صفحات الرأي

الثورة والكرامة بين الفلسفة والأخلاق والسياسة


سلام عبود

رفعت الثورتان التونسية والمصرية موضوع “الكرامة” على رأس شعاراتهما، ثم ظهرت الكلمة مجدداً في شعارات الثورتين اليمنية والليبية. لكننا لاحظنا اختفاءها التام في خطاب “اليسار الحكومي” العراقي، وتحوّلها الى استخدام مسيء للكرامة لدى فئات أخرى. لماذا تأخذ هذه المفردة تلك المعاني المتنافرة؟

لموقف اليسار ثلاثة أسباب: الأوّل ذاتي، يتعلق بالفهم الخاطئ للمفردة والاعتقاد بأنها جزء من مكوّنات التراث الاخلاقي، العربي خصوصاً، المرفوض استناداً الى مبدأ “لا عربي، لا إسلامي”، الذي شاع مع الاحتلال نظرياً، لصالح النموذج الطائفي العرقي تطبيقياً. ذلك واحد من مظاهر اغتراب هذا الفكر وطنياً. أما السبب الثاني فيعود الى سوء فهم تراث ماركس، الذي اعتبر تفسير العلاقات الاجتماعية انطلاقا من مفهوم الإنسان تصوراً مثالياً، وأحال الأمر على علاقات الإنتاج ذات الطبيعة المزدوجة (علاقة الأفراد بعضهم ببعض وبعلاقات التوزيع)، التي تحولت قالباً ستالينياً، يقتل كل ما هو ذاتي وإنساني. السبب الثالث يعود الى البيئة العراقية، التي تمارس ضغطاً عنفيّاً وحشيّاً، يُستخدَم فيه إهدار الكرامة وسيلة أساسية للاستحواذ السياسي. ربما لهذا السبب كان لا بد لهذه الكلمة أن تحتل المكانة الاولى في الخطاب التحريضي العراقي. بيد أن العكس هو الذي حدث. إن طول موضوع هدر الكرامة، وعمقه وابتذاله، وأجنبية مشروع التغيير وذرائعيته، جردت الواقع الاجتماعي من إحساسه بالكرامة.

يحتل مفهوم الكرامة منزلة عالية في ميتافيزيقا الأخلاق لدى إيمانويل كانت، الذي يرى أن لكل شيء في مملكة الغايات ثمناً أو قيمة. هذه القيمة تكون عاطفية عند التعبير عن السرور الناشئ من اللعب البريء أو استخدام الذكاء والخيال، أو سوقية عند استخدام المهارات والبراعة وميول الإنسان وحاجاته العامة. لكن الميول تسمو على الغايات العاطفية أو السوقية حينما تكون شيئاً بذاته، لا قيمة نسبية فحسب، أي ليس لها ثمن تُبادل به، بل لها قيمة داخلية، أي كرامة. لذلك، فالكرامة خاصية محصورة بالإنسانية والأخلاق، تقوم على مبدأ عملي هو: “افعل الفعل بحيث تعامل الانسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائماً وفي الوقت نفسه غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبداً كما لو كانت مجرد وسيلة” (تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص 109).

حينما يكون المبدأ الأخلاقي من مسلّمات الإرادة، غير صادر بفعل قانون الضرورة، أو بفعل الغرائز، بل استجابة للإرادة الحرة، يصبح تعبيراً عن واقع موضوعي وعنصراً مشرّعاً لمملكة الغايات. لقد أخفق كثيرون ممن لم يفرّقوا بين حدّي الضرورة والواجب عند تكوين المبدأ التشريعي. الدستور العراقي، على سبيل المثال، نتاج لضغط الضرورة، وليس نتاجاً للإرادة الحرة. لذلك فهو قانون مشتت، غير قابل للتطبيق، ومصدر جدي لإنتاج العنف الدائم.

حينما يفقد المواطن الإحساس بالكرامة (الكبرياء واحترام الذات) فإنه يقيم علاقة شاذّة بمن حوله، قائمة على عدم التكافؤ وانعدام المساواة في القيمة. لذلك يُرغم المواطن على إيجاد آليّات جديدة، ملائمة، لتنظيم علاقته بنفسه وبالسلطة والمجتمع، وبالتالي يقوم بإعادة تصنيع ذاته على أسس تتيح له فرصاً للتلاؤم والتأقلم والبقاء، لا تكون قائمة على الخوف والضعة وحدهما، بل على المداهنة والنفاق والاحتيال، أو العزلة السلبية، أو النقمة أيضاً. وهذه جميعها وسائل دفاعية تستخدم في مواجهة قانون سلب الكرامة. يعطي برتراند راسل في كتابه “الفرد والمجتمع” مثالاً من الثقافة الروسية، عن دوستويفسكي وباكونين، اللذين “تظاهرا  أنهما يريان في القيصر نيكولا رأياً حسناً”. إذا أردنا المضي أبعد مما ذكر راسل نقول إن الكرامة هي قيمة الإنسان، كغاية قائمة في ذاتها. وهي بافتراضها تعبيراً شخصياً عن الذات وعن سبل إحساس الأنا بنفسها في مواجهة الآخر، ليست قضية أخلاقية فحسب، بل قانونية وتشريعية، تتعلق بمبادئ الحقوق وسبل التعبير عنها. أي أنها صورة لطبيعة ارتباط الفردي بالاجتماعي، والذاتي (النفسي) بالخارجي اجتماعياً، وارتباطه بمنظومة الحقوق سياسيا. أي إنها لوحة شاملة لسبل تنظيم المبدأ الأخلاقي الذاتي للإنسان، ولكن في صيغته الموضوعية. لقد اعتاد البشر على تقسيم الوظائف، الحقوقية والاخلاقية والنفسية، من دون أن يعنوا بالربط بين عملية تحول الذاتي، عند التعميم، مبدأ موضوعياً، يشترك فيه البشر جميعاً. عند تشظية الذات يتم تحطيم الطبيعة العضوية للانسان، ويتم فصل غاياته عن غايات الجنس البشري. إن الإنسان كل موحد، كل مصاب يصيبه، في أي جزء من جسده أو كيانه النفسي أو العائلي، يعنيه شخصياً، ويحس به إحساساً مباشراً، من دون وسيط.

إن الإحساس بهدر الكرامة يتحول شعوراً عائلياً واجتماعياً لا تنساه الذاكرة. ولأن للكبرياء حدّين، الخير والشرير، يغدو التذكر (العبرة) هدفاً جوهرياً من أهداف الاستبداد، ومن تراكمات العداء له في الوقت عينه. يوضح كفاح الجواهري هذا التلازم الشعوري المتناقض وهو يدافع عن أبيه الشاعر محمد مهدي الجواهري:

“الجواهري غادر العراق في نفي اختياري مجبر عليه ثلاث مرات: الأول عام 1956، الثاني عام 1961 بعد أن فسح المجال للصحف الصفراء لمهاجمة الجواهري وشتمه، وبعد إهانته بالاعتداء المباشر عليه في الشارع يوم إضراب السواق، ومن ثم اعتقاله في مركز الشرطة الذي قصده لتسجيل دعوى على المعتدين عليه، بحجة إهانة السلطات والإفراج عنه بكفالة خمسين فلساً، وبعد محاولة إهانته معنوياً بإصدار وزارة المالية أمراً بحجز محتويات بيته المستأجر” (“الصباح” 6/10/2011).

لقد تفنن الحاكم العراقي في سبيل تنفيذ الإذلال وهدر الكرامة – تلقفها السياسيون العراقيون من البريطانيين- ولم تكن محاكمة الشاعر المتمرد حسين مردان عام 1950، بسبب ديوانه “قصائد عارية”، سوى ضرب من التخويف المغلّف بتحطيم الكبرياء وامتهان الذات.

يصف الصحافي كريم محمد حسين، وهو يتحدث عن شقيقه الشهيد القاص حاكم حسين، القسوة السلطوية العالية، حينما تمزج  الفقد والعقاب البربري الظالم بإهدار الكرامة. هنا، حتى الموتى يتم تدنيس كرامتهم، كنوع من الوشم السلطوي والامتياز: “أتذكر شاحنة الدواجن التي كانت تحمل في ثلاّجتها المعطلة عمداً ثمانية وثلاثين شهيداً، كان حاكم يتوسطهم معصوب العينين بخرقة سوداء زامّاً على شفتيه كأنها لحظة ألم  أو لحظة ندم على حياة صارت أرخص من قشة في عالم قذر بيومياته وزعمائه… أتذكر وصايا الحارس الغليظ الذي اشترط عليَّ حمل الجثمان وحدي ونقله الى مثواه من دون غطاء مشترطاً أن لا أقيم عزاء وأجبرني على أن أسدد حساب الرصاصات الست والذهاب بشقيقي خلسة وكأني أسرقه منهم!!” (“الصباح الجديد”، 5/2/2011).

على عكس الفرد، فإن الدولة ليست كياناً عضوياً، بل نحن من يسبغ عليها هذا الشعور. إنها أداة تنظيمية، لا تعبّر عن نفسها بنفسها، بل هي واجهة لمن يقودون دفّتها، ولمن تمنحهم تطميناتها الاقتصادية والثقافية والسياسية. إن علاقة هذه المؤسسة بالفرد، في ما يتعلق بموضوع الكرامة، ليست مسألة فنية أو إدارية خالصة، برغم أنها تبدو كذلك. إنها قضية فلسفية وأخلاقية وحقوقية، تعكس نظرة من يديرون السلطة الى قيمة الفرد والمجتمع انطلاقاً من مبدأ حيازة القوة وتوزيعها. لهذا السبب يغدو مستهجناً جعل الدولة فوق المجتمع، أو أنها كيان محايد، وفي أحوال كثيرة كيان عضوي يحس ويشعر، وربما يتألم. هذا تأليه جديد للدولة، يتماهى مع إرادة الحاكم على حساب المواطن. لقد أراد قادة أثينا إلحاق الأذى بسقراط، من طريق تخويفه بالموت الديموقراطي: منحه حرية اختيار الطريقة التي يرغب أن يموت بها، لما تنطوي عليه هذه الفكرة المهينة، من تحقير وتظاهر لئيم بالكرم الأخلاقي. لكن سقراط لم يمكّنهم من سلب كرامته، فحوّل انتحاره الإجباري – موته الحر باختيار السم وتجرعه – انتصاراً على جريمة تحطيم الكبرياء، وتلفيق تهمة إفساد الشباب، التبرير المنافق لفشل سياسة أثينا الحربية. هل هو انتحار أم إعدام، أم كلاهما؟ يكمن المغزى في معركة سلب الكرامة، أي التأديب والإرغام على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها. لقد رفض سقراط فكرة الهرب، وتناول السمّ بيد ثابتة. الجندي لا يقتل نفسه عقب معركة خاسرة، والفيلسوف لا يتخلى عن أفكاره، في معركة القوة أيضاً. هكذا حاجج سقراط قاتليه. حينما ترغم السلطة معارضيها، الفكريين والسياسيين، على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها، وإنما لمجرد أنهم مخالفون، يكون النيل من الكرامة البشرية هدف السلطة أو الفريق المنتصر. يحلو للحاكم المستبد التحدث عن الكبرياء، لكنه يعني بهذا أن الجميع منزوعو الكبرياء أمام شخصه. يسري هذا دولياً على علاقات المجتمعات المختلفة ببعضها (الاحتلال، التفوق العرقي والثقافي والديني)، لأن الكرامة شأن خاص وحصري بأصحاب السلطة والنفوذ في النظم القائمة على الاستبداد والتمايز الاجتماعي والثقافي. إن المواطن الذي لا يملك حقوقاً دستورية و”حصانات” مساوية للآخرين، والمواطن الذي لا يتمتع فعلياً بهذه الحقوق، حتى لو أنها وجدت وكتبت بحروف من ذهب في الدستور، هو إنسان مسحوق الكرامة.

هذا الموضوع أحد المسببات الرئيسية للثورات العربية. فحتى الصيغ الرمزية لهذه الثورات ترتبط بموضوع السلطة والكرامة. إهانة شاب كادح من قبل شرطيّة ودفعه الى الموت تعبير عيانيّ واضح عن العلاقة التي تربط ضياع كرامة المواطن باستكبار الحكم. حادثة الهجوم على المتظاهرين في ساحة التحرير، من قبل أصحاب الجمال أو من بلطجية النظام المصري، تعبير رمزيّ آخر عن احتكار الكرامة، وسبل مواجهة ثورة الكرامة من قبل مستلبيها. تهريب أموال الشعب المحروم الى الخارج، إهدار للكرامة وتطبيق لنظرية “جوّع كلبك يتبعك”. وشم الهاربين من التجنيد إبان حروب السلطة الديكتاتورية في العراق، وقص شعور الشبان وإتلاف ملابس الفتيات وتلوين سيقانهن في زمن عماش وطلفاح – خال صدام ومحافظ بغداد- انتهاك سوقيّ للكرامة، وتحقير للمواطن ووصمه بالعار، باسم المجتمع. إن طول هدر الكرامة وانغلاق البنية المجتمعية في النظم الاستبدادية، وعدم وجود منافذ للحل السياسي والاجتماعي وما يرافقها من مخارج نفسية وسلوكية، تدفع كثيرين الى التضحية بكرامتهم طوعاً. بمرور الأيام يغدو فقدان الكرامة سلوكاً معتاداً، لا يشعر به المرء، ولا يرى فيه عيباً. إن قصائد تمجيد حرب ندرك بطلانها وبشاعتها ضرب من فقدان الكرامة بالمعنيين السياسي والأخلاقي. مداهنة الطغيان والنفاق ممارسات خالية من الكرامة، تهدف الى الاحتيال السلبي على جور الواقع وضعف الإرادة. كل ذلك يقود الى تعاظم فقدان الثقة، والإحساس بالدونية في مواجهة السلطة والحاكم وجهاز الدولة. وقد تتطور آليات فقدان الكرامة الى سبل جديدة محوّلة، لا ترتبط ارتباطاً مباشراً برأس السلطة، وهذا ما نجده في شيوع عادة الكرم التلفزيوني، المصحوب بالإشهار، تحت ضغط الحاجة، وارغام المعوزين على مدح المانحين، سواء أكانوا محطة فضائية أم محسنا فردا أم جماعة. تفشّى هذا السلوك في العراق بفعل تشظي مركزية الطغيان، الذي قاد الى نشوء مراكز امتهان جديدة مصغرة، أو رمزية. يخفي هذا السلوك المتناقض شعوراً انتفامياً أو تلذذاً تخديرياً، يهدف الى محو هدر سابق للكرامة تعرّض له المحسن. وهذا شكل مموّه  من أشكال سلب كرامة البشر، يفقد فيه الكرم صفته كغاية بذاتها. إن تأسيس علاقة بين الحاكم والمواطن قائمة على تدمير الكرامة، يمزّق مشاعر المواطنة، ويوقف عجلة الحوار الاجتماعي، ويعطي الحاكم صلاحية احتكار الفعل، وبالتالي يجعله قوة مفكّرة وفاعلة وحيدة، تصادر الحقيقة. وهذا تعطيل تام لإرادة المجتمع وقواه المحرّكة. تعاني المجتمعات العربية، داخليا وخارجيا، من فقدان جوهري للكرامة والكبرياء، بالتوازي التام مع فقدان الحريات والحقوق المدنية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى