنه يقول إن على البعثيين أن يفهموا أن الناس تعبوا وأن الدبابات والآلة العسكرية المتوحشة، لن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. هنا يبلع لعابه مجدداً.

أخبرني قريب لي ان الشابين السوريين الذين يعملان لديه في البناء والاهتمام بالأرض في القرية معارضان للنظام السوري، وأنهما من آل الحريري من درعا، وهذا وضعهما في كماشة التعاطي اللبناني معهما، فقريبي واصدقاؤه غالباً ما يهددونهما، من قبيل المزاح، بتعليق المشانق لهما! ينسحب المزاح الثقيل هذا إلى تهديدهما بجعلهما عبرة لآل الحريري، في إشارة إلى عائلتيهما. لكن الضحك أخيراً يأخذ طريقه إلى العلاقة التي لا تشوبها اعتبارات سياسية بقدر ما تحكمها لغة المصالح المشتركة. لكن ما أتيقن من انه لا يتخطى المزاح، لا يشبه البتة ما تيقنت انه حقيقة مرّة. ففي الأوزاعي، وفي زمن البناء غير الشرعي، يحتاج كثيرون إلى العمال السوريين لتنفيذ مخالفاتهم. وهذا قد يبدو طبيعياً، إذ ليس على البنّاء سوى البناء مقابل المال. لكن ما فعله بعض المخالفين من نافذي الأحزاب في تلك المنطقة، انهم كانوا، وبطريقة فيها الكثير من “المزاح”، يدخلون إلى مساكن العمال السوريين، حيث يعيش عشرات في غرفة واحدة، ويبدأون بالهتاف ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد. ثم ترتفع نسبة الحماسة حتى ينتفض العمال ويروحوا يهتفون مع الحزبيين اللبنانيين، ظناً منهم أن المسألة جدية. حينذاك يقعون في الفخ. ويبدأ اللبنانيون بمحاسبتهم على مواقفهم ضد النظام، ويهددونهم بتبليغ الاستخبارات السورية عنهم بأنهم يقودون خلايا معارضة من لبنان، فينصاع العمال السوريون تماماً إلى من أوقعهم في فخّ “الخروج من الصمت”، بتنفيذ كل ما يريدونه، من بناء وسواه، مجاناً، وبالسخرة!

قصة ثالثة يأتي بها الموج إلى شاطئ الرملة البيضاء. هذا الشاطئ يحمل ذاكرة لم يستطع الموج محوها عن رماله. فهو تحول رمزاً للاحتلال السوري واستخباراته التي اتخذت من فندق البوريفاج القريب مقراً لها. وكان رجال الاستخبارات غالباً ما يمضون وقتهم على الشاطئ، ينتهكون حريات الناس الشخصية في التنزه والسباحة وتمضية الأوقات الحلوة. بعد رحيل الجيش السوري واستخباراته عن لبنان، استعاد الشاطئ هذا بعضاً من حيويته، ومن أول المستفيدين من هذه الحيوية هم العمال السوريون يجدون متنفساً في البحر الذي يأخذ همومهم بعيداً. البحر أخيراً صار يأتي بالهموم لهؤلاء، وخصوصاً أن ما يحدث في سوريا رسا على رمال الرملة البيضاء، ولحق الانقسام ما بين مؤيدي النظام السوري ومعارضيه بالعمال الذين يمضون نهار عطلتهم، كل نهار أحد، في السباحة والجلوس على الرمال الدافئة. واذ يجاهر المؤيدون للنظام بمناصرتهم له بشكل فاضح وعلني، يصل إلى حدّ التجمع على الرمال والهتاف لبشار الأسد، لا ينطق المعارضون بسهولة بموقف واضح وصريح من نظامهم. عليك أن تستدرجهم الى الحديث، وهذا يحتاج إلى طمأنتهم بأنك لست واحداً من عناصر استخبارات بلادهم. بعضهم، سليم، مثلاً، الذي يعمل دهاناً، وبعد اطمئنانه تماماً إلى أنني لن أكشف هويته، يقول إنه يريد للشعب السوري الحرية، ويتابع أنه يتمنى أن يعود إلى بلاده من دون أن يخاف على مصيره، لأنه من اللاذقية، المدينة البحرية المتمردة، التي يصب النظام عليها جام غضبه. يقول إن البحر واحد، هنا وفي اللاذقية، ولذلك فإنه يعرف أن وقوفه إلى جانب مدينته ولو من بعيد سيكون له أثر ولو بسيط في تطور الأمور. يأتي اصدقاؤه ويتجمعون حولنا. يصمت فجأة. وعندما أسألهم جميعاً من منكم مع النظام السوري؟ يجيب مع الجميع: كلّنا مع بشار الأسد. ثم يخرج بينهم من يبدأ بالهتاف: “الله، سوريا، بشار وبس”، فيجاريه الجميع في هتافه كأنما في تظاهرة. وحده سليم لا ينطق ببنت شفة، يعطيني نظرة سريعة وحزينة قبل أن ينسحب متوارياً ومطأطئاً رأسه في الأرض.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى