صفحات مميزةعزيز تبسي

الثورة.. من شرفة بيت الأم في حلب/ عزيز تبسي *

 

 

تغيرت عناصر المشهد الذي كانوا يطلون عليه من الشرفة الواسعة الرابضة في أعالي الطابق الرابع في حي “الجميلية”.

معظم الحافلات الخضراء التابعة لشركة النقل الداخلي مركونة في الكراج الواسع، ولم يعد يخرج منها إلا القليل، يتحرك وفق خطوط مرور محددة في بعض أحياء المدينة، ولا يعبر أغلب أحيائها، تاركاً مهمة نقل الناس للسيارات العمومية، ولرافد جديد من السيارات الخصوصية التي اعتمدها أصحابها كوسيلة وحيدة متبقية لتأمين معيشة أسرهم. وأمست غرف الإدارة مكاناً آمناً لسكن العديد من عائلات موظفي الشركة، وعمالها وسائقيها النازحين من الأحياء الشرقية للمدينة. لا تغيب الثياب الملونة والمناشف عن الحبال القصيرة المشدودة بين طرفي نوافذها. وتطل من حين لآخر رؤوس أولاد من بين عناقيد الثوم وأكياس البصل المعلقة على زواياها، لتتمعن في الشارع والأبنية المحيطة، بينما تصعد أمهاتهم وأخواتهم الشابات إلى أعالي سطحها الواسع، ليفحصن رطوبة الغسيل المنشور على حبال طويلة متقاطعة، ويتفقدن الأطباق الممتلئة بعصائر رب البندورة والفليفلة الحمراء الموزعة على أطرافه، ويتأكدن من امتلاء خزانات المياه.

قطّعت الحواجز الإسمنتية هذه الجغرافيا إلى مربعات، يستحيل اجتيازها إلا بإذن، وبعد تفتيش للمركبة، وتدقيق بالبطاقات الشخصية. يتوزع على منعطفاتها وزواياها رجال وشبان بلباسهم العسكري المموّه، تتدلى البندقيات الآلية من سيور جلدية على ظهورهم، أو صدورهم.

تتبعثر في النهار الصفائح المعدنية التي تعمل كمدافئ متنقلة للحرس، ويتبقى آثار رماد حرائقها على الإسفلت والأرصفة. أغلق المقهى المتاخم للفسحة، وتوزع الباعة ببسطاتهم على رصيف زاويته. أغلقت كذلك العديد من العيادات الطبية والمكاتب الهندسية ومكاتب المحاماة، وغادر أصحابها إلى المدن الآمنة، أو آثروا الهجرة على الانتظار الطويل لتوضّح نتائج صراع خرج عن طريقه، وتعثر في أحابيل عجز عن تداركها. توزعت على الأرصفة العريضة ماكينات الديزل العملاقة والمتوسطة، التي تولد الكهرباء للمنازل ولمن بقي في عمله من المكاتب والعيادات. أغلقت أبواب وشبابيك شرفات البيوت التي يُطلّون عليها. جفت نباتات اللبلاب والعسلية التي كانت تطوقها كقلادات، ولم تعد ترى الانفجارات الخضراء من أعطاف نبتة المجنونة، وهي تتصاعد كجدار أخضر، ملاصق لجدار الحجر الأبيض المنحوت بمهارة أزاميل حنونة.

– لم يعد أحد يفتح بوابة شرفته؟

-لأنه لم يبق أحد في البيوت ليفتحها.

***

لمّا يزل يزورها مرة أو مرتين كل أسبوع، ويتفقد وحدتها باتصالات هاتفية يومية، وما يزال يوم الجمعة هو اليوم المناسب له، لكونه يوم عطلته الأسبوعية. يذهب بمفرده، أو يصطحب أولاده معه، ليتدفأوا بجدتهم. يحملون معهم أكياس الفاكهة أو حلويات منزلية.. وفق تقليد اجتماعي تثبت وترسخ كعادة “ألا يزوروا بأيد فارغة”. ما إن تسمع أصواتهم على درج العمارة حتى تهرع لفتح الباب، بعدما باتت تعرف موعد وصولهم، وتنتظره في وحدتها الموحشة. قالت، وهي تضع مفتاح البيت على الطاولة “لماذا لا تأخذ مفتاح البيت، وتنسخ واحدا ليبقى معك” لم يقل لها، بما يهجس به دوماً: أخشى أن أدخل البيت يوماً، لأراك ممددة على السرير، أو مرمية على البلاط بلا أنفاس، بأثر نوبة السكري. قال “أحب أن أقرع الباب وتفتحيه لي”.

قليل كلامهم، كثيرة غبطتهم، وكأنهم يفرحون بتفقد بعضهم في عالم بات الغياب واحد من سماته اليومية.. يقترح عليها، من وقت لآخر، المساعدة في ترتيب البيت أو مشاركتها في تنظيفه، أو ري النباتات الموزعة في الشرفة الواسعة. لم تقبل أي مساعدة، معتبرة ذلك من مهامها الثابتة، ولا ضرورة ليتدخل أحد بها. أخيراً، قبلت أن يروي النباتات المركونة بأحواضها الفخارية على أطراف الشرفة ومقدمتها. يسقيها برفق كما طلبتْ منه، حتى لا يجرّف تربتها الناعمة، ويعري أصول سيقانها. يغسل الشرفة بعد ذلك، يهيئ الطاولة الصغيرة وكرسيين، ليجلسا معاً، ويستكملا اللقاء بفنجان القهوة، وتأملات صامتة.

فكر طويلاً وهو يحدق في النباتات اليابسة على الشرفة المقابلة، أنهما على مقربة من قلب الدولة، جغرافيا تضم فرع الحزب الحاكم، مؤسسة الكهرباء، شركة النقل الداخلي، مديرية التربية، مشفى الرازي، مديرية المالية، مؤسسة الخطوط الحديدية، مؤسسة البريد والبرق والهاتف… وتساءل: ترى، كم تبقى على عافيته، بعد هذه السنوات التي اقتربت من إتمام الأربع، في هذا القلب العملاق الذي كان يضخ بعضاً من الحياة في شرايين المدينة وأهلها.

***

كانت الأصوات عالية. سمعها في مساء ذاك اليوم من أوائل صيف عام 2012، حينما كان في زيارتها، آتية من الجهة الغربية، قريبة من جامع أبو بكر الصديق. بعدها بقليل سحجت السيارات الإسفلت، وتعالى أزيز الرصاص. رأى الشبان يركضون هاربين من الهراوات الغليظة والسكاكين الصقيلة والسيوف المدببة، والعصي الكهربائية. تبعثرت على الأرض اللافتات الورقية التي كانوا يرفعونها، التي اقتطعوها من دفاترهم، واشتروا من مصروفهم لوائح الخشب التي علقوها عليها، وكتبوا ورسموا فوقها، كأنهم يتهيأون لعيد، أو للاحتفال وطني تتعالى في جنباته أهازيج البهجة والغناء المتصاعد صخب ترانيمه إلى السماوات. لكنهم لم يمهَلوا البتة لإتمام عباراتهم ولإبراز كتاباتهم، وللبوح بأشواقهم.. ركضوا في الشوارع المظلمة، مبقين خلفهم شبانا آخرين، قُيِّدوا على عجل بسلاسل فولاذية، واقتيدوا في سيارات مكتومة، إلى بدايات لا تعرف نهاياتها. لم يخرج المتظاهرون من الجامع، بل تجمعوا في الشارع المؤدي إليه، ربما حاولوا اللقاء مع المصلين الخارجين من صلاتهم، علهم يحتمون بعضهم ببعض، ويستخرجون كتلة صلبة من الهلام الآدمي، تقوى بلحمتها للسير بضعة أمتار إضافية، في الطريق الوعر نحو الحرية.

كانت هتافاتهم عالية كما هي أحلامهم، ظهرت بينهم شابات، صفقن الهواء الراكد بأصواتهن التي تصاعدت ببهاء أضاء الليل، وحرك نسائمه.

– ما هذا الذي يحصل في الشارع؟

-إنهم يطلبون الحرية، كما يطلب جسمكِ “الأنسولين”.

***

هما الآن على الشرفة ذاتها التي تكسَّر سقفها بشظية قذيفة هاون، وتهاوى زجاج نوافذها، فاستعاضوا عنه بشرائح من النايلون الشفاف، وثبتوه على أطرافها بمسامير ناعمة. غادر قسم من سكان العمارة بيوتهم إلى مدن آمنة، وحلت محلهم عائلات نازحة استأجرت بيوتهم، وقطن بعض البيوت أكثر من عائلة، ليتمكنوا من تسديد الإيجار. لم يعد يتوقف الضجيج في العمارة الرائقة، كأنها أمست حياً صغيراً. تضاعف عدد قاطنيها، ودبت الخلافات بينهم، تارة على حصص المياه القليلة، وأولوية تشغيل محركات سُحُبها إلى الخزانات المركونة على الأسطح، وتارة على نظافة المدرج، والصخب في أوائل الليل. تزايدت زياراته التفقدية لأمه. استعاض عن أدوية مرض السكري النادرة، وأسعارها المرتفعة، التي تفوق قدرته المالية، بحمية صارمة، يحرس الالتزام بها، ويتفحص نتائجها بشرائح زهيدة الثمن يشتريها من الصيدليات.

***

انقسمت المدينة بفعل عسكري، توخى تحريرها، وسقط في تابعية للقوى التي صاغته ومولته ودفعت إلى تبنيه. توضّعت أسس ارتباكه على ضعف الحركة الشعبية الثورية، وغياب البرنامج الإصلاحي عند السلطة، واستكمل بتكيّف متهاون لمعارضة قررت الاستعانة على السلطة القمعية بسلطات قمعية أخرى، فتخبطت مع مقارباتها، وتضاعفت أوهامها، وتجاهلت قدرتها الحقيقية. ما زال مجدياً الحديث عن الكيفيات التي تصاغ وفقها المهام التي تضعها الحركات الشعبية الثورية في عين أهدافها. أتأتي من قدراتها التي تشمل إعدادها، وتفوقها في تراكم الاختبارات الكفاحية، دقة تنظيمها، تحالفاتها، برنامجها، إمكانية تجاوز التشققات الطائفية والعشائرية والمناطقية بإنتاج خطاب وطني، استجلاء الحسابات الدقيقة لعلاقات القوة التي ستضعها جبرياً أمام قوة خصمها وقدراته الكامنة؟ ولا بد من توضيح بديلها الكلي عن الراهن الكلي، أي ما هو شكل دولتها، والكيفيات التي ستنتج بها سلطتها وتجددها، خياراتها الاقتصادية، موقفها من الحريات العامة والخاصة، رأيها البيّن من قضية المرأة وحقوقها، وجديدها في قانون الأحوال الشخصية ومعايير المواطنة… أي، ما هو جديدها الذي يميزها عن السلطة الراهنة، ويجعل منها بديلاً ثورياً، لا بديلاً يتوافق عليه الحلف الأطلسي والأنظمة الخليجية.

ترك أمه في البيت، بعد الاطمئنان الى نومها. نزل الدرج، موضحاً طريقه المعتم بضوء شحيح يبزغ من ولاعة السجائر.

* كاتب من سوريا

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى