صفحات العالم

الثورة مستمرّة…


دمشق ـ غازي دحمان

بعد أكثر من تسعين يوم على انطلاقتها، بات من الممكن القول إن الثورة السورية تجاوزت المرحلة الأصعب في مسارها، وأن الخطر الذي يهددها بات وراءها، وبدأت مرحلة جديدة إستحقت من خلالها الإنتقال من خانة وصفها بحركة إحتجاجية محدودة إلى حالة ثورية سلمية شاملة.

وليس المقصود من وراء هذا القول منح الثورة شحنات تفاؤلية، ولا هو يصدر عن ذات عاطفية، بقدر ما هو توصيف عاكس لواقع بات ملموساً على الأرض السورية، وله من الحيثيّات والشواهد ما يدعمه ويعززه.

كانت الثورة السورية قد واجهت منذ اللحظات الأولى لإنطلاقة شرارتها شكوكاً كبيرة حول مدى قدرتها على صياغة أهدافها والسير بها إلى نهاياتها الثورية الوطنية، كما واجهت أزمات بنيوية خطيرة تتعلق ببنيانها التكويني، ومدى تمثيلها لمكونات المجتمع السوري، هذا فضلاً عن تكوينها البنائي كحركة شعبية منظمة.

ولا شك ان عوامل الوقت والصمود لعبت دوراً مهماً في هذا الإطار، فقد إستطاعت حركة الثورة الإنتقال من كونها حركة إحتجاجية محلية وبمطالب ذات سقف محدود تمثل في بداية الأمر بإحداث إصلاحات معينة في مجالات ذات طابع محلي، إلى حراك وطني واسع يطالب بالتغيير الشامل إنطلاقاً من تغيير الصيغ التي تحكم المجال السياسي وتحدد العلاقة بين السلطة والمجتمع على أساس حزب يقود الدولة والمجتمع، تدعمه آلة أمنية كبيرة تتصدر هذه الواجهة وتصادر حق المجتمع بالمشاركة في صنع واقعه وتقرير مصيره وشكل مستقبله.

وكان للصمود الإسطوري الذي أبداه شباب الثورة وشعبها دور كبير في إيصال ثورتهم إلى مرحلة الأمان، بعد أن إستخدم النظام، وبشكل مكثف ومبالغ فيه، كل أسلحته في مواجهتها في محاولة دؤوبة ومحمومة لإطفاء جذوتها، سواء عبر ألة القمع الجبارة، أو من خلال محاولات تشويهها أخلاقياً والتشكيك بها عبر وسمها بالطائفية والإجرامية والسلفية.

وتتمثل مرحلة الأمان التي وصلت إليها الثورة من خلال قدرتها على إقناع النخبة السياسية والمثقفة، بالدرجة الأولى، بالإلتحاق بفعاليات الثورة ودعمها، والإستعداد لدفع ألأثمان المترتبة كإستحقاقات لا بد منها، ما يعني أن الثورة لم تعد تشكل في مدرك هذه النخب مجرد مغامرة خطرة، بل باتت حلماً آخذاً في التجسد على أرض الواقع. كما إنها تحولت إلى معطى مهم في المجال السياسي السوري، ستجعل الواقع السوري، أي تكن النتائج، واقعاً مختلفاً عما كان قبل الخامس عشر من آذار تاريخ إنطلاق الثورة.

وبالطبع، حين يجري الحديث عن النخب السياسية والثقافية السورية فإن الأمانة تتطلب التأكيد على أن هذه النخب ذات طابع ثوري مارسته سلوكاً وقولاً ولا يمكن المزاودة عليها.

يضاف إلى مؤشرات مرحلة أمان الثورة السورية، إتساعها وإنتشارها الواضح أفقياً وعامودياً، فقد إستطاعت كسب تعاطف جماهير واسعة في مختلف أنحاء البلاد. ويدلل على ذلك إتساع مد المظاهرات على كامل رقعة الجغرافيا السورية، وإنزياح مكونات جديدة إلى الثورة، كانت إكتفت في فترة معينة بمراقبة تطورات وقائع الثورة على الأرض. وتشير المعطيات المتعلقة بهذه الجزئية من حيثيات الثورة إلى ان أعداداً كبيرة من المواطنين أخذت ترفد الثورة بعد إنكسار حاجز التخويف من جهة، وقناعتها بأن الثورة هي المعطى الأكثر حقيقة وواقعية في مستقبل الأيام السورية القادمة.

ويشكل هذا المعطى أهم تحولات الثورة السورية، إذ لطالما راهن النظام في سورية على قدرته الجبارة على إخافة الشريحة الكبرى من المجتمع السوري ومنعها تالياً من الإنخراط في فعاليات الثورة، الأمر الذي يدفعها، بعد حين، إلى الإضمحلال والتلاشي.

وتكمن أهمية مؤشر إنخراط مكونات وفئات جديدة في فعاليات الثورة، في إمكانية إعطاء الثورة هوامش حراك ومناورة ضرورية وحيوية، تخرجها من وصف “ثورة الريف”، او “ثورة المساجد”، أو “ثورة الاحزمة العشوائية”، وهو الأمر الذي بقدر ما يعطيها القدرة على الإستمرار والتواصل، يمنحها أيضا القدرة على تحقيق التمثيل لأكبر فئات المجتمع ومكوناته، فهذه الإضافات الجديدة للثورة يمكن تشبيهها بالنطاقات التي تحمي القلب الثائر وتغذيه.

ولعل المؤشر الأهم في تجاوز الثورة للمرحلة الأصعب يتمثل في القدرة على بناء جسم الثورة وتشكيل قيادات (اللجان التنسيقية)، وهي القيادة التي أصبحت تنسق فعاليات الثورة، كما بدأت بوضع برنامج عمل متكامل، وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال دعواتها للتظاهر في أيام الإسبوع الكاملة، فضلاً عن أيام الجمع، ما يعني تحول الثورة إلى فعل دائم ( ديمومة الثورة) وهو شرط ضروري للثورات، كما أنه يبعد خطر حصول قطوعات فيها تؤدي إلى زوالها، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الثورة السورية تعد من التجارب النادرة في مجال الثورات، حيث إستطاع الحراك أن يفرز قادته من بين صفوفه ومن قواعده العاملة على الأرض، وليسوا أولئك القابعون في المكاتب، ولا محترفو التنظيرات. فالثورة السورية لا آباء روحيين لها، إنها إبنة الشارع الثائر على الطغيان والتهميش والحرمان، والطامح للعدالة والكرامة.

وتأتي أهمية هذه الواقعة، من حقيقة توحد جسم الثورة، الأمر الذي يمنحه الصلابة الكافية من أجل الإستمرار ويجعل من إمكانية إختراق الثورة أمراً مستحيلاً، كما يؤكد وحدة الرؤى والأهداف ويجنب الثورة الوقوع في التناقض القاتل.

ومن المؤشرات الهامة على نضوج الثورة وصيروتها واقعاً محاثاً ومعطى في الواقع السوري، دعوة النظام للحوار، صحيح أن النوايا من وراء هذه الدعوة غير واضحة ، لكن الأكيد أن النظام لايحاور عصابات إجرامية ولامندسين، بل من المفترض أنه سيحاور قوى سياسية فاعلة وناشطة ومؤثرة، وأكثر من ذلك قوى لها وزن على الأرض. ورغم ان المؤشرات في هذا المجال تتجه إلى حقيقة رغبة النظام في تمييع قضية الحوار (في حال حصولها) عبر إقامة الحوار مع وجاهات وزعامات محلية بهدف إفراغ المضامين السياسية للثورة وتحويلها إلى مجرد مطالب محلية، إلا إن دعوة الحوار بحد ذاتها تمثل إعترافاً من السلطة بواقعة الثورة،كما تشرعن، بذات القدر، فعالياتها ومطاليبها.

الثورة السورية تجاوزت مرحلة الخطر. بل أن هذه المرحلة أصبحت وراءها منذ زمن. فقد حققت الإنتشار، وصنعت الديمومة، وأفرزت قياداتها، وباتت تملك الهوامش الضرورية للمناورة والمساومة وتحقيق الإنجازات. هذا لاينفي بالتأكيد أن قدرات النظام في القمع لازالت كبيرة، كما ان إستراتيجياته القائمة على إغراق الثورة بالأزمات ومحاولات إجهاضها ستبقى قائمة، إلا أن الأكيد أيضاً أن الثورة التي صنعت نفسها وسط مناخات القمع والخوف ونجت من كافة الفخاخ التي نصبت لها، غيرت الواقع السوري، وهي في طريقها إلى إنجاز اهدافها في الحرية والكرامة.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى