صفحات العالم

الجريمة الحقيقية


حسام عيتاني

يغفل الشامتون بانقسام المعارضة السورية، والمهزلة التي ارتكبها بعض المحسوبين عليها أمام مقر جامعة الدول العربية، أن 16 مدنياً سورياً قتلوا برصاص «الأمن» في اليوم ذاته، وأن عدداً مشابهاً من الضحايا سقط في اليوم التالي للحادث.

نعم، لم يكن منظراً مشرّفاً ذلك الذي ظهر فيه شبان سوريون يتعرضون بالضرب والإهانة لوفد «هيئة التنسيق» أمام مقر الجامعة. ويمكن بسهولة الحديث عن آثار التربية البعثية الإقصائية على المهاجمين الذين لم يعتادوا، على الأرجح، الحوار الديموقراطي وتعدد الآراء والخلاف في المواقف من دون أن يفسد كل ذلك في الود قضية.

والأرجح أن المجتمع السوري سيدفع في الأعوام المقبلة ثمن ما زرعه فيه الحكم الشمولي من خصال لا يمت أي منها بصلة إلى الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجهات نظره، من دون أن يتلقى صفعة أو بيضة على وجهه. والأرجح، أيضاً، أن «بعثنة» المجتمع السوري، على غرار نظيرتها في العراق، ستتخذ أشكالاً تبقى بعد سقوط النظام، على رغم أن صدور التغيير في سورية من الداخل يسمح بآمال، ولو متواضعة، في سرعة شفاء السوريين من أمراض الحكم الحالي.

المهم في المسألة أن ما جرى في القاهرة ليس سوى عارض جانبي لما يجري في سورية. والخلافات بين قوى المعارضة، حتى لو لم يستحق قسم منها هذا الاسم، ليست جوهر الموضوع وصلبه. فالجريمة الحقيقية لم تقع خارج مقر الجامعة، أول من أمس، بل تقع كل يوم ومنذ أكثر من ثمانية أشهر في شوارع البلدات والمدن السورية وفي أقبية تعذيب فروع الأمن والسجون المكتظة بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي.

والمهم في المسألة أن النظام السوري لم يكلف نفسه عناء البحث في تطبيق أي من الخطوات الإصلاحية التي أعلنها (والتي فات وقتها، في جميع الأحوال) مكتفياً بتسريح زبانيته في الشوارع يطلقون النار على المواطنين في مشاهد لم يُرَ مثلها منذ مجازر رواندا.

والجريمة الحقيقية تقع في انتشار مناخ شائن من التواطؤ بين الدول والحكومات العربية على التسامح مع انقضاض النظام السوري على المجتمع، والإمعان في انتهاك قيمه وتمزيق نسيجه وتعريضه لاختبار قاس لقدرته على تحمل الممارسات الطائفية المقصود منها دفع البلاد إلى حرب أهلية مفتوحة.

والجريمة الحقيقية تكمن في تمدد الممارسات التي تمارسها السلطات السورية إلى لبنان الذي قررت حكومته الوقوف إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد ضاربة عرض الحائط بالتزاماتها الدولية بحقوق اللاجئين الذين يتعرضون للإذلال من قبل الأجهزة اللبنانية التي تقوم بتسليم بعضهم إلى «زملائها» السوريين.

والجريمة الحقيقية ترتكبها قوى لبنانية لا تتورع عن إذكاء الرعب الطائفي أو التلويح بتفجير الموقف في لبنان كرماً للحكم السوري، في مقامرة قد تودي بما تبقى من مقومات لتماسك المجتمع اللبناني. فالشحن المذهبي والطائفي الذي تصر عليه قوى عدة (ليست حكراً على لون سياسي أو طائفي واحد) لن يمر من دون أن يترك أثره على اللبنانيين الذين يعرفون ما يقصده «الزعماء» من لعب على أوتار الحساسيات الطائفية، حتى لو تفننوا في تنميق الكلمات.

على أن ذلك كله ليس إلا الشكل الظاهر لسؤال واحد كبير: هل يستحق السوريون واللبنانيون وغيرهم من أهالي هذه الأنحاء، أن يعاملوا كبشر يدركون حقوقهم السياسية، أم إن تشكيل القطيع هو الأنسب لهم في مسيرة التصدي للمشاريع الإمبريالية والصهيونية؟

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى