صفحات سوريةياسين الحاج صالح

الثورة كصناعة للأمل


ياسين الحاج صالح

 خلال 18 يوما من الثورة المصرية كنت على تواصل شبه يومي مع أصدقاء مصريين. كانت مشاعرهم يتناوبها العزم والإحباط، الأمل والقنوط، الإقدام والقلق. كنت بالمقابل، وحتى قبل سقوط مبارك، أرى أنهم حققوا الكثير، وسيحققون أكثر بعد. لم أكن على يقين من ذلك طبعا، وبالطبع أعرف مصر أقل بكثير مما يعرفها أصدقائي المصريون، لكن بدا لي أن الثورة بحد ذاتها مأثرة عظيمة، لأنها حررت إرادة المصريين، وأعادت لهم قدرا من الثقة بالنفس، وأطلقت ديناميات اجتماعية وسياسية ونفسية كسرت استقرارا مصريا خانقا، ولا تزال حصيلتها أبعد من أن تكون محسومة. .

هذا يصح على سورية أيضا. تتموج مشاعرنا كل يوم. تتناوبنا الثقة والإحباط، التفاؤل والتشاؤم، مرة نشعر باليقين من أن الكفاح البطولي لشعبنا سيعطي ثماره المأمولة، ومرة نفقد هذا اليقين ويتسلل اليأس إلى قلوبنا.

لكن الثورة صناعة للأمل دون ضمانات مسبقة بأن النصر محتوم. وهي أيضا بحد ذاتها مأثرة استثنائية للشعب السوري، ولا شك عندي أنها ستغير سورية وتخرجها إلى الهواء والنور، وتفتح لها سجل تراكم مادي ومعنوي وسياسي جديد.

لقد انبنى النظام السوري على إنتاج اليأس بالجملة وتعميمه على السوريين. وعبر ما لا يحصى من المقرات الأمنية الرهيبة، وعبر جيش مهول من المخبرين، وعبر إفساد الضمائر وتخريب الحياة السياسية والأخلاقية والثقافية، وعبر الإفقار المتسع النطاق، عمل النظام على حبس السوريين ضمن دائرة التشاؤم من أنفسهم واليأس من تغيير أحوالهم، ومن تقرير مصيرهم مجتمعا وأفرادا. وليس عبارات مثل “سورية الأسد” و”الأسد إلى الأبد”، و”الأسد أو لا أحد”، و”الأسد أو نحرق البلد”، غير إعلانات صريحة لعموم السوريين بأن يرتضوا بأن يبقوا عبيدا سياسيا لحاكميهم، ولا يتطلعوا أبدا إلى أن يكونوا أحرار مثلهم أو مساوين لهم.

وما يسمى عادة “جدار الخوف” هو السور المرتفع الذي يمنع تسرب الأمل إلى الرعايا اليائسين المحاصرين داخله. ولقد عرف السوريون أن صنع الأمل يتم بالشجاعة، شجاعة الإرادة وشجاعة القلب.

وبقدر ما كانت الثورة السورية مستحيلة، فإنها معجزة أيضا. لقد تحدى مئات ألوف وملايين السوريين نظام اليأس العام، وقرروا علانية أنهم أحرار، وأنهم يعتزمون تغيير مجتمعهم ووطنهم كي يكون حرا، ودفعوا بسخاء ألوف الشهداء وعشرات ألوف من الحيوات المبتورة في السجون أو الإعاقات الجسدية أو البيوت المدمرة أو فقدان الأحبة.

الثورة مستمرة مع ذلك، تدافع عن نفسها بعزم، وإن بدرجة أكبر من تصلب النفوس والقلوب، ومن الاستماتة. لقد أغرق النظام الأسدي البلد بالدم والموت كي يحمي إقطاعة اليأس التي يديرها بخسة لا تحد. لكن لا شيء يمكن أن يعيد الشعب السوري إلى داخل السور. لقد شب السوريون عن الأطواق الأمنية والسياسية والنفسية التي قيدهم بها النظام، وسيخوضون معركتهم إلى النهاية مهما يكن الثمن. والغالب أنه سيكون باهظا جدا. أليس باهظا منذ الآن؟ لكن لا بد من هدم الأسوار إن كان لبلدنا أن ينهض يوما، وإن كان لشعبنا أن يرفع رأسه يوما.

طوال عقود كان النظام الأسدي قد التصق بوجه سورية مثل قناع محكم، بحيث يتعذر نزع القناع دون تحطيم الوجه ذاته. ويبدو أن عاما من سير الثورة السورية المجيدة يرجح هذا التقدير المقلق. لقد جرى تصميم كل شيء بحيث لا يستطيع المجتمع السوري أن يتخلص من النظام دون أن يحطم نفسه. لكن رهان السوريين هو نزع القناع الذي يخنق أنفاسهم ويشوه طلعاتهم دون أن يحطموا وجه بلدهم. الأمر شاق، لكن هذا الرهان العظيم جدير بأن نضطلع به.

الأمل ليس شيئا يعطى، ولا هو حتمية تاريخية أو طبيعية، بل هو الفسحة التي لا نكف عن توسيعها بالعمل والتعلم والكفاح كي تكون الحياة جديرة بأن تعاش. وهو فعل مقاومة مستمرة لليأس ووكلائه، الأرضيين منهم والسماويين. وليس للأمل نهاية، وليس هناك ما يمكن أن يسمى تحقق الآمال.

وبالعودة إلى الثورة، فإن ما تحقق في تونس ومصر، وفي ليبيا، وما نعمل على تحقيقه في سورية ليس حلا نهائيا لمشكلاتنا، بل هو جهد لإتاحة الفرصة أمام عدد أكبر من الناس لمقاومة اليأس والمشاركة في صناعة الأمل. لقد كنا محكومين باليأس، واليوم تحررت في مجتمعاتنا ديناميات اجتماعية وسياسية ونفسية مفتوحة الآفاق، يتوجب علينا أن نعزز انفتاحه، لأن هناك قوى انغلاق فاعلة في مجتمعاتنا.

الصراع مستمر، لا نهاية له، لكن الأمل الذي يصنع بالعمل المثابر والجهد المنظم والتضحيات الكبيرة من قبل الملايين جدير بأن يفوز في النهاية على اليأس وصناعه. هذا هو رهان الثورة النبيل.

من طلعنا عالحرية / جريدة لجان التنسيق المحلية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى