صفحات الثقافة

الجريمة ومُكر الذئاب


محمد كتيلة

لم ندخل المشهد بعد كما هو في الواقع الدموي، ولا كما يجري بين جثث الضحايا وتحت وابل الرصاص و الأنقاض…كل ما هو قائم على أرض الفجيعة وانكماش الروح إزاء هذا الرخص المقيت، في قتل الأبرياء وبهذه الهمجية الخرقاء الوقحة، يبعث على الآسى والضجر، في عيون الموتى المغدورين وفي قلوب الأحياء الراجفة، عدا عن  شقاء الريح في مواجهة أرذل طغيان…كما أنه يصعب علينا أن نرى بكاء السماء على الشهداء الذين يتوافدون على أبوابها بعد أن صُبغت أجسادهم بالهراروات والدم وبعد أن استوطن في عروقهم وعظامهم الغدر والقهر، دون أن نطلب منهم المغفرة والسماح لنا بملامسة  الظلال التي تتركها أقدامهم على القرى المغلوبة والمدن المنكوبة، والتي لم تولدهم في الأصل، ولم ينبتوا عليها إلا ليكونوا أحراراً كخيوط الشمس، وأنقياء كزهر اللوز وشامخين أبداً كشموخ قاسيون .

منا من تخاذل ومنذ بدء البدء في درعا الضجر والغليان، فأصابه البطش وبكافة أشاكاله الرهيبة، في حالة مغص ويأس وإعياء شديد في الأعصاب ،وأعطاب لا تحصى في الروح والقلب… ومنا من اغرورقت عيناه وشرايينه بالأمل والدمع، والبعض راح يبكي في خلوته ويهذي، من لسعات الخوف البعيدة والذعر والترويع والهلع، وفي ظنه أنه يرقص ويضحك لإقتراب ساعة الفرج وفرجة الخلاص .

ومنا من جُنَّ غيظاً وضعفاً، فحنَّ لماضي الإستبداد في ذروته التي لم يكن يراها من شدة الهوان والإنحطاط… ومنا من يتمنى الإقتراب بخشوع من جموع الأهل وصمودهم الأسطوري، ليكون بين ليلة وضحاياها داخل المشهد، وأقرب لدمهم ومتاريس أجسادهم الواقفة بكبرياء في صد الحديد والنار، فالعبودية ومهم  طال أمدها لا بد ستصيب هذا النوع من البشر بالملل والشلل والشعور المُذل بالمهانة، وخاصة الأنقياء منهم، الذين يأنفون البلادة والكسل والإرتهان للغيب، لا مكان فيه للعمل وتقديم العون والتضحيات، بكافة الأشكال الممكنة وأقلها : رفع الغطاء عن الصمت القاتل، والتحرك في الباقي من وقت الضحية، فإما أن يتركها في وسط الطريق للفرجة والشفقة والنسيان، وإما أن ينتشلها في عينيه ويبدأ في الصراخ والإحتجاج على الجريمة ومُكر الذئاب.. فالصمت إن لم يقتل صاحبه يذله مع الوقت، ويساعد الطاغية وحاشية القصر والماشية من قطعان الذبيحة على الإستمرار في القتل والذبح والتنكيل في وضح النهار ويعفيهم من الحساب والعقاب.

لم يحدث أن أعيانا القهر واستبد بنا الغضب، كما هو الآن، في هذه الساعات الزائدة من عمر المأساة وأهوالها… تنهض بنا ذكريات  المرارة والألم، مع كل ضحية تسقط على الأرض، لنجد أنفسنا التي عانت من رطوبة السجون ووحشية السجان، في داخل المعتقلات، ووراء قضبان الحديد وأبواب الزنزانات المصفحة، مع كل المعتقلين من منتفضات ومنتفضين، وإلى جانب كل ثائر حر أعتقل عنوة من الشارع أو الرصيف، من البيت أو الجامعة،  من خبزه ويومه، من عمله ونومه، من أمه وأبيه، من أطفاله وزوجته، ومن بين الجموع الغاضبة التي تملأ الساحات والميادين، بسبب توقهم  للحرية ونشدان الكرامة.. ندخل معه خلسة وتضامناً، ننزل معهم أدراج الأقبية ، تزاحمنا خبرة الموت البطئ والعذاب الوحشي المرير …نداوم معهم اللحظات الأولى المرعبة وتواليها، بعد تقييد اليدين وتكميم الوجه والعينين، وتجريد القلب من مفاتيح الطريق والبيت والأهل…يقتادونك بوحشية لا طاقة لك عليها إلى ما لا تعرف، ومن مجهول إلى مجول آخر، حيث المصير الأعمى وأنت مدمي ومجروح بما فيه الكفاية ومعذب حتى النهاية… ولأنك في نهاية المطاف والدهاليز المعتمة لن تعرف من أنت ومن تكون، ستحاصرك الكلاب الآدمية التي تحيط بجسدك وروحك وتسورك بالعصي والكلاليب من كل جانب وزاوية، وتبدأ في تشمم رائحة الحياة العالقة على ثيابك وأنفاسك المتلاحقة، فتروح تنبح وتعوي بما لا تفهم من مفردات البذاءة والسوء، بالإضافة لإستماعك المدوخ لصراخ من هم مثلك، يخرج من شقوق الجدران النازفة بدم أهلك، ومن العتمة الرهيبة، يختلط مع دبيب النفس المتصاعد من كل خلية في الجسد المرهق الممزق، ومن أماكن مجهولة في روحك المتجمدة… يأسرك الخوف من لكمة طائشة تحط على وجهك وجسدك المكدود، ومن كلام بذئ يدلف إلى الأعصاب كالإبر ويجرح كل ما فيك من فتوة وقوة ساخطة، فلا تعود قادراً أن تفصل فيما بينك عما كنته قبل قليل من هذا الموت المدبر، وتنسى أن لك إسم وعائلة ، لكنك تتذكر الآن، وسط هذا الجحيم  أنك لست وحيداً ومجرد تذكار للقهر والسأم والألم بسبب ما ينهال عليك من عصي وأحذية وأناشيط وجنازير وروائح كريهة تنبعث كالسموم من أفواه  قذرة وألسنة ضباط أمن يتقنون إنتهاك الوطن وتجريده من الهوية والمواطنين كواجب مقدس، وماعليك إلا أن تصبر وأن لا تهوي فتهوي عليك لعنات السماء المعلقة على سلالم الكهرباء، رغم أن طاقتك في تراجع مستمر، ومؤشر ضربات القلب يجنح تلقائياً إلى الصفر… فماذا تفعل وأنت ملقى ومرمي كالنفايات في زاوية مغمضة، لا يدري عنها أحد ولا يفكر فيها من هو عبد، وما الذي تقدر عليه وأنت تتلقى ما هو أصعب من النسيان، ولا يمكن المساومة عليه بعد إخلاء السبيل،وما نفع السبيل إن أوصلك إلى المقبرة ولم يفض إلى الحرية؟؟

كل ما عليك أن تدركه، أنك لست وحدك، وحريتك غدت ملك يديك بعد أن إنترعتها إنتزاعاً بصبرك وموتك وقهرك، وما هم الآن إلا سجناء عندك، وأنت وغيرك ممن هم مثلك بالملايين وأكثر وأكثر، من أفقدهم صوابهم وأوصلهم إلى هذا الفحش والطيش والجنون، ومن غيرك تذوق معنى وطعم الحرية قبل أن يحين موعد القطاف ؟؟

وحشيتهم وقذارتهم تشعرك دائماً وأبداً بأنك الأقوى وهم الأضعف مما كنت تظن، وكلما إزدادوا قسوة وانحطاطاً وبطشاً وقذارة ،عليك أن ترضى ومن أية نهاية مكرهاً، بعد أن بلغ بك القرف والإشمئزاز إلى درجة عظمى تتمنى فيها الموت حراً لتنتصر عليهم – ولقد انتصرت منذ نزلت إلى الشوارع – وتتركهم وحيدين يائسين  مع خيباتهم المتتالية، متأكداً من إقترابهم ووصولهم إلى أدنى درجات الإنحطاط والهزيمة،

كاتب فلسطيني يقيم في كندا

mkteileh@yahoo.ca

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى