صفحات المستقبل

الثورة لا المجتمع/ روجيه عوطة

ثمة مقولة رائجة في خطاب العلاقة الإجتماعية مع الثورة السورية. إذ يكرر الكثيرون أنها تكفل حماية المجتمع، لكنهم، ما إن يحدقوا في الواقع حتى يقعوا على العكس من اعتقادهم. فالثورة لن تنقذ المجتمع، بل تنكأ كل دمامله، قبل أن تحطمه، أو تقلبه رأساً على عقب، أي تُفرغ قيحه. تتوجه إليه بوصفه جزءاً من الإستبداد، وخصوصاً أنه جسم السلطة، الذي تسعّره حيناً، وتهدئه أحياناً. فالنظام لا يعلن الحرب على المجتمع، بحسبما يُكتب هنا أو هناك، لأنه، بفعله هذا، يضرب رجاءه الخاص، ويقضي على حضوره الأصلب، أو بالأحرى على نفسه. النظام هو المجتمع، وإثر التماثل بينهما، تزيغ العيون في الثورة.

يصوّب النظام الأسدي عنفه نحو الثوار، الذين خرجوا من المجتمع وعليه. فنافل القول إنه، عندما يقصف ويقتل ويعتقل، يرغب في إعادة السوريين إلى المكان الإجتماعي، الذي بناه ومتّنه على طول عقود، قبل أن يحتجز السوريين فيه، ويقيّدهم بروابط قاسية، ينتجها كي تنتجه. المجتمع هو مكان سابق الحضور على الماكثين فيه، يحددهم، ويقسمهم، ويصنفهم، وبذلك، يسيّس تسجينهم، ويسجن سياستهم في الوقت عينه. لذا، هو ضد ثورتهم، التي، عند اندلاعها، تتواجه معه على نحوٍ نافٍ، فلا يمكن أن تستمر إذا ظل حاضراً، ولا سيما أنه مؤلف بعلاقات تقتصد في الإنتفاض، محولةً إياه إلى سلوك ولغة، سرعان ما يجري ترويضهما، حتى يصيرا هواء خفيفاً في رئات المجتمع.

في هذا المطاف، يكتب السوسيولوجي برونو لاتور، أن مفهوم “المجتمع”، الذي نشأ في القرن التاسع عشر، قد أطلق لكتم كل تأليف سياسي، لا يناسب كتلته المضغوطة، التي تشكل نقطة ارتكاز السيستام. على هذا الأساس، لا يمكن الجمع بين المكان النظامي، واللامكان الثوري، لأنهما يتعارضان ويتصارعان. فالثوار، الذين تمردوا على الأول، كي يحضروا في الثاني، لن يعودوا أدراجهم، كما لن يطيلوا المكوث، بل سيدخلون إلى الواقع من لامكانهم، أي من تلك المساحة، حيث “يولد الممكن، الممكن غير المحدد، الذي يتجدد، ويتغير من حدث إلى آخر”، بحسب حنة آرندت. فتلاميذ درعا “خرجوا على” المدرسة، أي المؤسسة البعثية، قبل أن “يخرجوا من” اللامكان، الذي خلقوه إبان خطّ العبارات الجدراية، وبعده. هنا، تطابقت لحظة ظهور اللامكان مع لحظة الكتابة على الحائط، بحيث أن الأطفال الدرعاويين سكنوا في اللحظتين، وغادروهما إلى لحظة ثالثة، اشتدت حتى أصبحت زمناً بلحظات مسهبة. أطفال درعا ليسوا في فعلهم الجداري تلاميذ مدرسة، بل لامكانيين، هزّوا النظام، والمجتمع، من نواحيهما كلها.

بات من المستحيل أن تبلغ الثورة السورية غايتها بدون شقلبة المجتمع “الوطني والمتوحد”. قد تكون هذه النظرة عنيفة أو قاسية، أو تُدرك على أنها دعوة إلى الخراب. غير أن الغاية منها هي البحث في فضاء الثورة، وفي الأمكنة التي تنتجها بالتشظي والتفرق، فلا تؤسس لسيستام، أو “مجتمع” مكبوس، تغيب السياسة عنه، لتحضر المعتقلات السياسية فيه.

أما الحديث عن “مجتمع ثوري”، فغير واقعي البتة، لأنه يصعب الربط بين المفهومين، إلا في حال الرص الفاشي. لذا، لا مناص من بدائل تذرر المجتمع خلال الثورة، من دون أن تحل مجتمعاً إيديولوجياً آخر محله، فـ”داعش” و”جبهة النصرة”، تعوقان شقلبة المجتمع من خلال إجباره على “ارتداء” ثيابه الإسلامية، التي كانت مخفية في زاوية من زواياه. لكن، وعلى رغم ذلك، اذا استمرت الثورة في تدمير المكان المجتمعي، فلن يبقى أركان غير مرئية داخله. ليس نتيجة ظهورها المرئي بالثياب أو السلوك المتطرفين، بل لأنها ستكون قد انتهت بالكامل. الثورة لا تحمي المجتمع، ذلك الجسم الحاضر قبلها، لأنها، إذا حرصت عليه، تبقى بلا سياسة، كما تفقد لامكانها.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى