صفحات سورية

الثورة والمعارضة.. وجهان مختلفان!


حبيب عيسى

أعترف ابتداء أن القلق يستبد بي إلى درجة الاضطراب، وقد كنت طيلة العقود التي استهلكت ما مضى من عمري، أواجه مثل تلك الحالة بالصمت إلى أن أستعيد السكينة، ذلك أن الحديث يصدر عن ذات مضطربة لا بد أن يناله شيء من الاضطراب، كما أن الصمت عندما ترتفع أصوات الضجيج أجدى من كلمات لا يستمع إليها أحد، لكنني وجدت نفسي، وقد تمرّدت على تلك القاعدة مرة أخرى، تيمناً بثورة الشباب العربي وتمردهم هذه الأيام، واعترافاً بأن الصمت لم يعد خياراً، فالعمر يمضي إلى خواتيمه، وبالتالي لم يعد أمامك أيها العجوز إلا أن تقول كلمتك، وتمضي. هكذا، وبهذه الكلمات بالذات كنت قد قطعت الصمت منذ بضعة أشهر، لكن الإحباط كان قد أعادني إليه. الآن أحاول التمرّد على الصمت مرة أخرى، فقد كنت قد بررت صمتي في الماضي أن: «لا صوت يعلو على صوت الثوار». وبعد أن فشلت في إنتاج صوت يواكب مسيرتهم، علت أصوات مؤخراً كان المؤمل أن تكون صدى لأرواح شهداء الثورة، لكنها تحولت إلى ضجيج يقلق الشهداء والأحياء من الثوار على حد سواء، فارتفعت أصوات الثوار ولافتاتهم: ليس باسمنا أيها السادة!

ولعل مصدر القلق الذي ينبع من مصادر فرعية ثلاثة، مترابطة موضوعياً، على ما بينها من تباين ظاهري، ومصادر القلق تلك، هي:

أولاً: مصدر قلق مقبل من خارج الوطن العربي.

ثانياً: مصدر قلق آخر نابع من نظم الاستبداد، وعقابيلها التخريبية.

ثالثاً: مصدر قلق ثالث نابع من المعارضة التقليدية التي تبعثرت قواها بفعل القمع الممنهج من قبل أجهزة تسلط الاستبداد المديد، وحولها إلى أشلاء من شلل مشخصنة وأفراد لأمر مرجعيات لهم، ففشلت جميعاً، أفراداً وجماعات، في تشكيل مؤسسة اعتبارية تكون الحامل للمشروع السياسي للثوار. بل ان بعض تصرفات المعارضين التقليديين وتصريحاتهم تحوّلت إلى عبء على الثوار، ومصدر للضبابية وتضارب المواقف، فتحولت تلك المعارضات إلى جزء من المشكلة…

جاء الحراك الثوري مفاجئاً لقوى الهيمنة الخارجية ولسلطات الاستبداد الداخلي في الوقت ذاته، لكن تلك القوى حاولت وتحاول الالتفاف على الثورة ومحاصرتها من خلال بدائل ومؤسسات متمرسة في التآمر، والقمع، وتبديل التحالفات، لكن المشكلة الأساسية تمركزت في المعارضات التي فاجأها الحراك الثوري، فضاعف من مشكلاتها المزمنة لأنه جاء من خارجها، ومن حيث لا تتوقع. هذا الفعل الثوري الذي كان من المفترض أن يكون اختصاصها، إذ هي معنية بتحقيقه والفعل فيه، وهي التي دفع كوادرها عقوداً من أعمارهم في السجون والمنافي لتحقيقه، فكيف ينطلق هذا الحراك من حيث لا تدري، وما هو دورها فيه، وموقفها منه؟ هنا كان مصدر الإرباك الأول الذي أصاب المعارضة، أما مصدر الإرباك الثاني فجاء من الاستلاب الذي تعرّضت له قوى المعارضة نتيجة إقصائها عن الفعل وتهميش دورها لعقود مديدة، وبالتالي فقد ترسّخ لديها شعور راسخ بأن كل فعل يحدث في الواقع هو بقرار من الخارج، أو بقرار من أجهزة الاستبداد الداخلي، وبالتالي عليها أن تنتظر يأتي الحل، إما من قوى الهيمنة الخارجية، وإما من أجهزة الاستبداد الداخلي. وبما أن الثوار يواجّهون في حقيقة الأمر هذين المصدرين معاً، وأن الحل عندهم وطني في الأساس، فموقفهم من الخارج ومن سلطات الاستبداد هو الذي يرسم حدود علاقاتهم بها، وليس موقف الخارج او نظم الاستبداد هما اللذان يمليان على الثوار مواقفهم، لذلك فقد انقسمت المعارضة التقليدية في الغالب بين من يبحث عن الحل يأتي من الخارج، وبين مَن يبحث عن الحل حواراً مع أجهزة الاستبداد، بينما حركة الثوار في اتجاه آخر، وتحوّل هذا كله إلى أسباب إضافية لتبادل الاتهامات بين أطياف المعارضات التقليدية، وفشلت كافة الجهود لتوحيدها.

إننا نقدّر تقديراً عالياً التضحيات والمواقف الصلبة التي وقفتها المعارضة طيلة العقود المنصرمة، وما كان لهذه الثورة أن تنطلق من فراغ، فتراكم التضحيات التي قدّمها المناضلون هي التي أنتجت هذه الثورة النبيلة، ولو كان ذلك غير ظاهر للعيان. أما كون هذه الثورة انطلقت من خارج الأطر التقليدية فهذا لا يعيب الثورة والثوار، ولا يعيب المعارضات المقموعة. أما وقد انطلقت الثورة، فهذا يوجب على أطر المعارضات التقليدية أن ترمّم مؤسساتها التي دمّرها القمع، وأن تعيد تأهيلها، لاستنباط نبض الثورة بالتلاحم معها، وأن ترتفع في الأداء لتقارب أداء الثوار وتخضع لمعايير الثورة لا أن تحاول إخضاع الثورة لمعاييرها التي همّشت دورها فجاءت الثورة من خارجها.

نحن إذن ننطلق من قيم الثورة، ونحاول الكتابة على هوامش دفاترها. أما متن النص فيكتبه الثوار بدمائهم الزكية.

ان الثوار الذين ينثرون أزاهير هذا الربيع العربي مجبولة بدمائهم بين المحيط والخليج يمتلكون من الوعي ما لا يمكن لأحد، كائناً من كان، أن يعبث بثورتهم، أو أن يحاول تغيير مسارها، وبالتالي على المعارضات ان ترمّم أوضاعها وترتقي بالأداء لتكون الحامل السياسي لمشروع الثورة والثوار، فالواقع الموضوعي الذي يصنعه الثوار سيفرز القوى بناء على مواقفها مما هو كائن الآن، وليس بناء على مواقفها التي كانت في الماضي، وهذا سيؤدي إلى عملية فرز حقيقية جديدة داخل تلك القوى ذاتها، وبناء عليه سنشهد انزياح كوادر هنا، وانشقاقاً هناك، فللثورة نواميسها، وخلقها الذي يتناسب مع فعلها الثوري… والثورة ماضية لتحقيق أهدافها، لا مكان للشطط، ولا مكان للمتخاذلين، والتاريخ لا يرحم من يتخلف عن فهم نواميسه…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى