صفحات الثقافة

الجزء الثاني من أحاديث مشتركة خورخي لويس بورخيص وإرنستـو ساباتـو أدار الجلسات وكتب المقدّمات: أورلاندو بارون

 

 

لم يكونا صديقين يوماً، ولم يدّعيا ذلك لم يكونا صديقين يوماً، ولم يدّعيا ذلك ولكن قبلا التحاور معاً..

على امتداد لحظة بكاملها، ظلا معاً يستحضران بحمية وحماس، بعض المشاهد الحية التي يتضمنها ذلك المؤلف الأدبي الفريد من نوعه. وأظن ـ وقد قلت ذلك بصوت مرتفع ومباغت! ـ بأنه من المؤسف، أن يُفرض هذا المؤلف علينا فرضاً في المدرسة الإعدادية، ونحن عاجزون تماماً عن تذوقه في ذلك الحين، وعن تقديره بالشكل اللازم.على امتداد لحظة بكاملها، ظلا معاً يستحضران بحمية وحماس، بعض المشاهد الحية التي يتضمنها ذلك المؤلف الأدبي الفريد من نوعه. وأظن ـ وقد قلت ذلك بصوت مرتفع ومباغت! ـ بأنه من المؤسف، أن يُفرض هذا المؤلف علينا فرضاً في المدرسة الإعدادية، ونحن عاجزون تماماً عن تذوقه في ذلك الحين، وعن تقديره بالشكل اللازم.اعترف بورخيص بأن ذلك خطأ شبيه بما يقترف في إيطاليا، حيث تدرّس الكوميديا الإلهية لتلاميذ الصفّ الإعدادي. أما ساباتو فأوضح بأنه ينبغي تدريس الأدب بشكل كرونولوجي معكوس، بحيث يتم البدء بتدريس الأدباء المعاصرين، الذين هم أقرب إلى لغة الشباب وقضاياهم الراهنة، للانتهاء بعد ذلك بتدريس الأدب الكلاسيكي.لكن الحديث سرعان ما اتخذ منحى الأشواق البحتة، ليصاب صاحباي معا بموجة صمت محتدمة في النهاية، شُبّه لي أثناءها بأنّي سمعت بورخيص يستظهر في همس، بعض التأملات التي كان يرددها البئيس كيشوط سيء الحظ… حينها، قال له ساباتو:

ساباتو: أنا ربما عاطفي بكيفية مفرطة؛ لكن، صارحني: أما أذرفت أنتَ الدمع يوماً، حين قرأت هذا الكتاب؟

بورخيص (وكأنه يركز على نقطة ما، تقع في مكان بعيد جدّاً عنّا): بلى، خاصة في المقطع الذي يعود فيه دون كيشوط رفقة سانشو إلى القرية. إنه مقطع حزين. ذات يوم، ألقيت محاضرة في المكتبة الوطنية، وهي بمثابة تعليق على هذا الفصل الأخير من الكتاب. كان ابن أخي لويز Luis يقرأ منه فقرة، فأقوم أنا بالتعليق على تلك الفقرة، ثمّ نمرّ إلى أخرى وأخرى، وهكذا دواليك. وكانت ثمة واحدة، يقول فيها الكاتب ما يلي: “ووسط عاصفة من الدمع والشكوى، التي أطلقها من كان يحيط به، أسلم ألونسو كيخانو الروح؛ أعني أنه مات”. وهي تلك الفقرة الختامية، التي سرعان ما ملأت صدري بالأسى والحزن. (بقي بورخيص للحظة، يردد هذه العبارة “أعني أنه مات”، وكأنّ دلالتها الحزينة بقيت تغمره إلى الآن!)… لطالما ردّدت في نفسي، لمّا كنت شابّاً، بأنه كان يتعين على سيرفانتيس أن يعمد، في وصف الظروف المحيطة بموت شخصيته الرئيسيّة، إلى جمل طويلة جدّاً من شأنها أن تسعفه في كتابة فقرة كاملة. لكن، لا، لم يكن في حاجة إلى كلّ ذلك. فصديقه قد مات، ولم يجد أعمق ولا أبعد غوراً في رسم مشاعر حزنه، من هذه العبارة المختزلة: “أعني أنه مات”.

ساباتو: هذا هو ما يمكن نعته “بالكتابة الجيّدة”.

بورخيص: أنا متأكّد من أنّ سيرفانتيس لم ينتبه قطّ، إلى أنه كان يكتب بكيفية جيّدة. لكنّ هذا غير مهم، لأننا نلمس في ثنايا هذه الجملة، بصمة مشبعة بعواطفه. وعلى العكس من ذلك، نجد في هذه العبارة التي يتلفظ بها هاملت: “والبقية صمت”، ما يطبع دخيلة سكشبير من لامبالاة خاصة.

بارون: هذا ما لا ينسى أبداً، شأنه شأن الكيشوط، تحديداً. فما هي بقية المؤلّفات الأخرى، أو الكُتاب الآخرين الذين تركوا بصمتهم عليك، يا بورخيص؟

بورخيص: ثمّة ستيفنسن، وكونراد، وفلوبير… وسيرفانتيس كذلك، لأني نازعت نفسي في شأن الرأي الضالّ، الذي كونته حوله، فاستمر الرجل يسري في عروقي، مثلما سيصمد تولتسوي  بعد ترجماته.

بارون: وأنت، يا ساباتو؟

ساباتو: حين يكون اهتمام المرء قد توزّع على حقل الأدب الشاسع، يصعب عليه كثيراً أن يحسم في اختيار الأسماء والعناوين، التي مارست تأثيرها عليه. وإلى جانب هذا، هناك دائماً كُتّاب قد نغفل بلا شك عن ذكر أسمائهم بشكل لاواع، بينما قد يعدّون ربّما من أهمّ من طبع مسارنا الأدبي. ثمّ إن جملة واحدة، جملة صغيرة واحدة، لبإمكانها أن تؤثر علينا، من حيث ندري ولا ندري.

بورخيص: لأنّ الفنّ معركة شرسة. أنا ما زلت أذكر أنني كنت أمرّ ذات ليلة بشارع كانينغ، برفقة ماستروناردي Mastronardi، حيث عرّجنا سوية على محل تجاري. وهناك، وجدنا عازفاً على قيثارة يرتجل لحناً، ردّد فيه هذه الأبيات التي بقيت عالقة بذهني، بكيفة لا تنسى:     اجلس بهيبة ووقار     على أريكة الفخامة     فكلما استوت حضرتكم عليها،     إلا وحلّت فيكم كينونة إنسانية أخرىسُمِعَ ضحك، ومديح يثني على شاعر المحل التجاري، بعد إنشاد هذه الأبيات الأربعة بإتقان.

 

ساباتو: أما تزال تذكر تلك القصيدة التي أعدتما نشرها، أنت وبيوي، في مجلة ديستييمبو Destiempo؟ كانت شيئاً مما كتبته إحدى النساء، بمناسبة انتقالها إلى محلّ سكنى آخر؟

بورخيص: أجل، بالطبع. (ثمّ شرع ينشد، بشكل احتفالي):     وبعد ذلك، اضطررنا للانتقال،     لأسباب مالية صرف     وبقي البيت الذي كان      في ملكية أبوي، مهجورا…

ضحك ساباتو من أعماقه، فكرّر بورخيص إنشاد الأبيات، ليجعل صاحبه يستمتع بها، مرّة أخرى. وعلى حين غرّة، نطق أحدهما دون إلحاح، بكلمة “تانغو”. لكن التانغو حتى ولو لم يُطرَق، فقد بقي هناك، لأنه موضوع لا محيد عنه، سواء بالنسبة لهذا أو ذاك.

بورخيص: أنا أكتب قصائد الميلونغا Milongas، لأنها تروق لي. الميلونغا قصائد قوية. بينما التانغو…

ساباتو: أجل، أعرف جيداً بأنك لا تتستسيغه، بحكم أنك تجده ينحو منحى مفرطاً في إظهار الحساسية العاطفية الزّائفة. لكن، ليس كل قصائد التانغو على هذه الشاكلة. بعضها تغنّى بقسوة الموت، وبعضها بالوحدة، وبعضها بالحنين.

بورخيص (منكفئاً على نفسه، شرع ينشد من غير أن ينجرّ إلى موضوع التانغو، إحدى قصائد الميلونغا):     الموت هو الحياة، حين نحياها     والحياة هي الموت، حين يأتينا     الحياة ليست شيئاً آخر     غير موت يأتي ويحل في الآخر…إن كاتب هذه القصيدة سجين ينحدر من منطقة الأوشوايا Ushuaia.ساباتو: هي جميلة للغاية، ويبدو أنها من النوع الكلاسيكي. لكننا لا نعثر عن هذه الجمالية والعمق في الميلونغا، فقط. إنّ أبيات التانغو المُتغنّى بها في مقهى لوس أنخيليتوس [الملائكة] los angelitos، تبدو كما لو أنّ مانريكي Manrique هو الذي نظمها. ثمّ إنّ قصيدة الجنوب Sur لمانزي Manzi، لتتغنّى بشكل سائغ بالحنين إلى الحبّ الأول. إلى جانب قصائد أخرى من قبيل ما يمكن تسميته بالميتافيزيقيات. اسمع ما تقوله هذه:     أريد أن أموت وحدي، بلا رفيق آخر غيري،     أريد أن أموت وحدي، بلا اعتراف لقسّ أو لربّ،     أريد أن أموت مشدوداً إلى صليب محنتي،     وكأني أحتضن كامل غلّي وحقدي.بارون: والأدب؟

ألم يؤثر على التانغو؟

ساباتو: بلى، بالتأكيد. كان له تأثير. ففي أغنية نصف ضوء A media luz، ثمة أبيات عليها مسحة التأثر بالحداثة، من قبيل عبارة: غسق الدواخل.

بورخيص: وثمة هذه الأغنية الأخرى، التي تحمل عنوان: ضوء مصباح La luz de un farol، التي هي جزء من القصائد المنتمية للحركة الشعرية الطلائعية أولتراييزم Ultraïsme… مدهش هذا المدعو ألمافويرتي Almafuerte، الذي كان مع ذلك كاتباً شعبياً ذائع الصيت؛ لكنه حين يكتب القصائد، تأتي قصائده رديئة دائما. أنا ما زلت أتذكّر إحداها، تتحسّن نسبيا في النهاية، يقول فيها:     ينبغي أن ننفضَ عنّا الوحل جيداً     ونحن نتقدّم نحو القبر، رويدا رويداً ،     فليس ثمة من حرفة أبعث على القذارة،     من امتهان حرفة العيش في الحياة!هناك القليل من الامتلاء حسب اعتقادي، في هذا المقطع الأخير بالمقارنة مع سابقه.

ساباتو: ألا تعتقد، أنت الذي لا تكفّ دائماً عن التنويه بالمغنّين الجوّالين، البايادوريس Payadores، بأنّ أبياتهم الشعرية مليئة بالترّهات؟

بورخيص: ذلك أمر مؤكّد. لكنهم يبتدعون أحياناً بعض الأشياء الطريفة، عن طريق الخطأ. لقد كان لي صديق من هؤلاء المغنين الجوالين، ويدعى باريديس، ارتجل هذين البيتين:     وأنت، أيها الرفيق بورخيص     أحييك تحية كاملة بلا تنقيص وبدا لي أنا أن “تحية كاملة بلا تنقيص” فكرة جيدة، فطلبت منه أن يعيد البيتين على الفور، فقال:     وأنت أيها الرفيق بورخيص     أحييك تحية تامّة فيها تخصيص يبدو أنّ صاحبي لم ينتبه إلى ما ابتدعه قبل قليل، فعدّل مما قاله، ليجاملني! (بقي بورخيص يتأمل في الأمر، ثمّ سأل بعد ذلك، على حين غرّة): إنّما قل لي أنت، يا ساباتو. أي صنف من الموسيقى يشدّ اهتمام هذا الجيل الشبابي الجديد، اليوم؟

ساباتو: الرّوك.

بورخيص: موسيقى الصخب والضجيج؟

ساباتو: لا تكن ظالما. أعرف بأنك لا تهتم عامّة بالموسيقى. إنما العناصر المكوّنة لمجموعة الخنافيس Beateles يعدّون من كبار الموسيقيين.

بورخيص: أعتقد بأنّ الأمر كذلك، إذ قال لي ابن أخي ذات يوم: سأسمعك أغنية، فسألته: وما تلك الأغنية؟ لن أقول لك ما هي، أجابني. ثمّ وضع الأسطوانة على جهاز الفونوغراف، وشرعت أصغي إلى تلك الموسيقى، التي انفعلت بها كثيرا. لو أني كنت أعرف ما تكون منذ البدء، لاحتطت منها. هذا هو ما وقع لي أيضاً مع موسيقى البلوز Blues، التي اعتقدت بأني لا أحبها. ذات يوم، أسمعني أوليسيس بوتي دي مورات Ulises Petit de Murat قطعة موسيقية بعنوان: سان ـ لوي بلييز Saint-Louis Blees. وحين توقفت الموسيقى، كانت عيناي قد اغرورقتا بالدموع. “هذه هي الموسيقى التي لم تكن ترغب في الاستماع إليها!”، قال لي.

ساباتو: أجل، إنّ ذلك النوع من الغناء لمؤثر. لكن الشباب يعشق موسيقى أخرى، هي سليلة الجاز، غير أنها ليست بالجاز.

بورخيص: ولماذا ليست بالجاز؟ هل هناك اختلاف بينهما، من حيث الأدوات الموسيقية؟

ساباتو: أجل، ذلك غالباً ما يحصل. ففي الموسيقى الشبابية، عادة ما يتم إدماج بعض الأدوات الجديدة مثل القيثارة والأرغن الكهربائيين، وحتى آلة السّتار. كما يتمّ اعتماد بعض الألحان القادمة أحيانا من الهند، أو المستمدّة من موسيقى الباروك.

بورخيص: وهل هي موسيقى حزينة، أم جذلى؟

ساباتو: تجمع القليل من كل شيء: الفرح والحزن والحنين، وهي غالبا ما تكون عذبة.

بورخيص: لمّا زرت الولايات المتحدة الأمريكية، استمعت إلى الكثير من الموسيقى التي لا أعرف حقاً، هل تبلغ بمستمعيها إلى ذرى الحزن، أم إلى مدارج الفرح.

ساباتو: هناك نهضة موسيقية كبيرة في الغرب، ناجمة عن ظهور موسيقيين جدد، من قبيل دجون بايز J. Baez وبوب دايلان B. Daylan. وهناك أغنيات جميلة جداً، تقوم أحياناً على استحضار موشحات ايرلاندية وإيكوسية قديمة.

بورخيص: أجل، تلك التي تحمل بصمة الوحدة على الروح، وسط السهول المترامية.

بارون: كان لنا نحن بالذات، ثورتنا الخاصة ضمن موسيقى التانغو هو ما حققه بياتزولا Piazzola.

بورخيص: أنا لا أعرف أي شيء في الموسيقى، لكنّي أحبّ كثيراً موسيقى تروالو Troilo. بينما بياتزولا… لقد رافقني أحد الأصدقاء لحضور حفل له، أقيم ذات يوم بقرطبة. غنّى الرجل خمس قطع، استمعت إليها كاملة، فقلت لصديقي: عليّ أن أذهب، ما دام أنهم لم يعودوا اليوم، يعزفون ألحان التانغو… إن جسدي لا يطاوعني في التمايل تبعاً لما كان يقدم!يضحكان.

بورخيص: أنا لم استسغ قطّ آلة الباندونيون Bandonéon. لقد جاءت بعد البيانو والكمان والمزمار. في تلك القصيدة التي يتحدث فيها مارتشيللو ديل مازو Marcelo del Mazo عن الكمان والبيانو… يأتي الباندونيون فيها، في ما بعد.

يتفرّس بورخيص في وجه ساباتو، بهدوء يقيني غير مشبع.

ساباتو: أي، نعم. أنا أعرف جيداً بأنك لا تحبّ الباندونيون.بورخيص: كما لا أحبّ كثيراً غارديل

Gardel.ساباتو: طيّب. لكن دعني أضيف، حتى أواصل الحديث في ما كنت أتكلم فيه، بأن ثمة ما يضمن للتانغو عدم السقوط في منحدر النزعة العاطفية المبتذلة، وهو الباندونيون بالضبط. إنه أداة موسيقية اخترعها المدعو باند Band في ألمانيا، على شكل أرغن محمول، لإقامة الشعائر اللوثؤية في الشارع. إنّ له نغمة شجية وعميقة، بخلاف النغمة الغارقة في العاطفة الرخيصة والمبتذلة، التي توفرها آلة الأوكرديون، التي تعدّ بالنسبة للباندونيون، بمثابة الأخت السّطحية اللعوب. والغريب في الأمر، أنّ هذه الآلة لم تلق في ألمانيا غير الفشل الذريع، فانتظرت إلى أن جاء الوقت ليسافر بها بحارة هامبورغ إلى أقاصي العالم، ليتغير مصيرها، وتلقى ما لم تنله من نجاح في ألمانيا! لم يكن ثمة من آلة أخرى غير هذه، للتغني بالموت والوحدة القاسية. إن لها لنغمة مفعمة بالطابع الميتافيزيقي.

بورخيص: أنا لست على دراية بالموسيقى، ولا أستطيع التحدث فيها. لكني أعرف بأني أحبّ التانغو، حين لا يعتمد فيه على الباندونيون. أرى أن البيانو والمزمار والكمان أدوات مرحة بشكل أكبر. لكن ما يروق لي هو التانغو الميلونغي.

ساباتو: نعم، بالتأكيد. أنا مع هذا النوع من الموسيقى.

بورخيص: القيثارة لم تعتمد قطّ في هذا النوع، وإنما اعتمدت بالأحرى كخلفية لموسيقى البامبا. بينما ظلت دائما في الميلونغا ترافق المغنين، وبالأخص حين يتعلق الأمر بمن كان القليل من الصوت ينقصهم. لقد عرفت الكثير من هؤلاء، وبالضبط من فئة المغنين الشعبيين الذين يطلق عليهم لقب البايادوريس Payadores، الذي كانوا رديئين للغاية. كل ما أقدّره فيهم على الأخص، هو موهبتهم في الارتجال.

ساباتو: ربما كانوا كذلك في الظاهر فقط، لأنّ أبياتهم الشعرية محملة بكثير من أسماء الأماكن المشتركة ومن الترّهات.

بورخيص (يأخذ ، وهو منكفئ على نفسه، في الترنّم بجزء من تلك الارتجالات الشعبية المسماة بلابايادا La Payada، ثم يهمس قائلا): أجل. أعتقد أنه كان من الخطأ جمع البايادات في دواوين. إنها خالية من أية قيمة شعرية، ومن أي موسيقى.تسمع للحظة إلى شريط التسجيلات، أصوات متداخلة حرّكها الشعور بالتعاطف. أسمع إشارة إلى موضوعات تتصل بالأرجنتين والتانغو، فتتناهى إلى سمعي عند انعطافة إحدى الجمل، كلمة “صداقة”. وأشدد هنا على أنّ هذه بالفعل، بمثابة موضوع أساسي، بالنسبة إلينا نحن الأرجنتينيين.

بورخيص: وبالنسبة للأدب، أيضا. خذ مثلاً كتاب غوتيريز Gutérrez، الذي يحمل عنوان: صداقة أبدية Una hamistad hasta la muerte. ويظهر هذا الموضوع كذلك في كتاب إستانيسلاو ديل كامبو Estanislao del Campo الذي يحمل عنوان: مباهاة Fausto؛ وفي رواية هيرنانديز: مارتن فييرو Martin Fierro، وفي رواية رومان دي ريكاردو: السيد سيكوندو سومبرا Don Segundo Sombra. ومن المحتمل أن يكون هو الأصل في العديد من شقاواتنا ومآسينا، لأنّ الكودييو [الزعيم] caudillo هو رمز وفائنا غير المشروط. وهو ما تعبّر عنه هذه العبارة الذائعة الصّيت: “أنا مدين لفلان أو علان مدى الحياة”.

ساباتو: أعتقد بأنّ هذا ناجم، في جزء منه، عن كون حضارتنا ظلّت رهينة بالذكور. فقد كان الـ-وتشو دائما شخصية تروم الوحدة والعزلة. إن هذا الوفاء الذي يتجاوز الموت نفسه، هو ما أردت أن أنصّ عليه في المحكي الذي وقعته بعنوان: لافال Lavalle.بارون: وموقع المرأة ضمن موضوع الصداقة؟ إني أتذكّر قصة لبورخيص، تحكي عن صديقتين تدّعيان أنهما ـ مثلما تعتقدان ـ صديقتان، في حين تقضيان وقتهما في تنافس مستمر.

ساباتو: طيّب، ولكنّ هذا قد يحدث لنا نحن الرجال، أيضا. إلا أن الصداقة بين الرجال هي بالنسبة إلي، محرك كبير جدّاً للمشاعر.

بورخيص: أجل، حتى ولو لم يكن الأصدقاء يتزاورون، ولا يرون بعضهم البعض كثيراً. أنا أرتبط مثلاً بعرى صداقة وثقى مع ماستروناردي Mastronardi، ومع ذلك لا نرى بعضنا إلا في نادرا. هذه حال الصداقة. بينما يفرض الحبّ، على العكس من هذا، تحقيق المعجزات، ويدفع بالمرء إلى خوض غمار الاختبار، وإثبات النوايا باستمرار.

ساباتو: ألهذه الغاية هو لا يدوم إلا وقتا وجيزا؟ أنا أتحدث بالطبع، عن شدّة الوجد.

بارون: ينطوي الحبّ على الشكّ، لأنّه يتضمّن الجنس.

ساباتو: هذا محتمل، حتى ولو كان من الممكن أن تشتمل الصداقة كذلك، على ما يفيد الريبة وسوء الظن. على كلّ، من المحتمل أن يشتمل الحبّ الصادق والأفلاطوني، على سمو روحي ومروءة لا نجدهما في عاطفة الحب العادية.ينظر إلى ساعته.

بورخيص: أذكر بأن ماسيدونيو Macedonio قال ذات يوم، بأنّ التحام جسدين في بعضهما البعض، ليس سوى نداء من الروح إلى أرواح أخرى… فهل نجتمع يوم السبت القادم؟ 11 يناير/كانون الثاني 1975

نلتقي من جديد في الشقة، التي عقدنا فيها لقاءنا الأول.يستعيد بورخيص وساباتو ذكرياتهما، ويحفران في أخاديد النسيان.حذرت بأنّ جوّاً خاصّا من الاحتفالية سيسود لقاءنا.سمعت أصواتاً يفعمها الفرح.كانا منهمكين في الحديث عن إحدى روايات ويلز (أحداثها تدور حول أرجح سكان المريخ عقلاً، ومع ذلك لم يخترعوا العجلة!).البارحة، أوحت لي صديقة فنانة تشكيلية، هي إلبا سوتو Elba Soto، بفكرة جديرة بالنقاش: الإنسان البدائي الأول، في مواجهة الفنّ!أربكتني الفكرة، وأنا أديرها بدخيلتي، لكني لا أعرف إن كانت ستروقهما.هل أقترحها عليهما؟

بارون: كيف ينبغي أن تكون في نظركما، إرهاصات الفنّ الأولى فوق هذا الكوكب، لدى الإنسان البدائي القديم؟ هل كانت تلك الإرهاصات على شكل موسيقى، أم ربما على هيئة تشكيل صِباغي؟ أم ماذا؟

بورخيص: يبدو لي أنه من الصعب على المرء أن يجيب عن هذا السؤال، لأننا نميل إلى الافتراض بأن ما نحتفظ به في متاحفنا هو أقدم الآثار الإنسانية، التي تمّ العثور عليها لحدّ الآن، سواء أكانت خزفا أم دِهانا. وبإمكان هذا أن يكون خطأ، لأنّ من الممكن أن لا يكون ما اخترعناه، أو أنشأناه في البداية هو الذي دام، واستمر.لقد كتب باتر Pater يقول بأنّ جميع الفنون تصبو إلى أن يكون لها وضع الموسيقى، لأن هذا الفنّ هو الوحيد الذي ليس شيئاً آخر غير كونه مجرد شكل: بمعنى أن الموسيقى هي بحصر المعنى فنّ تلقائي؛ ويمكنها إذن أن توجد، حتى إن لم يكن العالم قد وجد، أو أن تحتل بالأحرى الرتبة الأولى ضمن لائحة الفنون. حتى إن… لم أعد أدري. وفضلا عن ذلك، كانت للكلمة على سبيل الاحتمال، دلالة جمالية في البداية. فأنا غالبا ما اعتبرت بأنّ من الخطأ القول بأن اسم المعبود الفلاني، أو لقب الالهة الفلانية يتصلان بلفظ القمر. وأشير بأن هذا كان سابقاً يدل من غير شك، إما على فكر في غاية التعقيد، أو على أن ثور Thor مثلا هو إله الرعد. من السهل جدّاً أن يفترض المرء بأنّ الإلهين كانا ـ معاً ـ نفس الشيء. فأن تكون للكلمة  الدلالة نفسها، فذلك قد يعني أنها كانت حينها، إما مظهرا جماليا أو ميثولوجيا. لكن… لماذا لا تكون الموسيقى هي الفن الأول؟!.. لست أدري… (ينتابه التردّد). لم يسبق لي من قبل أبداً، أن فكرت في هذا الموضوع. لكني أعتقد بأن ذلك لو بدأ مع اللغة، لتعين على هذه اللغة أن تكون في نفس الآن، ملموسة وشاعرية. إنّ فكرة كون سيريس Cérès هي الهة الزروع، هي بمثابة افتراض يتجاوز بدرجة كبيرة، الكفاءات الذهنية البدائية. لقد كانت سيريس في ذات الآن، الكائن المعبود وما تمثله في ذهن العابدين لها. وهذا الأمر يتجاوز الذهنية البدائية… أنا لا أعرف رأيك في هذا الموضوع، يا ساباتو. لقد باغتني هذا السؤال!

ساباتو: أعتقد بأن الإنسان هو أولا كائن وجداني، وفي المقام الثاني كائن مفكر. وبذلك، يكون الإنسان البدائي قد أدرك الوجود والعالم من حوله، إدراكاً شعوريا في البداية، ثمّ ما لبث فيما بعد أن طرح عليه بعض الأسئلة؛ بمعنى أن الفنّ أسبق من الفلسفة، والشعر أقدم من الفكر المنطقي. وإذن، فإنّ الإرهاصات الأولى للفنّ عند الإنسان، يمكنها أن تكون في نظري ـ وهذه ليست سوى مجرد تخمينات ـ هي الرقص واللغة الشعرية. بهاتين الوسيلتين، أمكنه أن يعبّر عن مخاوفه وآماله، كما كان بمقدوره أن يبتهل، ويتضرّع، ويحاول التواصل مع غيره.

بورخيص: إن القصيدة بحسب إحدى أفكار بو Poe، قد تكون نتاجاً لعمل ذهني؛ إلا أن هذا شأن مغلوط تماماً. هذا الأمر ممكن، لكنه لا يتطابق مع حقيقة الأدب أبداً. فإن لم تحرّك القصيدةَ في البدء شحنةٌ وجدانيةٌ ما، فلا ضرورة ثمّة تبعث على الكتابة. وأخيراً، جميع كبار الشعراء الفطريين تقريباً، يخلفون لنا دائماً أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوّره من أبيات شعرية، لكنهم في بعض الأحيان يتركون كذلك أفضلها.

ساباتو: إنها مسألة الحدس الأصلي المطبوع في جبلة الإنسان، والذي أعتقد أنه من طبيعة وجدانية، وهو ما نعثر عليه ونراه سواء لدى الإنسان المتوحش، أو لدى الطفل…

بورخيص: إنها الاكتشاف الأكبر لرجال السياسة، الذي يدفعهم إلى عدم احتياجهم إلى أن يكونوا منسجمين.

ساباتو: بالتأكيد، الأمر كذلك. إنهم لا يحتاجون إلى منطق منسجم وإنما إلى القلوب التي يستهدفونها. إنّ مبدأ الهوية لم يقع اكتشافه أبداً، على يد أي رجل سياسة.يضحكان.

بورخيص: كنت أقرأ سيرة الرئيس لينكولن، الذي أعجبت به من قبل، بشكل ظالم. في هذا الكتاب، نجد أنفسنا أمام تناقض صارخ يقوم بين خطب ألقاها الرجل في شيكاغو، وأقرّ فيها بالحقوق المتساوية بين جميع المزدادين بأمريكا؛ وهي الخطب التي جعلته يبدو في حينه، مناهضاً للعبودية؛ وبين غيرها. فحين خطب لينكولن في الناس بأورليون الجديدة، ظلّ يردّد بأن الجميع متساوون في الحقوق، لكن وحتى تتعايش الفصيلتان البشريتان [البيض/السود]، فإنّ على الفصيلة الدُّنيا منهما، أن تخضع للعليا!

ساباتو:  هذا يعني أن الجميع سواسية في الحقوق، حين تكون للجميع نفس الحقوق، وهو ما يفيد أن هذا الكلام ليس إلا مجرد طوطولوجيا منمّقة الصياغة.

بورخيص: أعتقد بأن ما من أحد من رجال السياسة يمكنه أن يكون صريحاً بشكل مطلق. إن رجل السياسة هو دائم البحث عن المنتخبين؛ وبذلك، يصرّح بما ينتظره هؤلاء منه. إن الرأي الذي تكشف عنه كل خطبة سياسية، هو رأي الجمهور الذي ينتظر تلك الخطبة، لا رأي الخطيب. إن هذا لمرآة تنعكس على صفحتها أفكار الجمهور، أو هو رجع صدى لأفكار الآخرين؛. وإلا حالفه الإخفاق والفشل.

ساباتو: لكني أريد العودة إلى السؤال الذي طرحه بارون من قبل، لأتمّ إجابتي عنه. ربما كان التعبير الفني الأول عند الإنسان هو اللغة، التي تكون دائما شعرية في بداياتها، مثلما تؤكد على ذلك أطروحة فيكو Vico. هناك بعض الناس الذين يتكلمون بلغتين: الأولى روتينية تعتمد في الاستعمال العادي، والثانية متروكة لمناسبات الاحتفال والأعياد، وهي أشبه ما تكون باللغة “الفنية”. إلا أن فيكو برهن على أن الإنسان في البداية، كان يعبر من خلال الاستعارات.

بورخيص: ذلك ما أقرّ به ليغونيس Ligones، حين قال بأن اللغة صيغت من استعارات. مع احتراز واحد هو أنه يتعين علينا نسيانها، حين نتحدث بيننا.

ساباتو: تلك الاستعارات هي أجمل ما في الوجود.

بورخيص: وإلا كنا سنتحدث دائما، عن نفس الشيء. أليس كذلك؟

ساباتو: لست أدري. لكن، ألا نقول حتى في اللغة اليومية المعتادة، بأن الشجرة ترسل ظلها؟! هذا منجهة، أما من جهة أخرى، فإننا إذا ما إذا تحدثنا عن اللغة بمعناها العام جدّا، أي باعتبارها وسيلة للتواصل، فقد يصبح الرقص هو الآخر لغة وطريقة في التواصل بين البشر والآلهة. وبما أن الايقاع من جانب آخر جوهري دون شك في الطبيعة البشرية، فمن المحتمل أن يكون الرّقص هو الفنّ الأول، والقاعدة التي انبنت على صرحها جميع الفنون الأخرى. ومن ثم، قد تغدو اللغة المعتمدة في نطقها على الإيقاع شعراً.

بورخيص: أشكرك باسم صديقتي سيلسيليا إينخنييروس Cecilia Ingenieros.يبتسم.

ساباتو: وحتى أعود إلى ما أشرتَ إليه بخصوص ليغونيس، أعتقد بأن هناك لغتين: الأولى تعبيرية وشعرية في الأساس، مصاغة بالاستعارات والمجازات، وهي التي قد تأتي في المقام الأول، وتُعدّ لغة الحياة والوجدان. وهناك لغة أخرى فكرية بشكل قاطع، مباشرة وتجريدية، هي لغة العلوم التي يقال بها مثلاً، إنّ الوتر المثلث في الزاوية القائمة هي الوتر المثلث في الزاوية القائمة. هذه اللغة تأتي في ما بعد، مع تولد الفكر وتراكمه.

بورخيص: أذكر إحدى الاستعارات المثيرة بما يكفي للفضول، يعود تاريخها إلى سنوات خلت. كنتُ أنا وبعض أصدقائي، قد خرجنا من نفق المترو بمحطة كوريينتيس وفلوريدا، وبدأنا نصعد درجات السلم، بينما المطر يهمي. سوّى من كان يرافقني المظلة فوق رأسه، في حين لم يكن لدي أنا غير هذه العكازة. حينها، لمحني طفل كان يجلس على الطّوار، فقال على نحو مباغت وهو يتوجّه إليّ الكلام: “نحن لم نحضرْ من المظلة غير السّاق!”. (ضحك مشترك). ما من شك في أن ذلك الطفل قد يكون نسي على الفور، أنه أبدى بملاحظة لطيفة ومسلية.

ساباتو: وما الذي يمكن قوله بشأن لغة البادية؟ ذات يوم، سئل مزارع إن كانت السماء ستمطر، فأجاب: “لست أدري، فالطقس يبدو على هيئة من يخمّن!”.تتداخل الأصوات، وتتخذ المحادثة طابعا حاميا ومبهما. كل منهما يقاطع الآخر، ليقص على صاحبه طريفة من الطرائف. يتحمسان لما يستمعان إليه، ويغرقان في الضحك.

بورخيص: بالفعل. ليس الفكر كالانطباع الخاص.

ساباتو: إنه يقع على الطرف النقيض من ذلك. فالرّياضيات التي هي نموذج الفكر البحت، هي بشكل كلّي ونهائي غير شخصية. إذ لا معنى للحديث فيها عن الأسلوب الذي صاغ به فيثاغوروس مبرهنته بشأن مربع الوتر المثلث. إنّ الأسلوب أمر يخصّ الفنّ، وهو طريقة شخصية لرؤية الواقع.

بورخيص: والدليل على ذلك هو أننا لا نلج إلى عوالم الرياضيات، عن طريق التجربة الشخصية. لن نقول لشخص ما بأننا سنبدأ باعتماد التجربة على البرتقال، لنواصلها على الكراسي، وهلمّ جرا… إذ من المعلوم أننا بمجرد ما أن نسمع بأن حصيلة أربعة زائد ثلاثة هي سبعة، إلا وينبغي أن يطبق ذلك على كل شيء.

ساباتو: كلا. يمكننا أن نلج إلى تلك المعرفة عن طريق التجربة، إلا أن تلك المعارف تبقى دائما مستقلة عن تجربتنا. وهذا هو الفرق الحاصل بين الرياضيات والعلوم الفيزيائية.

بورخيص: فإذا ما قيل لنا بأن ثمة خيولا زرقاء على كوكب بعيد، فسيمكننا تصديق ذلك. لكن ما أنْ يقال لنا بأنّ حصيلة ثلاثة خيول زائد أربعة، تساوي ستة وتسعين خيلا، فسندرك بأن ذلك ضرباً من المستحيل.

ساباتو: ذلك هو الفرق القائم بين الشيء المحتمل والشيء الممكن. من المحتمل وجود خيول زرقاء، لكن من غير الممكن أن تكون حصيلة ثلاثة خيول زائد أربعة هي ستة وتسعين خيلا زرقاء. إن حصيلة جمع العددين السابقين هي معرفة كونية، وتبقى بالتالي صالحة على الدوام، سواء في العالم الحقيقي أو الافتراضي والخيالي.

بورخيص: أعتقد أن الخطأ الذي وقع فيه سبينوزا، حين كتب كتابه المعنون بأكثر من هندسة More geometrico، هو كونه ظنّ أنّ الرّياضيات ستكون يقينية، لأنها تبرهن على ذاتها عن طريق قواعد وحدود. والحال أنها بهذا ليست يقينية.

ساباتو: سيقودنا هذا الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك. لذا، أفضل التذكير بطريفة ترتبط بإدينغتون Eddington. كان هذا يقول بأن الرياضيات بمثابة طاحونة البنّ، التي ستظلّ تنتج البنّ كلما زودناها بحبات البن. وبتعبير آخر: فالرياضيات لا تنتج حقائق، وإنما تحول تلك الحقائق إلى أخرى تعادلها.

بورخيص: قال برنارد راسل بأننا حين نتحدث عن التطور في الرياضيات، فإننا نرتكب خطأ. وبأننا بمجرد ما أن نقول بأن حصيلة ثلاثة زائد أربعة هي سبعة، فإن بين ثنايا هذه العملية ينطوي حساب متناهي الصّغر، والجبر، وغير ذلك. لكننا في المقابل، لم نضمر حين اكتشفنا الذئب، بأنّ وراء ذلك إمكانية أخرى لاكتشاف الكُنْغر، ولا لاكتشاف القط، ولا غيرهما.

ساباتو: زد على ذلك أننا قد لا نستطيع أن نكتشف الكُنْغر أبدا، لأن من الممكن أن لا يكون موجداً بالكل، ما دام أن اكتشافه يدخل في باب الاحتمال فحسب. وهذا مناقض للواقعة الرّياضية التي هي استلزامية وتؤمن بالضرورة الحتميّة، إذ أن حصيلة ثلاثة وأربعة هي حتماً وببالضرورة: سبعة.

بورخيص: كان الرومان كلما أرادوا ضرب مثل عن الأمر المستحيل، إلا وقالوا: “هذا من قبيل الإوز الأسود”. وإذا بالإوز الأسود يكتشف في ما بعد، باستراليا!ضحكا معا، ومرحا كثيرا بسرد الأمثلة الغريبة والمثيرة للفضول.

ساباتو: إن خُلْد الماء ذا المنقار الأشبه بمنقار البطّ، ليس حصيلة مستنبطة من البقرة، ولا من الكنغر. ثمّ إنه كان من الممكن أن لا يوجد بالمرة، ومع ذلك يبقى الكون منطقياً بشكل تام. لذلك، تبقى عملية البرهنة على وجود الأشياء الفيزيائية ـ ويتعين علينا أن نقول هذا في هذا المقام ـ أمرا شديد الصعوبة. وحتى لا نبتعد كثيرا عمّا يحيط بنا، أقول: من ذا الذي يكون بمستطاعه البرهنة على وجود هذه المنضدة الماثلة الآن، أمامنا؟ إنها مجرد مسألة إيمان.

بورخيص: حتى تستمرّ مع الجمهورية الأرجنتينية، التي هي بحاجة كبيرة لإيماننا. (يضحكان). وإني لأعتقد من جهة أخرى، بأن المنضدة المرئية لا علاقة لها حسب الفيزيائيين، بالمنضدة الحقيقية.

ساباتو: ليس من المهم أن تكون هذه المنضدة حقيقية أو غير حقيقية، وإنما ما قلته هو أن من المستحيل البرهنة على وجودها، وأنّ فعل الإيمان هنا أمر لا محيذ عنه. إن العقل لعاجز بشأن هذه المسألة بكيفية كبيرة، مثلما برهن على ذلك الأسقف بيركلي Berkely. لا يمكن أن نقرّ بوجود هذه المنضدة إلا عن طريق اعتمادنا على عقيدة ما، وهو ما يسميه هيوم بالإيمان belief: ذلك الاعتقاد الذي يأخذ في التشكّل عندنا منذ الطفولة، بفعل الاعتراضات التي يرفعها العالم الخارجي في وجه رغباتنا وإراداتنا. إنه لشيء مقاوم.بقيا يتحدثان، بينما كنت أغيّر البكرة. كنت أصغي لكلامهما، فسمعت مزحة أو مزحتين أيضا، حول المجد والنجاح. بعد ذلك، سمحت لنفسي بالتدخل، فسألتهما إن كانا يعلقان على هاتين الكلمتين أهمية ما.

بورخيص: أنا شخصيا لا أهتم بذلك. حين أكتب، لا أكترث بمستقبل ما أكتبه، ولا بما يمكنه أن يحدث.

ساباتو: لا أحد كان يعلم، حين شرع في التهيؤ للمعركة، بأنه ذاهب إلى حرب ستستغرق مائة عام! أليس كذلك؟

بورخيص: أعرف بعض من لا يتحرج في القول: “لقد لقي كتابي الأخير نجاحاً منقطع النظير!”. حسنا، كنت أردّ عليه. لكن، حتى يعرف المرء أن ذلك قد حصل بالفعل، عليه أن يكون ذلك اليهودي التائه، كما في الأسطورة. أليس كذلك؟ إن أهمّ فيلسوف بالنسبة إلي أنا شخصيا، هو شوبينهاور. لكني لا أعتقد أنه لقي النجاح والمجد اللذين نتحدث عنهما، في حياته.

ساباتو: ليس النجاح ضروريا ولا كافيا، ليحظى مؤلّفٌ ما بقيمة. هناك كُتّاب ذوو قيمة، لكنهم غير معروفين، مثلما أن هناك آخرين معروفين أيضاً منهم، تمتّعوا بالشهرة والحظوة، كما هو الشأن بالنسبة لهيغل. ويؤسفني يا بورخيص، بصدد هذه النقطة بالذات، أن لا أشاطرك الرأي، لأني أعتقد بأن جميع ما هو مهم في عصرنا، قد خرج من تحت عباءة الفيلسوف هيغل. وكان هذا يتمتع في وقته، بشهرة كبيرة جدّا. كما أنّ سقراط بالذات قد حظي بشهرة عالية في حينه، إلى الحدّ الذي فُرض فيه عليه أن يشرب محلول عشبة الشوْكران السّام، بفعل التأثير الذي كان يمارسه على الشباب.

بورخيص (مصادقا على كلام صاحبه): أجل، فقد حقق سيرفانتيس أيضاً، رقم مبيعات لا يستهان به في حينه. لكني أعتقد بأن الفشل ليس ضمانة مكفولة هو الآخر. لقد عرفت أناسا كانوا يولون أهمية كبرى للنجاح. فحين نشر كويرالديس Guirades مؤلفه الذي يحمل عنوان El Concerro de Cristal، لم يبع منه سوى نسخ قليلة جدّاً. ثم رمى بالنسخ التي لم تبع، وهو في ذروة يأسه، في بحيرة صغيرة كانت تقع وسط أملاكه. لقد كانت فكرة التخلص من الكتب بإلقائها في قعر بحيرة، فكرة في غاية البشاعة.طفا على الجلسة للحظة، جوّ من الذهول والأسرار. شرع ساباتو في تخيل تلك الكتب تتحلل بفعل الماء، وتتآكل في غور البحيرة. أما أنا فكان رأيي هو أن الأولى بها أن تحرق، في خضم طقس مفعم بالتقوى والتضحية. بينما لمّح بورخيص إلى أنّ الحرق كان سيكون أكرم لها من التحلل والانطماس في الوحل.

بارون: يقال ـ وعديدون من أقرّ بهذا ـ بأنّ الفنانين غالبا ما يرغبون في أن يكونوا، في المحصلة في النهائية، موضوع حبّ الناس ورضاهم، وأنهم بذلك يبحثون عما يجعلهم محبوبين. وإذا لم يكن النجاح مجرد أمر مغتصب من غير وجه حق، فإنه إنما يكون هنا شكلا من أشكال العاطفة المشبوبة. فما هو رأيك في هذا، يا بورخيص؟

بورخيص: لا أعتقد بأنّ النّاس ستكنّ المحبّة لشخص من الأشخاص، يؤلّف كتبا. نحن نكون موضوع الحبّ بفعل أمر حميمي.يحرّك ساباتو رأسه بكيفية تنمّ عن عدم الموافقة، لكنّه لا يتفوّه بأي شيء.

بورخيص: كان الاعتقاد السائد عند الناس في العصور الغابرة، هو أنّ النجاح أمر مستحق من بفعل الجهد والعناء المبذولين. وبهذه المناسبة، اسمحا لي بالعودة بكما إلى الثقافة الأنغلوساكسونية، التي تعد عندي إحدى الأهواء المستحوذة. يقول البيت الأخير من مأثرة قديمة لبيوولف Beowulf: “كان واحداً من أشدّ الرجال لطفا وعذوبة ورغبة في المديح”. فعلى ماذا يدلّ هذا الكلام؟ إنه يعني بأنّ الناس في هذه الحقبة الزمنية بالذات، التي لا توجد فيها مؤسسات الإشهار ولا ما يشبهها، تعتقد بأن الشخص إذا ما حظي بشهرة ما، فلأنه أهل لها، وأحق بها. في حين أن الشهرة اليوم، إنما هي ربما حصيلة مجموعة من المناورات والخدع.

ساباتو: لا أظنني فهمت حجتك الأنغلوساكسونية. أما بالنسبة إلى ما تفضلت بقوله عن الشهرة، التي كانت بالنسبة لهؤلاء أمراً يرونه مستحقاً، فأعتقد بأن من اليسير جدا في تلك الحقب السحيقة، إيجاد الحجج الكفيلة لاغتصاب المجد. فإذا ما قتل أحدهم مائة رجل من الأعداء، يكون أحق بالمديح والشهرة، ممن قتل عشرة فقط.استبدت بالأجواء حالة من الصمت غير القابلة للتفسير. ومع ذلك، كانت حالة الحزن التي انتابت بورخيص مكشوفة للعيان بقوة، حتى أن ساباتو قد اضطر إلى التزام الصمت، وانتظار مضي بضع ثوان.كنّا على علم تامّ بأن أمّ بورخيص، التي تقبع بالشقة المجاورة، كانت تنتظر حلول الموت؛ كما كنا على علم تام كذلك، بأنّ حكم القدر قد بدا أقرب إلى الحكم القابل للتنفيذ في القليل القادم من الأيام، وبأن ما من قوة قد تردّه.من جهته، كان بورخيص يحرك العكازة بين بيديه، ويواصل التفكير في تلك القصيدة الأنغلوساكسونية، التي أشار إليها. ثم أضاف بصوت عذب ومخنوق، بأن هذه القصيدة كانت في الأصل وثنية، غير أن رجل دين مسيحياً دوّنها في ما بعد، وأكّد كونراد في كتابة الذي يحمل عنوان: نوسترومو Nostromo، بأنها توجد في بلاد جنوب أمريكية متخيلة.

ساباتو: كل البلدان متخيلة، بشكل من الأشكال. وحتى لا نتيه وراء البحث عن الكثير من الاستشهادات، يكفي أن نستدل على ذلك، ببلاد الأورغواي التي تتحدث عنها أنت، يا بورخيص.بورخيص (محركا رأسه بشكل ينمّ عن الموافقة، وقد بدا كمن يبحث بعينيه عن شيء محدد. يصمت لفترة، ثم يقول): خلقته من بقايا ذكريات الطفولة، التي احتفظت بها في دخيلتي. أجل، إنه أوروغواي متخيل. لكن ليس بالقدر الأكبر من الخيال الذي أتخيل به هذه المدينة: بوينس إيريس، مدينتي التي لا أعرف منها في الحقيقة، الشيء الكثير. أنا لم أجب منها بالكاد، إلا ثلاثة أحياء أو أربعة. لم أذهب قط إلى حيّ بيلاّ ديل بارك، ولا لابوركا ديل رياشيولو. وفي وسعي أن أستمر في تعداد الأماكن والأحياء التي لم أرها منها بالكل، ولم أزرها. فما الذي أعرفه منها، حقا؟ مجرد واجهات بيوت بعينها، وبعض المداخل! ما الذي أعرفه أنا حقاً، ما دمت لا أعرف حتى شقتي، بالذات؟!…

ساباتو: لكنّ هذه الأمور تجري دائما بمثل هذه الكيفية، يا بورخيص. فالواقع غير محدود، ممّا يُحتّم بالتالي على كل فنان، أن يخلق واقعه: إنّ بوينس إيريس التي خلقتها، لا يمكن أن تكون هي نفسها بوينس إيريس التي خلقها روبيرتو أرلت R. Arlt، لأنّ لكلّ منكما أناه الذي يرى من خلاله الواقع، ويعيد به خلق ما يراه. إن صلاة المَلاك Angelus التي أنجزها مايّي Millet، ليست هي نفس الصلاة التي أنجزها فان غوغ. وهذا ما يجعل الفنّ الطبيعي، أو كل الأشكال الفنيّة التي يقال عنها بأنها ذات منحى موضوعيّ، مجردَ عمليات تقديم فنّي عبثية. فالفن ليس مجرد عملية خلق جديدة للواقع كما هو، مثلما أنه ليس انعكاسا للواقع كذلك، وإنما الواقع الذي يخلقه الفنّ أشدّ ديمومة وكثافة من ذلك الذي يُعتمد كقاعدة لعملية الخلق والإبداع. فاليونان التي انطلق منها إبداع هوميروس اندرست معالمها، ولم يتبقّ منها أيّ شيء، أو أنّ ما بقي منها هو تقريبا النزر القليل جدّاً. في حين قاومت قصائده تحوّلات الدّهر، أكثر مما قاومتها مدن اليونان!انتعش الجمع مرة أخرى، وولّى عنّا الحزن الذي كان بورخيص قد نقله إلينا، دون أن نكون قد طردناه طردا؛ وإنما هو انسحب تحت ضغط غير مرئي منّا.وبعد سلسلة من المزح والطرائف، عاد ساباتو مجددا إلى موضوع الفنان كخالق للواقع.

ساباتو: هذا هو ما جعل واقع أوروبا أكثر ثراء من واقع أمريكا، أو أفريقيا: فقد تمّ إغناء كل جزء من ذلك الواقع الأوربي، بما أنجز آلاف الفنانين الذين اشتغلوا عليه، طيلة قرون ممتدّة. فهو ليس مجرد مناظر طبيعية، وإنما حصيلة اشتغال بارع لم يتوقف من هؤلاء الفنانين، الذين أغنوا ذلك المنظر، ومنحوه خصائص ومميزات روحية. إن قرية راي Ry التي تقع بالنورماندي مثلاً، ما كان لها وهي القرية البسيطة والمتواضعة للغاية، أن تتفوق على بقية القرى العديدة والمترامية على منطقة النورماندي، لولا اختيار فلوبير لها بالذات، كي تكون المكان الذي يحتضن مدام بوفاري؛ بمعنى أنه جعلها تعكس ذهنية شخصيته الروائيّة بشكل خاص… وبهذه المناسبة يا بورخيص، أشير إلى أني زرت خلال زيارتي الأخيرة إلى ألمانيا، البيت الذي قضى فيه هولدرلين سنواته الأخيرة: ما يقارب أربعين سنة، بعدما صار مجنوناً. إنه برج هولدرلين الواقع على ضفاف نهر النيكار…

بورخيص: أجل، بالتأكيد… هولدرلين… الشاعر الحالم جدّاً… لقد قمت رفقة كسور سولار Xur Solar، بقراءة بعض القصائد التي كتبها الرجل، حين صار مجنونا، ونشرنا ذلك ضمن نشرة عادية. أتحدث عن قصائده التي كتبها، أثناء المرحلة التي بدا فيها ليل الجنون يضرب حوله، بظلمة حالكة.

ساباتو: لقد تأثرت بشكل عميق جدّاً لمنظر تلك القلعة الصغيرة، وأنا أفكر في ذلك النجّار المتواضع الذي آواه، وأحاطه بالعناية الفائقة لمدّة خمس وثلاثين عاما، أو ربما أربعين!… أتعلم يا بورخيص، أنه ظلّ يستقبل زواره، مهما كان شأن ذلك الزائر، بحفاوة مبالغ فيها، وهو يقول مثلا: “تفضلوا، سيادتكم”، “اجلسوا، فخامتكم”. ولو لم يكن الناس يعلمون بجنونه، لاعتبر البعض منه ذلك بمثابة سخرية كبيرة وغير عادية.

بورخيص: من الممكن أنه يعدّ الآخرين أمراء حقيقيين، أو أنه كان ربما يشعر في قرار نفسه بشدة البؤس، إلى حدّ جعله يعتبر أيّاً كان أميرا، إذا ما قورن به، هو البئيس.

ساباتو: لقد كان يفتنني، دائما. قال مرة بأن الإنسان إله حين يحلم، ويغدو بالكاد متسولا حين يعمل فكره. وهذا صحيح، لأن حلم أي كان هو صنيعة شاعر كبير، في حين أنّ ما نفكر فيه حين نصحو، فغالبا ما يكون مجرد غباوة وحمق. كلّ جملة من جمل هولدرلين، تحدّد موقفه من الفنّ، الذي يتوافق مع استعارة الليل، أكثر مما ينضبط لاستعارات النهار.

بورخيص: حين نحلم، يتخذ الفكر أشكالا درامية. هذا ما قاله درايدن Dryden. حين نحلم، نكون في نفس الوقت الممثل، والكاتب، والجمهور، والمسرح. نكون كل ذلك.

ساباتو: أوليس كلّ هذا هو الفنان؟ أوليس هو أشبه ما يكون بالحالم؟! في إحدى الرسائل التي دأب فلوبير على بعثها إلى أصدقائه وصديقاته، قال إنه كان يتنزه ذات يوم خريفي جميل في إحدى الغابات، فشعر في قراره بأنه العاشق والمعشوق، والريح التي تحتك بالعاشقين، والأوراق التي تدعسها أقدامهما، والكلمات التي يتبادلانها. لقد أحسّ بكل ذلك، دفعة واحدة!

بورخيص: هناك قصيدة لإيميرسون Emerson مترعة بأثر الفكر الهندي والبوذي، تقول:   If the red slayer think he slayes  Or if the slain think he is slain  They know not well the subtle ways  I keep and pass and turn again “إذا كان القاتل الأحمر يعتقد أنه يقتُل، أو ظنّ المقتول أنه يُقتَل، فإنّهما لا يدركان الطريق”. لأنهما نفس الإنسان، في الحقيقة. هذه القصيدة بعنوان: براهما Brahma. ثمّ بعد ذلك، يأتي هذا البيت الرّهيب:   When me they fly, I am wings “حين يهربون منّي، أغدو جناحيْن”. هذا رهيب، والله! ونفس الفكرة يستعيدها بودلير فيما بعد، فيقول: “أنا المنفاخ والخدّ معاً”. يبقى شاردا للحظة يفكر، ثمّ يهمس بعد ذلك، قائلاً:ما أعذب الأدب!يرسل نحوه ساباتو ابتسامة.حينها، ينشد بورخيص بعض الأبيات من شعر ألمافويرتي Almafuerte.ساباتو: أحدهم بالمناسبة حدثني عنك قبل أيام، وسألني عن السبب الذي يدعوك إلى عدم الإعجاب بقصائد ألمافويرتي. قلت له بأنه مخطئ في ما يزعم، وأنّ المافويرتي يعدّ من شعراء الحيّ، وأنك معجب به.

بورخيص: نحن جميعنا من شعراء الحيّ!يبتسم.

ساباتو: شعراء هذا الحيّ الأوسع الذي هو الأرض. أليس كذلك؟

بورخيص: أتذكر مساجلة حامية اندلعت ذات مرة، بين بيلّوك Belloc وويلز Wells. قال الأول عن الثاني: “إنه إنجليزي من الضّاحية”، فردّ على ذلك ويلز بالقول: “وهل تكون أوربا كلّها حقّاً، هي مسقط رأس السيد بيلوك؟!”.

ساباتو: ما ظلّ يحيّرني هو أنّك ظللت معجباً بشخصيْن متباغضين: ويلز وتشيسترتون. فقد هزأ هذا كثيرا بويلز، واختلق حوله نكتاً ساخرة.

بورخيص: إن كتاب تشيسترتون: التاريخ الكوني هو أجمل بكثير مما أبدعه ويلز. لكن ما لا يعجبني في هذا الرجل هو كونه ظلّ كاثوليكيا. أنا لا أفهمه.

ساباتو (ضاحكا): لا ينبغي أن تنسى أنه كان كاثوليكيا إنجليزيا! ويعني ذلك في إنجلترا، أنه من المعارضة.

بورخيص: أجل، مثلما هو الأمر هنا، بالنسبة للبروتستانتي. وإلى جانب هذا، ظل انتماؤه إلى أقلية دينية يعتبر امتيازاً في حذّ ذاته: وهذا يفرض على المرء أن يكون متسامحا. وأعتقد بأنّ بيلوك قد أساء كثيراً إليه، لأنه أدخل في ذهنه الفكرة القائلة بأن الكاثوليكية ديانة تتأسّس على صرح الحسّ المشترك…

ساباتو: إنّ فكرة نهوض الكاثوليكية على قاعدة الفطرة السليمة هراء. فالكاثوليكية تتأسس على العبث؛ ومن ثمة، فهي إذن غير قابلة للطعن. فأن نفكّر… وأن نرغب في تطبيق المقولات الإنسانية، وبالأخص المقولات العقلانية، على أمر مفارق لها… كلّ ذلك، بحسب ما يتصوّره المنطق الدّيني الضيق، مروق وضلال…

بورخيص: ذلك تصرّف أقام عليه الربّ الحظر من قبل، في سفر أيوب.

ساباتو: إنه أول ما نصّ عليه من أحكام في كتابه! (يضحك). وهو أول مؤلِّف ينشئ مؤلّفاً مفتوحاً.

بورخيص: أعتقد بأنّ ألماً واحداً حادّا في الأسنان، لكفيل بإنكار وجود إله قادر على كل شيء.

ساباتو (ينظر إليه بسخرية): من المحتمل أن الربّ يعطي لكل واحد، ليس ما يريده أو يرغب فيه، ولكن ما هو بحاجة إليه. زد على ذلك، أنّ ألم الأسنان ليس بحجّة على عدم وجود إله كلّي القدرة، وإنّما هو حجة على إمكانية وجود إله قادر، لكنّه شرير.

بورخيص: حينها لن يكون هذا هو المعبود الذي يعشقه الكاثوليك.

ساباتو: بالتأكيد، سيبقى كذلك. فهو يمكن أن ينزل ألم الأسنان على من يريد، حتى من دون أن يكون شريراً: إن منطقنا غير صالح للتعامل مع غير المتناهي.

بورخيص: ثمّة نموذج مثالي archétype ممكن، يفيد ما يلي: إنّ الله كريم جدّا مع الإنسان، وقد أجزل عليه العطايا من كل شيء، ولم يبخل عليه حتى بجهنّم. لكن، من يدري إن كان سيقع الترحيب بهذه العطايا. أليس كذلك؟

بارون: أتسمحان لي بمقاطعتكما؟ أريد في هذه المرة أن أبدو بمظهر المتحكّم في الحوار. أعرف بأن بمستطاعكما الحديث لساعات طوال في هذه الأمور الدينية، لكني أريد أن أعود بكما إلى موضوع اللغة، وإلى ما يسمى بالثورة اللغوية. ففي مجموعتك القصصيّة: تقرير بروديه Le rapport de Bordie، كنت قد قدّمت يا بورخيص، تفسيرات بشأن السهولة التي كتبت بها  تلك القصص.

بورخيص: في كتاب من الكتب، صادفتني فكرة أخرى بخصوص إمكانية خلق لغة، لا تربطها رابطة حقيقية بأي لغة، مهما كانت. كأن نقوم بالبحث عن مفردة تدلّ مثلا على الشعور بالعطش، الذي ينتاب المرء بعد الساعة السادسة مساء. لكن هذا لن يكون سوى مجرد نحت لكلمة واحدة، وحسب.

ساباتو: قد يكون الأمر مسليا. لكن، ما دمنا نتحدث عن الكلمات، ما رأيك في أن أطلب منك يا بورخيص، إصدار أمر يلغي استعمال القواميس والمعاجم، باعتبارك عضوا في أكاديمية الآداب؟!

بورخيص (ضاحكا، وهو يهز رأسه بهدوء): أنا حقا أفكر في هذه المسؤولية الثقيلة، التي أتحمّلها في الأكاديمية. فهي تعني لي كل أسبوعين، إضافة ساعتين أو ثلاث ساعات من الضجر. هم يدفعون لي حقا عشرين ألف بسيطة، ويقومون بنقلي بالسيارة في الذهاب والإياب، ويقدمون لنا أفضل بنّ في بوينس إيريس كلّها!

ساباتو: أجل. بالنسبة للبن، ذكرتَ لي ذلك، حين أردت إقناعي بالالتحاق بالأكاديمية، والقبول بالعضوية. وحاولت أن أشرح لك، في الرسالة التي بعثت لك بها، أني لا أرفض عرضك لأسباب شخصية بحتة، وإنما لدواع فلسفية.

بورخيص: أنا قبلت بالعضوية لأني ملت مع تلك الموجة الجارفة، التي أحدثتها ثورة 1955، فتبيّن لي في ما بعد، بأنها موجة مضلّة ومخادعة. لقد ظننت بأن هناك أشياء إيجابية بدأت تحدث في هذا البلد.حرّك ساباتو رأسه في سخرية.

بورخيص: من بين تلك الأمور التي اعتقدت أنها إيجابية، أن يتمّ إلحاقنا بالأكاديمية، أنا وموخيكا لينيز Mujica Lainez، دون أن تقع استشارتنا. لكن، تبيّن لي في ما بعد، بأني كنت على خطأ، لأن ما من علاقة بإمكانها أن تربطني بالأكاديمية. لقد كنتَ محقاً في قرارك.

ساباتو: اللغة لا يصنعها غير الشعب والأدباء الكبار، وليس أعضاء الأكاديمية.

بورخيص: ما يهمّ الأكاديمية هو متابعة عمليات النحت والتوليد اللغويين، التي تقوم بها الصحافة المكتوبة. فإذا ما حدث مثلا، أن نحتت أنا كلمة من الكلمات، فإن هذه العملية لا تلقى اهتماما يذكر من الأكاديمية. لكن، بمجرد ما أن تتلقف الجرائد تلك الكلمة، وتعيد تداولها على صفحاتها، حتى يعتبر ذلك سبقا يفرض على المؤسسة الأكاديمية بعد ذلك، القبول به.

ساباتو: لكني أعتقد بأن سؤال بارون يطرح قضية أخرى غير هذه، وهي مسألة الثورات اللغوية. لذلك، ينبغي علينا أن نحدد ماذا نعنيه بعبارة “الثورة اللغوية”. أفترض بأن الأمر لا يُختصَر في مجرد عمليات الحذف التي تطال علامات الترقيم، بما فيها النقطة والفاصلة وعلامات التعجب وغيرها من الأمور، التي يتعلّمها الطفل في المدرسة منذ حداثة عمره؛ وهي العملية التي قد تدفع بصاحبها إلى الاعتقاد بأنه اكتشف ما كان من قبل مبتذلا، منذ أبولينير Apolinaire. مثلما أنها ليست كذلك، عمليات تفكيك للمعجم ولا للتركيب. إنّ لنا في كافكا لعبرة ونموذجا: فقد استطاع بنثره التقليدي والشفاف، أن يقدّم نظرة ثورية جديدة عن الواقع.

بورخيص: أذكر إحدى التجارب التي مررت بها. ذات مرة، قرأت قصة قصيرة لكافكا، نشرتها مجلة لم أعد أذكر اسمها اليوم، وكانت تُعنى بفنّ التعبير. حينها، استغربت لنشر هيئة تحرير المجلة، نصا يكاد يكون سطحيا وفي غاية الابتذال، ضمن مجلة تعنى فقط بالغريب والمولّد. بالتأكيد، لم أنتبه إلى أن القصة كانت في كتابتها أكثر تعقيدا من بقية ذلك اللعب اللفظي، الذي نشره الآخرون إلا فيما بعد. يومها، كان لي بالطبع، خمسة عشر عاماً فقط. وأعتقد أني لن أرتكب اليوم، نفس الخطأ الذي وقعت فيه، حينئذ. لابد أني استوعبت الدرس!..

ساباتو: لهذا السبب طالبت بتوضيح ما ينبغي أن يُفهم، من عبارة “الثورة اللغوية”. إنّ عمل كافكا الأدبي كله يختصر مفهوم الثورة اللغوية. ففي عمل أدبي يتكوّن من ثلاثمائة صفحة، منح هذا للفظ “المحاكمة” معنى جديداً، غير مكرور ولا متداول ولا مبتذل. فقد ألبس الكلمة أصداء وترجيعات ميتافيزيقية ودينية لا حدّ لها، من خلال ذلك العمل الأدبي.

بورخيص: هذا صحيح. إنّ “المحاكمة” لفظة مبتذلة وسطحية، في ذاتها.

ساباتو: إن عمل الأديب باللغة أشبه ما يكون بمنجز لاعب الشطرنج الكبير: فهو يستطيع بمهارة أن يلعب مباراة متألقة، بنفس البيادق التي لا يستعملها اللاعب الرديء، سوى للعب مباراة رديئة.

بورخيص: أضف إلى ذلك، أن الموهبة الأكبر تكمن في خلق حالات ووضعيات لا تطاق. إنّ الجميع يتذكّر هذا المقطع الذي يقول فيه كافكا: “نزع الحيوان السوط من يد سيّده، وأخذ ينزل به على نفسه إلى حدّ صار معه هو السيّد، فلم يعد يدرك أنّ هذا الأمر ما هو إلا وهم، نجم عن عقدة زائدة في قطعة الجلد…”. بالتأكيد، نستطيع في نفس الوقت أن ننحت، ونولّد كلمات جديدة.

ساباتو: لكن هذا أمر طبيعي. وإلا من يقول العكس؟

بورخيص (ينشد): The hither and thitherng waters of night”مياه الليلة المتدرّجة والبعيدة”.يخلق لدينا هذا الكلام في الانجليزية، الانطباع بأننا نسمع الماء، وأن ذلك شيء جميل جدا. لكن ما أن يترجم هذا البيت، حتى يفقد معناه، ولا يعود يخلّف أي انطباع من ذلك القبيل.

ساباتو: إن القيمة الصّوتية لكلمة من الكلمات، وعلى الأخصّ في حالة الشعر الموزون، هي قيمة مبرّرة ومشروعة. إنها أشبه بنوتات الموسيقى. وقد تكون هذه هي حالة بعض القصائد غير التجسيميّة، إن صحّت تسميتها بهذه العبارة. مثلها مثل الموسيقى التي ليست تجسيميّة، ولن تكون كذلك أبداً. مثلما نجد ذلك أيضاً في بعض الحالات الأخرى الأشبه بحالة الشاعر غونغورا Góngora، مثلا. لكن هذه القيمة الصوتية في النثر مسألة خطيرة.

بورخيص: أنا لا أحبّ النثر المنمّق، بشكل عام. لكني قد أقبل بذلك، إذا كان النثر معتنى به حينها، بكيفية مستترة. إن ما أنقد أوسكار وايلد من السقوط في هذه الزخرفة المقيتة، هو بالتحديد تحكّمه في كلّ ذلك، بنوع من حسّ الدعابة.

بارون: أعتقد بخصوص هذه النظريات المُنصبّة على موضوع اللغة، بأنّ عيون المثقفين كانت عندنا موجّهة صوب جميع ما كان يردُ من فرنسا؛ وأنّ ثمة على ما أظنّ الآن، شيئاً ما قد تغيّر، لأننا صرنا نفضّل التفكير في أمريكا اللاتينية. ربّما بسبب القواسم المشتركة بيننا: مسألة القرب والجوار واللغة.

بورخيص: لكنّ هذا نفسه كان موجوداً في السابق، أي في القرن الماضي! أعتقد بأن كلاّ من أسكاسوبي Ascasubi وهيرنانديز Hernandez لم يكن ينظر، حين كتب ما كتبه، إلا صوب بلده. إنّ هذه الحكاية المتداولة اليوم، بشأن الدفاع عن الأدب المحلي، ليست تقليعة جديدة. فحين كتب إيتشيبرّيا Echeverria روايته الرديئة “الأسير La cautiva”، كان ربّما يتأمّل لأول مرّة، في روابينا الفسيحة. أنا لا أؤمن بهذا التجديد المزعوم. على كلّ، هو مستنسخ عن النزعة الطبيعية الفرنسية. ثمّ إن الأدب الجنوب الأمريكي لم يخلقه هنود البامبا Pampas بالكل، ولا التشارواس Charruas  كذلك…

بارون: ربما يتعلق الأمر اليوم، يا بورخيص، ببداية إعادة الاعتبار لأمريكا اللاتينية، من قبل أبنائها بالذات…

بورخيص: أصرّ على هذه الفكرة: لقد سبق لهذه الحركة أن كانت مهمّة، خلال القرن الماضي. أمّا الآن، فإني أراها وكأنها حصيلة سياسة عالمية. والدليل على ما أقوله كامن في هذه التسمية بالذات: أمريكا اللاتينية. فأنا أشعر بأني أرجنتيني، ولدي مشاعر عاطفية أتقاسمها مع أبناء الجمهورية الشرقية [الأوروغواي] وكولومبيا، لكن لن يتأتى لي بالكل أن أصبح من الأورغواي، ولا من كولومبيا، ولا حتى إسبانيا!

ساباتو: اسمع، يا بورخيص. نحن نعرف جيداً بأن هناك اختلافات لا يستهان بها بين البلغاري والانجليزي مثلا، لكن هذا لا يحول دون الحديث عن أوربا ككيان. والأمر سيان ضمن الجوقة الموسيقية مثلا: فالمزمار hautbois ليس له نفس النغم الذي يصدر عن المتردّدة Trombone [آلة نفخ بأنبوبين]، لكنهما يستطيعان أن يندمجا معاً في جوقة أركسترالية. لا يمكننا بالكل أن نشك في الاختلافات القائمة بين الأرجنتيني والمكسيكي، لكننا نكوّن معاً وحدة. إننا لنجد مع ذلك، لكوننا بالضبط مختلفين، عدّة سمات توحّد بيننا، منها الأصل المشترك الذي يرتهن بالغزو الاستعماري التوسّعي، ومنها اللغة، والمسار التحرّري المشترك…

بورخيص: لست أدري… نحن على الأقل، ليس لدينا لا أهالي أصليون، ولا زنوج سود.

ساباتو: لكننا تحررنا في نفس الوقت، بالأفكار والمُثل المشتركة نفسها: فكر الثورة الفرنسية. ونجد الآن أنفسنا أمام ما لا يعدّ، ولا يحصى من المشاكل المشتركة، ويتعيّن علينا إنجاز الشوط الأخير من مسار تحرّرنا المشترك، وإلا تعرّضنا للخراب والدمار.احتفظ بورخيص بصمته، وكأنه لم يصغ للجملة الأخيرة، التي تلفظ بها ساباتو.

بارون: اسمح لي أن أسألك، يا بورخيص: هل قرأت بعض الأعمال الأدبية اللاتينو ـ أمريكية؟

بورخيص: لا. أنا كرّست قراءتي منذ سنة 1955، للأدب الحديث الذي يمتد من القرن 18 إلى القرن 19، وخاصة منه الأدب الأنغلوساكسوني والاسكندنافي…يشدّد على إجابته السّاخرة، لكنّي أصرّ على سؤالي، بغية أن أنتزع منه إجابة جادّة.

بارون: ألا يحضر بذهنك اسم من أسماء الكتّاب المعاصرين، الذين ينتمون إلى هذا الجزء من العالم، يا بورخيص؟

بورخيص (جادّاً): بلى. هناك إيتشبارني Echebarne، وهو شاعر كبير. وهناك أموريم Amorim.لم أتمالك نفسي، فابتسمت.

ساباتو: بارون يريد أن يسألك عن معرفتك لأي روائي من روائيي أمريكا اللاتينية المشهورين، اليوم.

بورخيص: لا، والله. أنا في هذه النقطة، أتمسك بجهلي الذريع! إلا أني أعرف منذ مدّة طويلة، بأني جاهل. فقد وددت أن أحيط بمفاهيم من الكيمياء، وحاولت تعلّم القليل من الفيزياء. لقد أحببت أن أعرف، وسأموت من غير أن أعرف ما ظللت أتشوق إلى الإحاطة به: أن أعرف مثلاً ما السيارة؟ وما الدرّاجة؟،،، الخ. ألا ما أغرب هذا! أحيانا، أتساءل: كيف أستطيع أن أدرك ما الكون، أو ما الزمن، وأنا لا أعرف حتى ما الدراجة؟! ربّما توصّلت أنا إلى معرفة من أكون، في حين أمكن للآخرين أن يتوصّلوا إلى معرفة أشياء، لن أحيط أنا بها أبداً.

ساباتو: أنت تتحدث عن الكون بمعناه الشمولي والمجرّد، لكن الكون الحقيقي شامل وكلّي، وهو يشبه ما رأيتَه وصغته في مؤلفك: ألف Aleph؛ إنه كون يضمّ السّاعات الكبيرة، والدرّاجات الهوائيّة، والكُتّاب اللاتينو ـ أمريكيين أيضا. إنّ عالمك ـ مثل عالمي ـ هشّ وعابر.جاء أحدهم يبحث عن بورخيص.إنّ العالم الذي تتحكّم فيه الساعات والعادات، قد قطع علينا حبل الحديث، مرّة أخرى.رأيتهما ينهضان، ويخرجان عبر الممشى.فوق المنضدة، بقيت الكؤوس فارغة، والمرمدة البرونزية التي لم يستعملها أي أحد منّا.وعلى حين غرّة، انتبهت إلى جزئية جديدة، لم أدركها من قبل: لا بورخيص يدخن، ولا ساباتو! أمّا النار التي رأيتها، فكانت شيئاً آخر.

15 فبراير/شباط 1975

حين التأم جمعنا مجددا هذه المرّة، بدا وكأنّ الزمن الذي انقضى على لقائنا الأخير (ما يربو قليلاً عن شهر)، قد كبح اندفاعتهما، أو ربّما حصل هذا بفعل الاحتداد الطارئ، الذي ترتب عن الحوار الأخير، بسبب التورّط السياسي الذي رافق بعض التصريحات. أو ربّما لم يكن الأمر يتعلّق سوى بمسألة المشاعر الممسوسة: لاشكّ أنّ العصاب الذي يستحوذ عليّ، يجعلني أخرّف.ومع ذلك، لاحظت دخولاً في الحوار لا يحيد عن الرّسميات، ويدنو قليلا من عتبة الحشمة والتكتّم. لم يعد ذلك الحوار المتدفق ـ بحماسه واندفاعه السابقين ـ الذي تعوّدت عليه. لقد أخذت تهيمن عليه لحظات من الصمت، التي تبدو أشبه ما تكون بهوات سحقية.حرارة شديدة تستبدّ بالجوّ، لكنهما ـ للحظّ السعيد! ـ لم يتحدثا عن الطقس.شعرت بأنّ علي القيام بشيء ما، وعدم الاكتفاء بمجرد ملاحظة المشهد الماثل أمامي، غير أني لم أكن أعرف ما الذي ينبغي القيام به. اعتقدت بأن بورخيص هو من كان حزينا، لكني سرعان ما وجدت بأنّ ساباتو كان بدوره، شديد الهمّ. وحتى أملأ الفضاء بشيء يذوّب الصمت، أخبرتهما بأني قمت بمراجعة الحوارات، بصوت ظلّ يتردّد بخجل في أرجاء الغرفة. ثمّ سمحت لنفسي بعد ذلك، بإرسال فكرة ساخرة لم تسلّ أياً منهما. شعرت بأني سأتيه وسط هذه الأجواء، إذا لم يسعفني أي أحد منهما، أو إذا لم يدخلا سوية في الحديث، فورا.لم يكن يسمع في الغرفة سوى صدى الكؤوس وهي توضع على المائدة، وهدير السيارات وهي تخترق جادّة ماييبو.حاولت أن أعزّي النفس بالقول في دخيلتي، بأننا نمرّ جميعا من تأثير نهارات كاحلة، وأن هذا اليوم هو من دون شك، واحد من تلك النهارات.ربّما شعر ساباتو بنفس ما شعرت به، فتوجّه بالكلام إلى بورخيص، وهو يخرج من جيبه ورقة.حينها، تنفّست الصعداء.

ساباتو: اسمع إلى ما استنسخته من مجلة “الرّوح المنشِدَة”، ذات يوم:     في نظري،      نحن، مادحي المحبوب،هم أولئك الذين يعرفون كيف يستخلصون من أدمغتهم،جوهر العالم.ينتهي ساباتو ضاحكا، فيشرع بورخيص هو الآخر في الابتسام.

بورخيص: إنهم يعترفون بمحدوديتهم. وهذه صفة الصدق مع الذات.ساهمت هذه المزحة في تلطيف الأجواء، لكن الصمت بقي مع ذلك مخيما عليهما، وكأنهما معاً قد عادا للتحصّن، كلّ في خندقه.سعيت جاهداً إلى البحث عن موضوع مناسب، فقرّرت حينئذ أن أذكرهما بالطفولة: طفولتهما.قلت بأن بورخيص وساباتو بدآ معاً حياتهما، بنفس الطريقة: كلاهما عاش كطفل حبيس في البيت، ولم يكن مثل بقية الآخرين: الأطفال الذين يملأون الشارع.حرّك بورخيص يديه ورأسه في حركات تمهيدية، وكأنه يتدرّب على ما سيقوله عن نفسه، في ما بعد.     وشيئاً فشيئاً، شرعنا بالكاد نسمع صوته، الذي كان مجرد خيط أكوستيكي دقيق.

بورخيص: أنا، حين بدأت أرى، شرعت أتوقف سلفاً عن الرؤية. لم أكن قطّ طفلاً منذوراً للشارع. لقد صرت كاتباً، بدوافع خِلقيّة في جسدي، وبقرار من والدي الذي أفهمني بأنّ علي أن أصير الكاتب، الذي لم يستطع أن يكونه.

ساباتو: وكأنّ قدرك ككاتب قد تحدّد من قبل، من زمن بعيد.

بورخيص: أجل، ذلك ما قاله لي والدي. كنّا نستفيد من وضع اقتصادي مريح جدّاً، فشرح لي بأنّه يودّ لو يجعل منّي كاتبا؛ فطلب مني أن أقرأ وأكتب كثيراً، حتى أصل إلى تحقيق ذلك، وأن لا أتوانى خاصة في تمزيق الكثير مما أكتبه، وعدم استعجال النشر. كما طلب مني أيضا، ألا أطلعه على كتابتي، لأنه لا يرغب في التأثير علي. كان يؤمن باستحالة تربية شخص تربية تكون نتائجها محسوبة سلفا. وأعتقد أنه كان مخطئاً في هذا. إنّ ثمة مبدأ تعليمياً إنجليزياً يقول: »You must make your own mistakes«. [عليك أن ترتكب أخطاءك بنفسك]. وبذلك، منحني والدي حين انتهيت من تأليف كتاب، لم يبد لي جديرا بالنشر كلية، المال اللازم لأدفع به إلى المطبعة. حينها، كنت أريد منه أن يقرأ الكتاب، فأهديته نسخة، لكنه لم يقدّم لي أي تعليق بشأنه. ومع مرور الوقت، اكتشفت بأن تلك النسخة التي ظلّ والدي يحتفظ بها، كانت مليئة بالتعديلات والتنقيحات، وأنّ بها صفحات كاملة مشُطّب عليها. وبذلك، استفدت من تلك التوجيهات، حين نشرت مجموع أعمالي، بتنقيح النصوص بناء على نموذج التعديلات الذي خلفه والدي على تلك النسخة. فسرت بهذا على هدي من تعليماته، التي تفترض مني مثلاً أن أحذف الكلمات القديمة والمهجورة.

ساباتو: وما الموقف الأدبي الذي كان يميّز والدك؟

بورخيص: أذكر مثلاً أنه لم يكن يحبّ، من بين المؤلفات الأدبية الكبرى، كتاب دون كيشوط. ربّما بسبب استعمال سيرفانتيس للألفاظ المهجورة.

ساباتو: ذكرت ذات يوم، بأنّ والدك كان متحمّساً لسبينسر Spencer. فهل هو وضعيّ، إذن؟بورخيص: كان بالأحرى غنوصيا. لم يكن وضعيّاً بالمعنى الذي حدّده خوصيه إنخينييروس José Ingenieros. أريد أن أقول بأنه ما دام يشك في كل شيء، فإنه لم يكن بشكل جوهري يؤمن بما يراه الآخرون حقيقة. فقد كان أستاذاً لعلم النّفس، لكنه تنكّر لذلك. وصار محاميا، لكنه ظلّ يردّد بأن ما من علاقة ثمة أبدا، بين القوانين والعدالة. لقد كانت لي معه اختلافات أخرى على مستوى الذوق الأدبي: فأنا مثلاً أحببت ديكنز كثيراً، لكنه هو لم يكن يحبّه. ويبدو لي أن المُزَح التي يعمد ديكنز إليها، كانت تزعجه. بينما كان بيوتلر Butler في المقابل، يثير إعجابه. ثمّ إنه لم يكن حساساً حُيال الهزل، الذي يستخدمه مارك توين.

ساباتو: لقد كان فوضيا نوعاً ما، بناء على معطيات سابقة كنت قد قرأتها عنك. فهل تذكر تلك الجملة التي يقول فيها مونطين Montaigne: :يجزل عليّ الأمراء العطاء الكثير، حين لا ينزعون منّي شيئاً، ويحسنون إليّ بالقدر الكافي، حين لا يلحقني منهم الأذى”؟ هذا ربّما ما كان يلخّص وجهة نظر والدك.

بورخيص: لكم هي رائعة هذه العبارة! كلامك صحيح.

بارون: وأنت، يا ساباتو؟

ساباتو: كنت الطفل ما قبل الأخير، في أسرة تتكوّن من أحد عشر طفلا. ولأسباب غير تلك التي منعتك من الاحتكاك بالشارع، أنت يا بورخيص، قضيت أنا طفولتي شبه منزو. وبمقدوري أن أزعم بأننا، نحن الطفلين الأخيرين في الأسرة، كنّا نرى العالم تقريباً من خلال زجاج النافذة، ونحن مقيدان بحبل تمسك به أمّي، هذه المرأة التي كانت خارقة وذكية بشكل كبير.

بورخيص: هل كنتم تعيشون في بوينس إيريس؟

ساباتو: لا، في روخاس. منطقة عتيقة جدّاً، كان جدّك قد زارها، بلا شك.

بورخيص (موافقاً بهزّة من رأسه): أجل، بالتأكيد، بالتأكيد.

ساباتو: دفعني ذلك الانزواء، إلى جانب خجلي، لأنغمس في القراءة. كنت ألتهم كل شيء، ولم يكن هناك أي أحد من شأنه أن يوجّهني إلى ما ينبغي أن أقرأه، رغم أن هناك محظورات لا يتعين علينا قراءتها: فقصص تيت بيتس Tit-Bits المرسومة مثلا، كانت ممنوعة علينا. كما أني لم أتمكن من قراءة أليكساندر دوما A. Dumas أبدا. وقد بقي لي من هذه المحظورات، أو الفجوات غير المشبعة، حنينٌ لا يُقهر، إلى حدّ أنه لم يتبق لي عمليا أي اختيار آخر، فقررت أن أصير كاتباً، أنا بالذات. وفي تلك المرحلة من العمر، كنت آخذ من المكتبة على العكس مما مضى، كتبا أثرت علي كثيرا بشكل سيء، من قبيل مؤلفات إميل زولا.

بورخيص: كان لدينا نحن كتاب ألف ليلة وليلة بترجمتين: الأولى قام بها بيورتون Burton، والثانية لاين Lane، وهي منقحة ومهذبة. وكان والدي يترك لي حرية قراءتهما معا. لقد كنت أقرأهما بنوع من البراءة، لأنّ ما كان يهمّني هو الحديث عن السحر، وليس شيئاً آخر مما تبقى.عمّ صمت جديد، بيد أن الأجواء صارت الآن، دافئة أكثر. وفي اللحظة التي كانت فيها فناجين القهوة توضع أمامنا، حكى لنا سالباتو واقعة طريفة حصلت معه، ومع كسول سولار.

 

بورخيص: يحذوني الانطباع بأنه كان وماسيدونيو Macedonio عبقرييْن، ليس باعتبارهما كاتبين، ولكن لكونهما إنسانيْن. ذات يوم، أردنا أن نجعلهما يلتقيان ببعضهما، فلم يتفاهما بشأن ذلك، لأنّ كلّ واحد منهما كان يعيش في عالمه الخاص. أذكر أنّ ماسيدونيو قال لي: “إن كسول يستحق الكثير من الاحترام، والكثير من الشفقة”. كما أعطى كسول من جهته تعريفاً مقتضباً جدّا كذلك، يلخص فيه من يكون ماسيدونيو بالنسبة إليه، قال فيه إنه فعل فيه فعلَ مولّد أبيض، من بين بقية الكثير من المولّدين البيض الآخرين.

ساباتو: ليس هذا التعريف مقتضباً فقط، وإنما هو حاطّ ومُحقّر. أليس كذلك؟

بورخيص: صحيح أنّ لماسيديون الكثير من الأحكام المسبقة ذات الطابع التقليداني. ففي يوم من الأيام، صدرت لأونامونو Unamuno مقالة، كان قد شارك بها في مجلة: وجوه وأقنعة Caras y caretas. وبينما كنّا في خضم التعليق عليها، ونحن مجتمعون، دخل علينا ماسيدونيو وقال: “أرأيت يا تشي che؟! حتى الغاليسيون صاروا أذكياء، بعد أن علموا بأن هناك من يقرأ لهم في بوينس إيريس!”. وكان ـ على كل ـ يملك موهبة صياغة استعارات طريفة جدّاً، مثل التي سمعته يصيغها ذات يوم، حين قال: في عالم تباع فيه اللذات، معروضة في الجناح المخصّص للّعَب، لا يمكن للآلام أن تجد لها محلاً للعرض، في جناح آلات الحديد.

ساباتو: كان كسول منفتحاً على العالم بشكل كبير، ويحيط علماً بثقافة واسعة. أنا لم أتعرف عليه إلا في وقت متأخر. يعطيني الانطباع بأنّه مسكون بفرح عارم للحياة. كان يشعّ من حوله جوّاً من الود والمحبة، ويمرح بألاعيبه ولقاه، وكأنه مجنون. وكان بالنسبة إلي صديقاً كبيرا.بورخيص: لقد كان فلكيا.

ساباتو: أي، نعم! (متحدثاً إلي): فلكي رواية ماريشال Marechal الشامخة.

بورخيص (وقد بدا وكأنه لم يسمع الاسم، الذي ذكره ساباتو): أجل، كان فلكيا، لكنه مطلع اطلاعا واسعا على أمور أخرى كثيرة. فأنا ما زلت أذكر حوارا، أو ربّما اثنين ، دارا بينه وبين أمادو أولونسو Amado Alonso وهنريكيز أورينا Henriquez Urena، حول الفيلولوجيا. لقد أدركنا بسرعة وجيزة، بأن الرجل كان يحيط بالموضوع الفيلولوجي، إحاطة أكبر مما يحيط به غريماه.

ساباتو: وكان خفيف الظل، بشكل كبير. ما زلت أحتفظ في ذاكرتي بالعديد من اختلاقاته اللغوية: فهو القائل على سبيل المثال، بأن استعمال النبر في مواقع معينة من الكلمة، كفيل بتبديل دلالتها. فلفظة “برووفيسور” التي يقع النبر فيها على الواو مثلا، هي طريقة ساخرة للإشارة إلى رداءة الأستاذ!

بورخيص: أجل، هي طريقة أشبه ما تكون بالمرآة التي تعكس الصورة بشكل مشوّه.ظل الجمع على امتداد فترة طويلة، يسترجع طرائف كسول المثيرة للضحك. وذكر بورخيص في معرض ذلك التذكّر، بأنّ ألاعيب كسول تخضع لديه لمبدأ التطوّر، إذ كلما انخرط المرء معه في لعبة ما، إلا واختلق هو قواعد جديدة لتطويرها. ثم تذكر ساباتو لعبة من ألاعيب البانشطرنج pantéchecs الخاصة به، وهي لعبة جمعت بينه وبين ساباتو والدكتور بيتا فينزي Vita Fenzi (مترجم بورخيص الأول إلى اللغة الإيطالية، ومترجم روايتي ساباتو). وكانت رقعة البانشطرنج التي تضمّ رقعتها اثنتي عشرة خانة، معقدة جدا وتتطلب من لاعبيْها الالتزام بتوجيهات كسول، التي تكون أحيانا ملتبسة، إلى حدّ النقلة الثالثة التي يتعين فيها على اللعب، بعد أن يبلغها، أن لا يتوقف بالكل أو ينقطع، بالنظر إلى تعقد الوضعية التي تصير معها اللعبة. وكانت القطع متعدّدة ومتنوعة وذات خصائص غريبة: فالفرس الذي يتغلب على الفيل، يكتسب بشكل تلقائي خاصيات القطعة المغلوبة، فيمتلك بذلك تأثيراً تدميرياً كبيراً وغير متوقع.

ساباتو: وكنت كذلك على معرفة بدابوب Davobe، الذي كان هو الآخر شخصية عجيبة وغريبة. أليس كذلك؟

بورخيص: كان ثمّة شقيقان اثنان بهذا الاسم، يقع كل منهما على طرف نقيض للآخر: خوليو سيزار وسانتياغو. وكانا معا يعتقدان، أو يزعمان بالأحرى بأن منطقة مارون Marón مكان شديد الغرابة. لقد كان مارك تواين Twain يقول بأن لا أحد في استطاعته إثارة دهشته في العالم بأسره، لأنه ظلّ يعيش في الميسيسيبي. وصار الأخوان دابوب يردّدان نفس الشيء، بالنسبة لمنطقة مارون. لكن يبدو لي بالطبع، بأن هناك في الميسيسيبي الكثير من الناس؛ أليس كذلك؟ وكان سانتياغو دابوب يعجب ببعض الكُتّاب النادرين ربما، من قبيل إدغار ألان بو وسيرفانتيس وموبّسان… إلا أنه لم يكن في العمق، يؤمن بالكتابة إيمانا كبيرا. لكنه قال ذات يوم، بأنه قد لا يجد كبير عنث في كتابة رواية شامخة، بالنظر لكونه يعيش في مارون، حيث المرء يصادف جميع أصناف البشر.

ساباتو: هذه ليست فكرة خاطئة، إذ من شأن منطقة مارون، وهي عالم صغير في حدّ ذاته، أن تساهم في خلق رواية شامخة. ثمّ ليست هناك موضوعات صغرى ولا كبرى، وإنّما هناك كُتّابٌ كبار أو صغار. لقد رسم سيزان Cézanne تفاحة، فجعل مما رسمه تحفة تستحقّ الذكْر. وقد يرسم أحدهم لحظة صلب المسيح، فينتهي إلى إنجاز لوحة رديئة. إنّ بمقدور هذه المائدة الماثلة الآن أمامنا، أن تكون بحسب منظور الفنّان الذي ينظر إليها، من أعظم الأشياء المدهشة في العالم. بالنسبة للبعض، هذه المائدة قد لا تكون شيئاً يذكر، بينما بإمكانها أن تنطوي بالنسبة للبعض الآخر، كبيركلي Berkeley مثلا، على ما يستلزم طرح أسئلة كبرى على الواقع بأسره. من المؤكّد أن ثمّة الكثير من الناس الذين لا يتصوّرون أنفسهم قادرين على الكتابة، دون الطواف حول العالم. لكن في زمن هوميروس لم تكن هناك طائرات، ثمّ إن الناس لم تكن يستطيع السّفر إلى أقصى المناطق الممكنة، بعربات تقليدية. إنّ كافكا لم يخرج تقريباً من براغ، كما أنه لم يكن سوى مستخدم بسيط.

بارون: بالفعل، إنّ رواية المغامرات لا يكتبها المغامر بالضرورة.

ساباتو: إنّ الفنّ دائماً هو على وجه التقريب فعل معاند ومعاكس، إذ يمكن لسجين ما أن يحظى بنصيب وافر من الخيال، يفوق خيال من يكون بمستطاعه أن يذرع أرجاء المعمور كاملة، طولاً وعرضاً، وهو حرّ طليق.

بورخيص: أتذكّر حالة أحد الهولنديين العبثيّة، وقد قدم إلى هنا ليكتب مثلما قال، رواية يدرور موضوعها حول ساكنة الباتاغوني Patagonie، وخاصّة منهم المنحدرين من بلاد الغال. بالله عليك، كيف استطاع هذا أن يعلم مسبقاً، بأنّ هؤلاء سيشدّون اهتمامه؟! كان من الممكن أن يثير جيرانه في الفندق اهتمامه، أكثر مما يستطيعه هؤلاء الغاليين، الذين يسكنون الباتاغوني! لكنه تشبث برأيه، وأصرّ على السّفر، محدّداً لنفسه ذلك الهدف.ذكر ساباتو شيئاً لم أستطع تمييزه بوضوح، فانبعث صوت بورخيص ثانية، من خلف التسجيلات.

بورخيص: لكن هذا نفسه يحدث في الصّداقة. لديّ شخصياً خمسة أو ستة أصدقاء حميميين. نحن لا نتفق أبداً حول اليوم، الذي رأينا فيه بعضنا البعض لأول مرة، وإنما نكتفي بتكوين نظرة عامة عنه، وحسب. لذلك، حسمت الأمر مع ماستروناردي Mastronardi إذن، بأن تراهنّا بيننا عن طريق قطعة نقدية. ونفس الشيء حصل لي مع بيوي: أنا أعرف بأنّا تعارفنا لدى بيكتوريا أوكامبو Victoria Ocampo، لكنّه يتمسّك بإنكار ذلك. وما كان منّا سوى أن حسمنا الأمر بيننا مرّة أخرى، بقطعة نقدية. (يضحكان). غالبا ما يكون الانطباع الذي يخلّفه فيك الأشخاص، الذين سيلعبون دورا هامّاً في حياتك، انطباعا مشوّشاً بما يكفي. بعد ذلك، تتطوّر العلاقة، فتتلاشى ذكريات اللحظة الأولى، شيئاً فشيئاً. حين نبوح بهذا لامرأة ما، يغيظها الأمر. إنّ النساء عادة ما ينتظرن منّا، نحن الرجال، أن نقول لهنّ إنّ ذكرى اللقاء الأول، لا يمكن لها أبدا أن تُنسى!

ساباتو: من المؤكّد أنّ الحاضر ما يفتأ أن يعدّل ذكريات الماضي. خذ عندك مثلا، بداية كهذه لإحدى الروايات: “كان ألكسي كارامازوف الابن الثالث لملاّك عقارات معروف في منطقتنا”. هذه الجملة قد لا تعني شيئاً كثيراً في ذاتها، لكنّها ستكتسب بُعداً هائلاً، كلما أحطنا بجموع الأحداث التي يتضمنها المؤلف.يتوقف الحديث فجأة، ليستأنفه بورخيص الذي مكث أثناء تلك اللحظات، مُطْرقاً يتأمّل. قال بأن لا كيبيدو Quevedo ولا غونكورا Góngora كانا يعترفان بقيمة سيرفانتيس، بينما عدّل زمننا الراهن من سُلّم تلك القيم، التي كان ذانك الأديبان يعتمدانها.

ساباتو: ألا تعتقد يا بورخيص، بأنّ الذي لعب دوره في هذه الحالة، ليس هو الأحكام الخاطئة التي من الممكن أن يسقط فيها المرء، بقدر ما هو الغلّ والتحامل المشينان؟ فقد كان هذان غير قادرين على رؤية بعضهما البعض، ولا الالتقاء فيما بينهما. كان لوبّي Lope يُسمّي اللّكْمة، وهو يحاكي في ذلك غونكورا، بكيفية ساخرة: “تأكيد قبضة المعاكس بسلام، من غضوب رائع!”. (ضحك). كانا لا يريان لدى الآخرين غير النقائص، بدل الفضائل. تذكّر مجموع تلك الأبيات التي لا تنسى من غونكورا، التي يقول في بعضها: “الحصان السّريع الذي لُفّ، وهو محلّق، بأشرعة الغُمْرة الحارقة، والنّار المخمليّة”.

بورخيص: ذلك، لأنّ كل شيء لدى غونكورا، يستند إلى العاطفة والوجدان. أمّا الاعتراف بالإبداع، فـ… كان برنارد شو مثلاً، يقول عن أونييل O,Neill: “إنّ الميزة الوحيدة التي تُحسَب له، هي التنويعات المستحدثة التي أضافها، إلا أنها حتى هي في النهاية، ممجوجة ومستكرهة”. في حين أنّ أموراً كثيرة ظلّت تحسب لأونييل. فحين قرأت مسرحيته التي تحمل عنوان: الاله براون الكبير، اعتبرت أن هذا القناع بمثابة استعارة تافهة. لكني بكيت، لما رأيت المسرحية أمامي، مشخّصة على الرّكح. إنّ ما أودّ الإشارة إليه من خلال هذا، هو أن العمل المسرحي لا يعدّ لأن يقرأ، بقدر ما هو معدّ ليمسرح.

ساباتو: بالتأكيد. ثمّ إنّ أونييل كان أشد حساسية من برنارد شو.

بورخيص: مع هذا الأخير، عشت تجربة معكوسة: حين قرأت مسرحياته، اندهشت لها، وتأثرت. لكن، حين شاهدتها على الخشبة، بقيت جامدا. في حين أن ذلك المشهد، الذي يموت فيه براون في مسرحية أونييل، ويسقط عن وجهه القناع، ثم يدخل أصدقاءه، وينحنون إلى أن يلمسوا الأرض، ليحملوه بصعوبة كبيرة، ويأخذوه معهم؛ فقد بقي بذاكرتي موشوما. بالتأكيد، حكاية هذا المشهد أمر تافه، لكن رؤيته فوق ركح المسرح أمر يجعلك تشعر بأحاسيس عميقة.

ساباتو: صحيح. فالمسرح ما وُجِد إلا للمشاهدة لا للقراءة. إنّ لكلّ فنّ حدوده وإمكاناته. أنا مثلا لا أستطيع أن أحكي لأي كان، موضوع السيمفونية الرابعة لبرامس Brahms، وإنما ينبغي لهذه المعزوفة الفريدة أن تُسمع. وأؤكّد في هذا السياق، بأنّي أجد أن من الكارثي وضع الموسيقيين الكبار “رهن إشارة الجميع”، كما لو كنّا نستطيع أن نلخّص ونختزل مؤلّف ميلفيل Melville، بنشره على شكل نُتف صغيرة، ضمن سلسلة جماهيرية تعرف باسم: Reader,s Digest.ضحكنا جميعا، فأضاف كلّ منّا نصيبه إلى مزحة الآخر، حتى مالتْ المحادثة في اتجاه موضوع اللغة، فذُكِر حينها اسم كسول سولار من جديد، وكان السّبب هذه المرّة هو عادة هذا الأخير، في حذف لواحق الكلمات.

بورخيص: ذات يوم، دخل كسول على بيكتوريا، فأعلن بنبرة جادّة: “لقد ماتت اللواحق”. ثمّ أضاف: “صار بالامكان أن نقول الآن، إنّ ذلك هو ضربٌ كلٌّ [بدل: كلّيٌّ] من الجنون!”. بعدما حمي الحوار، وانفتح على مجموعة كبيرة من المواضيع، توقف الأديبان للحظة على موضوع اللغة، وما لها من أفضال ونواقص. قال ساباتو إنّ لكلّ لغة عيوبها وحسناتها، وأن هذه الفكرة التي كان البعض يتداولها بشأن عظمة لغة ما وغناها الشديد ودقتها المثالية في التعبير، لا تعدو أن تكون ضرباً من العبث: فقد ولّى ذلك الوقت الذي كنّا نسمع فيه الفرنسيين يتباهون بدقّة لغتهم في التعبير، إلى حدّ أنّ فولتير Voltaire تجرأ، فعرّف عبقرية اللغة الفرنسية بأنها تلك الكفاءة، التي تجعل هذا اللسان قادرا على قول ما تعبر عنه بقية الألسن الأخرى بصعوبة شديدة وعنت، تعبيرا مختصرا ومنسجما للغاية.

ساباتو: خذ مثلا عبارة Qu,est ce que c,est que ça، التي ينبغي كلما أردنا أن نترجمها حرْفيا إلى لغتنا، إلا وقلنا: Qué es eso que eso es qué eso؛ بينما يمكن لنا بلسان متخلف كلغتنا ـ بحسب تصنيف فولتير! ـ أن نعبّر عن ذلك بقولنا: qué es eso [ما هذا؟]. (ضحك). والحال، أنه ليس ثمة لغات منطقية ودقيقة أكثر من الأخرى. كلّ اللغات شاذة، إنما كل ما هناك أن شذوذها يصبح غير مثير للانتباه، بالنسبة للذين يتعلمونها منذ نعومة أظفارهم. بالتأكيد، نحن نميّز في لغتنا بين فعل ser (الوجود الحاصل بالطبيعة)، وبين estar (الوجود المحتمل الحدوث)، لكني لا أرى في هذا الأمر مدعاة للتباهي والتفاخر: إنّ هناك آدابا إنسانية كبرى مثل الآداب الانجليزية والفرنسية، التي نجحت بشكل من الأشكال في التعبير عن نفسها، بتجاوز هذه المصادفة السعيدة التي تملكها لغاتها الأصلية.

بورخيص: لكن هذه ميزة من بين ميزات أخرى، تختصّ بها الاسبانية. إننا نردد في لغتنا هذه العبارة: ” نحن وحيدون seulets”، ومعناها أننا نعيش عزلة يفعمها الحنان. غير أن للانجليزية خصائص أخرى إيجابية لا تملكها لغتنا، لأنّي أحسّ وكأنّ هذه اللغة لسان أكثر حسّية مما هي عليه الحال بالنسبة للاسبانية. خذ عندك مثلا، هذه العبارة: He fell down and picked him self up [هوى على الأرض، ثم وقف على قدميه]. أو هذه أيضا: Shake him off [رُجّه رجّاً حتى يخلّصك منه]. إنّ هذا لحسّي!

ساباتو: وهي كذلك مرنة أكثر مما هي عليه الألمانية، حتى ولو كانت تنحدر من أصل جرماني. هناك الكثير من الحروف والظروف التي تجعلك تحسّ بأنّها لغة تعتمد بشكل كبير على الشق التحليلي. فالشعور الذي اعتراني، عندما تعلمت منها القليل، جعلني أحسّ وكأنهم يلبسونني قميص المجانين، بشكل قسري! تبدو لي اللغات ذات الطابع التحليلي من أكثر اللغات مرونة. لكني لست على دراية كبيرة بهذا كله، والشيء الوحيد الذي أجدني متأكدا منه، هو أن جميع الناس يدبّرون أمورهم بكيفية جيّدة للغاية، بلغتهم الأم، وأنّ بمقدور هذه اللغة أن تخلق أكبر الآداب وأبرعها في العالم قاطبة. إنّ كلّ شعب من الشعوب لقادر على خلق ما هو بحاجة إليه. لذلك تحديداً، هناك كلمات خاصة لدى سكّان أفريقيا، تميّز كل قائمة من قوائم الحيوانات، لأنّ لهذه أهمية حيوية كبيرة في المجال الذي تعيش فيه هذه السّاكنة.

بورخيص: أعتقد بأن هناك في العربية، ما بين أربعمائة أو خمسمائة مفردة من الألفاظ المتداولة، التي تدلّ على الجمل. في حين، لا يمكن بالتأكيد أن توجد في الإنجليزية، سوى لفظة واحدة تدلّ على ذلك.

ساباتو: هذا طبيعي، فلفظ جمل بالنسبة للانجليزي، هي علامة لسانية لا تدلّ إلا على معنى مجرد. ولا شكّ أنّ الأعرابي سيشْدَه كثيراً لا محالة، حين يجد وهو في أوروبا، مئات المفردات التي تشير إلى السيارة. إنّ من باب العبث أن يتشدّق المرء بغنى هذه اللغة أو زخمها، مقارنة مع لغة أخرى. مثلما من العبث كذلك، أن يتصدّى المرء للدفاع عن أن السيارة أفضل بكثير من الجمل. ولهذا بالضبط، فإن الترجمة هي في غاية الصعوبة.

بورخيص: أضف إلى ذلك أن الكلمات تكون لها في البداية، مجموعة من المعاني التي سرعان ما تخضع إلى التغيير والتحوير شيئاً فشيئاً، بفعل توالي الزمن وتعدد الاستعمال. فقد اكتشفت مثلا بأن لكلمتي Blanco في الاسبانية و Black في الانجليزية، نفس الأصل الدلالي. فقد كانت Black تشير إلى معنى “انعدام اللون”، وكذلك كانت تعني لفظة Blanco.ساباتو: كانت ثياب الحداد دائما بالأبيض، إلى أن صار الناس في إسبانيا، على ما أظن، يرتدون الأسود بقصر فيليب الثاني. وهذا من شأنه أن يثبت ما أشرت إليه، بخصوص الأصل الدلالي للفظتي Blanco و Black.بورخيص (وهو يوافقه الرأي): أجل، لأنّ لفظة Black كانت في الأصل تدلّ، سواء ضمن الانجليزية أو الألمانية، على معنى “انعدام اللون”. كما كانت تستعمل هذه اللفظة كذلك، للدلالة على المكان الخلاء، المكان المتروك لعصف الرّيح: أي القفر المقفر؛ وهذا ما يثبت إشارتك السّابقة بشأن الحداد…

ساباتو: هي بالتأكيد، فكرة الموت التي ترتبط بإبطال العمل بالألوان الدّالة على الحياة. إن إبطال الواقع هو إبطال لألوانه. ومن ثم، ينبغي للأبيض كما للأسود إذن، أن يدلاّ على الحداد، أي على اللاحياة.

بورخيص (مبتسما): أليس هذا ما كان يتعين عليك أن تشارك به في أكاديمية الآداب الأرجنتينية؟

ساباتو (بسخرية): نحن جميعا نشارك في هذه المؤسسة، بهدم اللغة وإعادة بنائها.تسمَع عدّة أصوات متداخلة: صوت بورخيص وساباتو وصوتي، أنا أيضا؛ لأنّ المحاورة انتعشت كثيرا، ومنحت الجميع فرصة للاستمتاع والمشاركة المرحة. ولم أستطع أن أميّز بدقّة، من منهما ردّد كلمة “واقع”، لكني استطعت أن أتعرّف على صوت بورخيص، يقول بعد ذلك:

بورخيص: لكن، بما أن كل شيء هو حصيلة الواقع، فمن العبث أن نفترض بأنّ وجود شخص يقوم بمهمة كتابة الدّولة بالنيابة، هو أقوى واقعية من أي رؤيا، أو حلم… ثمّ إن هذا القائم بهذه المهمة سرعان ما قد يتعرّض للإقالة!… (ضحك). لقد سبق لي أن قلت كثيراً في عدّة مناسبات، أنا بالذات، بأنّ علينا أن نطرح السؤال حول ما إذا الكون ينتمي إلى الأدب الواقعي، أم إلى الأدب الفانطاستيكي.

ساباتو: هو ينتمي بلا أدنى شك، إلى الأدب الفانطستيكي. ثم، أثمّة ما هو أشدّ فانطستيكية من الكون؟ وهل ثمّة ما هو أشدّ فانطستيكية كذلك من الإنسان، الذي يحظى بعينين تقعان تحت الجبين، عوض عين واحدة؟!

بورخيص: حينما كنتُ صغيراً، كان يحيرني أمر الصّبيان حديثي العهد بالولادة، وكيف لا يفزعون من النساء. لأنّ الحلول بين أرجاء عالم يملأه بشر ذوو رؤوس، تضمها عينيين وفماً، من شأنه أن يملأ الصّدور الصغيرة بالفزع. (ضحك). وهذا ما يؤكّد على بلاهة الأطفال، الذين لا يخشون الكون المحيط بهم، في حين أن عليهم أن يفزعوا.

ساباتو: لأنهم يتعوّدون على ذلك، وبسرعة. من المحتمل أنهم قد يشعرون ببعض الخوف في الشهور الأولى، حين لا يعرفون كيف يعبّرون عن ذلك. ثم ينتهون شيئا فشيئاً إلى التعوّد على الأمر. إنّ الطّبْع هي التعوّد. من دون شك، أنّ إنسانا برأس كلب قد يزرع في قلوبنا، فزعاً شديدا. ومع ذلك، أي عيب ثمة في أن يكون للإنسان ـ إذا تحدثنا فلسفيا ـ رأس كلب، عوض هذا الرأس كما هو الآن؟ إنّ ما أريد أن أنصّ عليه هو أنّ من شأن تفاصيل صغيرة جدّاً، أن تستثير في قلوبنا الفزع والهلع. تخيّل معي مثلاً، أني اكتشفت ذات يوم، بأنّ صديقي (س) الذي تعوّد دائما أن يخفي سبابته عن نظراتي، ما اضطر إلى فعل ذلك إلا لأنّ برأس أصبعه عينا!… أعتقد بأنّ الأمر الذي يدرك بالكاد، يصبح أدعى للخوف ربّما وللفزع، كلما اكتشف، وأميط عنه اللثام. في اليوم السابق، شاهدت على التلفزيون شريطا من تلك الأشرطة العديدة، التي اقتبست عن رواية: حالة الدكتور جيكيل والسيد هايدي الغريبة Docteur Jekyll et Mr Hyde. وما هي إلا لحظات، حتى أطفأت الجهاز، وتوقفت عن المتابعة، لأني كنت أرغب في مشاهدة فيلم من أفلام الرعب، بينما جعلني منظر المخالب والنيوب الذي ظهر على الشاشة، أضحك بسخرية. لحدّ الآن، لم يستطع أي مخرج أن يعدّ بشكل ناجح، الطريقة السينمائية المثلى التي طرح بها ستيفنسن مشكلة الخير والشر!

بورخيص: يؤكّد ستيفنسن على أنّ الشرّ هو الفظاظة والقسوة، ويلحّ بقوّة على هذا الأمر، بينما هذه الأفلام ما تنفكّ تصرّ زاعمة بأنّ ذلك مرتبط بالشبق الجنسي والبُعد الشهواني. ترى، ما سبب هذا التحوير؟

ساباتو: دائما ما حداني الأمل في أن أصنع فيلما مختلفا، انطلاقا من هذه الرواية…

بورخيص (وقد تحمّس للفكرة بشدّة): وأنا أيضا! يا لهذه المصادفة! ترى، هل وقع خيالنا على نفس الشيء؟!…

ساباتو: ها قد أخذ الأمر يستهوينا، نحن اللذين بدأنا لقاء يومنا هذا بشكل مكتئب جدّاً! كنت أقول في نفسي بأن من الممكن أن نصنع من الرواية فيلما دونما حاجة إلى أبطال وحشيين. وبأنه لا يتعين على وجه الدكتور جيكلي أن يتخذ مظهراً بشعاً وشنيعا، وإنما أن يشرع في التغيّر بشكل طفيف، تغيّرات تعبيريّة حاذقة وثاقبة، تعلن عن مزاجه وطبعه الجديد.

بورخيص: صحيح، قد يكون التلميح إلى الوحش أشدّ تأثيراً من التصريح به. أما فكرتي أنا فهي أن يتمّ إنجاز الفيلم بممثلين فقط، لا يظهران بالكل مجتمعين. وبهذه الكيفية، قد لا يشكّ أحد في أنهما شخصية واحدة. لا بد أنك تذكر يا ساباتو، بأنّ ستيفنسن يشدّد في روايته على أنهما شخصيتان مختلفتان عن بعضهما بشكل طفيف، وهو ما يجعل القارئ لا يعرف هل الأمر يتعلق بنفس الشخصية، أم لا.

ساباتو: سيكون هذا بالتأكيد، إنجازا سينمائياً يحترم النص بشكل كبير. على كل حال، جميع الروايات التي تحوّلت إلى أفلام، هي إلى الآن أفلام رديئة.

بورخيص: كلها تقريبا، مجرد حماقات. مجرد براهين حقيقية على براعة القائمين على أعمال الماكياج.

ساباتو: لقد كان ستيفنسن إنساناً يهتم بقضايا الميتافيزيقا، وليس بتبديل السّحَن والوجوه.

بورخيص: هل تعلم أني قررت أن أكتب هذا المساء، شيئاً عن هذه المسألة، يا ساباتو؟

ساباتو: أعتقد أننا كلما واصلنا الحوار بيننا، إلا واستطعنا أن نتفق على الكثير من الأمور. فيا للخطر الذي يتهدّدنا! (ضحك).خلق موضوع رواية ستيفنسن، أي اللغز المحيط بهوية الشخصيتين الروائيتين في مؤلّف: حالة الدكتور جيكيل والسيد هايدي الغريبة، جوّاً يتّسم بالحرارة والانفراج، ما لبث أن أفرز فكرة مؤدّاها أنّ القارئ يكاد ـ حين يلقى مؤلف أدبي ما نصيبه الوافر من الذيوع، الذي قد يكشف عن لغزه ـ يُخطَر مسبقا، بأمر المؤلف.

بارون: فهل يكون قارئ اليوم، فقد براءته؟ وهل يفضل بالتالي أن يكون ناقدا، عوض أن يترك نفسه تنقاد وراء خيط الحكاية؟ وهل سيجد الكثير من العنت في طريقه، إن هو لم يعد ينقاد إلى الحكاية؟

بورخيص: كان وايلد يقول بأنّ الإغريق كانت أمّة ذات حسّ نقدي.

ساباتو: لنقل إنها كانت أرجنتينية بشكل كبير! بهذا، أريد أن أقول بأن هناك دائما ذلك الأرجنتيني المستعدّ للإبداء برأيه، والحسم في أي موضوع من الموضوعات التي تهمّ الكوكب برمّته، انطلاقاً من مقعده المنشدّ إلى زاوية من زوايا الحان. إنّ اليونانيين ليشبهوننا كثيرا.دون مقاطعته، يؤيد بورخيص هذا الرأي، بحركات من رأسه ويديه.

ساباتو: نحن نعلم بأن اليونانيين كانوا محبّين للنقاش والمماحكة. وكان سقراط يحبّ، وهو فيلسوف الأماكن العمومية، مناقشة الشباب في أزقة أثينا، وشوارعها.بورخيص: ربما لا يوجد مثل هذا النوع من البشر، في بقية الدول الأخرى.

ساباتو: أنا لا أتنكّر لهذه القيم، ولا أجحد بها. وإنما أريد أن أقول بأنّنا مصابون بتلك العيوب، التي ترتبط بساكنة حوض البحر الأبيض المتوسّط.

بارون: أهي عيوب فكرية؟

ساباتو: قد أقول إنها بالأحرى خاصية روحية.

بورخيص: على كل حال، أشعر بأن الميدان الفكري يشغل ذهنهم. لديهم قدرة هائلة على التفكير والمماحكة…

ساباتو: لقد نشأ الفكر الغربي في اليونان. لذلك، نحن مدينون للإغريق بالكثير من الأفضال والعيوب، يا بورخيص!بدا وكأن بورخيص قد استعدّ للتصدّي لهذه الفكرة، لكنه تماسك، وهشّ بحركة موافقة من رأسه، تصادق على ما قيل.

ساباتو: إنّ تمجيد العقل وتبخيس الصفات غير العقلانية للإنسان، التي هي مع ذلك ذات أهمية كبرى، هما تلك العيوب. إنّ سقراط ذاته قد نظر بازدراء إلى الحقائق العميقة التي يكتسيها الدّين، وما يرتبط بالمشاعر والوجدان.

بورخيص: لكني أعتقد بأنّ ذلك أمر لا رجعة فيه. نحن من غير شكّ يونانيون، بغير رجعة.

بارون: وحين تصلكما أراء القراء بشأن ما تكتبانه، أيحدوكما الانطباع بأن هذه الأحكام هي عقلية أم وجدانية؟بورخيص (وهو يقاطعني بكيفية ساخرة): حين يقترب منّي أحدهم، ليعطيني رأيه في ما أكتب، أحاول دائما تغيير الموضوع. ودائما ما أشير على هذا الشخص، بأن بورخيص ليس وحده من يحتل الساحة، وإنما هناك من عشرة إلى عشرين كاتباً، ممن هم أفضل منّي، في بلد يشبه بلدنا، ويقع في مرتبة ثانية بأمريكا اللاتينية. وحين يقال لي إني أستحق الفوز إذن بجائزة نوبل، يخطر ببالي ما يقرب من خمسمائة كاتب آخر من العالم، هم أحقّ بهذه الجائزة.

ساباتو: أنت تعلم بأنّ هذا التمييز يرتهن خاصّة، بمسائل ذات طبيعة جيو ـ سياسية. من دون شك، تنكبّ اللجنة الآن على التفكير في تمييز إمّا كاتب عربي، أو ينتمي على الأقل إلى الشرق الأوسط.

بورخيص: إنها لم تُمنَح قطّ لأي كاتب من مالي، أو من الأسكيمو. أليس كذلك؟ (ضحك).

ساباتو: على اللجنة في السويد أن تنظر إلى الخريطة، وأن تحرص على التوازن. أن تقدّم الجائزة اليوم إلى كاتب أسترالي، وغدا إلى نرويجي…صار الحوار ساخراً وهزليا. طفق كل من ساباتو وبورخيص يختلقان أسماء الدول المحتمل احتضانها للمرشح القادم لجائزة نوبل للآداب.

ساباتو: هل تحبّ أن تحصل على الجائزة؟

بورخيص: أجل. من شأن ذلك أن  يناسبني كثيرا. أولا، به سأفقد به وضعية “المرشح القادم”، التي تلازمني، وأجرّها ورائي منذ سنوات بعيدة. (ضحك). وهناك إلى جانب ذلك، الوضع المالي. فأنا منذ أربعة أو خمسة أشهر إلى الآن، لم أتوصل بمعاشي كأستاذ للآداب الانجليزية بالكلية، لأنّ تقاعدي لم يأخذ طابعه الرسمي بعد. لهذ الأمر طابع المزحة. فقد قال لي المسؤولون عن المكتب المكلف بالمعاشات بأني “ما لم أتوصل بما يثبت قرار إحالتي على التقاعد، فإنه لا ينبغي أبداً لي أن أزعج نفسي ولا غيري، بالحديث عن المعاش”. وأعتقد بأني لن أتوصل بذلك القرار، أبدا. وحتى نبقى في موضوع جائزة نوبل، أتذكر في هذا السياق مقلباً، كان لوغونيس قد أعدّه لمانويل غالبيز. فقد اقترح هذا نفسه للجائزة الوطنية، فمنحه لوغونيس حينها جائزة الرتبة الثانية. أخذ البعض على هذا الأخير كونه شرّف غالبيز بجائزة لا يستحقها، لكنه تصرف بشكل مقصود، لبلوغ غاية أخرى. فأنت تعرف جيّداً، بأنّ الأديب حين يحصل في بلده على جائزة الرتبة الثانية، يضطره ذلك بالقوة إلى إلغاء سباقه نحو جائزة أخرى، تكون أهمّ مائة مرّة من جائزته الوطنية!ارتسمت على وجه ساباتو ابتسامة شبه شيطانية، ثم نظر إلى ساعة يده.أذنت الوقت بالفراق.التقطا معاً حاجاتهما: العكازة والرّح والكتب، ثمّ انصرفا يحملان ذلك كله.(جزء من كتاب ينشر على حلقات)

 

ترجمة: أحمـد الويــزي *

لقراءة الجزء الأول من هذه المحادثة اتبع الرابط التالي

 

أحاديـــث مشتركــــــة خورخي لويس بورخيص وإرنستـو ساباتـو أدار الجلسات وكتب المقدّمات: أورلاندو بارون الجزء الأول

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى