صفحات الرأيياسين الحاج صالح

الجسد المختوم أو عبء المرأة المسلمة/ ياسين الحاج صالح

 

 

إلى طه بالي

1

تقول لافتة عن الحجاب، موقعة باسم «المكتب الشرعي لحركة أحرار الشام الإسلامية»، ظهرت صورة لها في مطلع هذا العام: «حجابك أختي أغلى من دمي/ أختاه أنت بخمارك كالدرة المكنونة».

السيطرة على الجسم، الأنثوي بخاصة، ولكن كذلك ضبط أجسام الرجال، هو أحد ميادين التحكم المفضلة لدى الإسلام الحربي الذي صعد في سورية على كتف الثورة في صراعها الشاق ضد العدوان الأسدي. وهذا إسلام معني بالمعارك والحرب بقدر ما هو حريص على التحكم بالحياة اليومية للسكان وحركتهم في الفضاءات العامة. هذان وجهان لا ينفكان للظاهرة الإسلامية الحربية. تعليب النساء وفق صيغة «اللباس الشرعي» هو أبرز وجوه التحكم العام الذي يدفعهن إلى حيث لا يُريْن، أي في النطاق الخاص، فإن خرجت الواحدة منهن من بيتها لحاجة كان عليها أن تغلف نفسها بجدران سميكة معتمة، كأنما هي مُغلّفة بالبيت نفسه. عملياً يعادل هذا الغلاف الكتيم منع النساء من الخروج من بيوتهن، وهو خيار مفضل فعلاً في بيئات إسلامية من الأشد محافظة، تقضي أن للمرأة ثلاث خرْجات: الأولى من رحم أمها، والثانية إلى بيت زوجها، والثالثة إلى قبرها.

لافتة «المكتب الشرعي لأحرار الشام» تنتقل من وعظ «أختاه» إلى الأمر، فتورد «سمات الباس الشرعي» على النحو االتالي: «طويل لا يكشف، واسع لا يصف، سميك لا يشف، لونه لا يلفت النظر». في الصورة، يحمل اللافتة الكرتونية شابان ملتحيان يعملان على تثبيتها إلى جدار. يصعب تصور امرأتين شابتين تفعلان ذلك.

كانت كلمة حجاب تطلق حتى وقت قريب على غطاء الرأس الذي تزايد منذ أواخر سبيعنات القرن العشرين عدد من يرتدينه من نساء مسلمات، سنيات وشيعيات. وقع ذلك بترابط مع الثورة الإيرانية وصعود الإسلام السياسي، وأكثر بترابط مع سحق الأخير وتحطيم كل أشكال الاحتجاج الاجتماعي الأخرى، بما فيها تنظيمات سياسية يسارية وحراك نقابي وطلابي. ويبدو أن الحجاب في سورية كان عنصراً في تأكيد هوية تتمايز عن حكم عدواني أخذ يتعامل مع السكان كأنه احتلال أجنبي، كما في مجتمع الطبقة الوسطى الدمشقية الذي كان انتشر فيه السفور على نطاق واسع منذ ما قبل زمن الاستقلال حتى سبعينات القرن العشرين. ولعل الحجاب في موجته تلك كان يتضمن أيضا احتجاجاً على ضرب من العلمنة القسرية، مثّلها نزع أغطية رؤوس نسوة دمشقيات على يد مظليات رفعت الأسد في أواخر أيلول 1981.

عند التيارات السلفية السنية، الإسلام العسكري الحربي، يطلق الحجاب على لباس المرأة ككل. وهذا ضمن تحول سياسي شمل صعود السلفية كعقيدة طبيعية للحرب، وصعود السلفيين كقوة عسكرية تمزج بين الحرب وبين التحكم في المجتمع، وعلى نحو خاص تحجيب النساء وعزلهن قسراً. هذا المزيج محقق في الرقة على يد داعش، وفي إدلب على يد «جيش الفتح»، الذي أصدر يوم 8/10/2015 بياناً يربط فيه بين مواجهة الروس وبين «الحد من ظاهرة التبرج» التي يقول البيان إنها «عصفت بالمجتمع»، ويعبر عن الخشية من «أن تحل بنا عقوبة لأجلها». من «نحن»؟ «هيئة الفتح للدعوة والأوقاف» التابعة فيما يبدو لجيش الفتح. وليس هناك احتمال لأن تكون مكونة من غير رجال حصراً. والمزيج محقق في لافتة أحرار الشام نفسها، وهي تربط بين «حجابك»، أنت المرأة المسلمة، وبين «دمي»، أنا المقاتل الإسلامي.

2

في موجة صعوده السابقة، جرى تناول الحجاب على نطاق واسع بمنطق التحليل الاجتماعي الذي يرى فيه حجباً محتملاً لمشكلات الفقر (العجز عن شراء ثياب وإكسسوارات «لائقة» أو العناية بالشعر…)، ورصيداً محتملاً لتحسين فرص الزواج في مجتمع منتهك ومدفوع للانكفاء على نفسه، وعنصر مساومة مع السلطة الأبوية داخل الأسرة على مساحة تحرك الفتاة يساعدها على الخروج إلى الفضاء العام، وحتى على النشاط السياسي (النسوية الإسلامية في تركيا)، وعنصراً في بناء هوية نساء شابات في سياقات اجتماعية وسياسية مفقِرة، لا تتيح بناء ذاتيات جديدة.

كان هذا منهجاً مناسباً لأن الحجاب كان ظاهرة اجتماعية قاعدية ودفاعية جوهرياً، واقترنت عموم التحليلات الاجتماعية بتفهم للظاهرة.

لكن ظاهر أن هذه المقاربة ليست مناسبة حيال الموجة الجديدة، ففي صيغة «اللباس الشرعي»، الحجاب اليوم مفروض قسراً من فوق، وليس استجابة اجتماعية تحتية لشروط تعرية اجتماعية وسياسية جائرة. وهو من جهة أخرى ليس علامة تمايز وهوية محتملة في إطار دولة وطنية تمعن في الأجنبية، بل هو علامة محو للشخصية والكيان من قبل سلطات ذكرية عسكرية، أجنبية جداً في مثالها الاجتماعي والعقدي، إن لم تكن كذلك في ملاكها البشري. وهو من جهة ثالثة مقترن بتقييد حركة المرأة والرقابة عليها وطردها من الفضاء العام، بإشراف السلطة الذكرية الخارجية، وليس قراراً ذاتياً اتخذته نساء أو حتى أسرهن، أو استجابة لدعوات ودعاية دينية نشطة. وهو في المحصلة اعتداء على النساء، والناس، جميعاً لا يختلف في شيء عن نزع حجب النساء بالقوة، على نحو ما مورس في شوارع دمشق في خريف 1981، بل هو يجري بصورة أكثر نسقية وأشد عدوانية. ليس هذا «اللباس الشرعي» عنصر احتجاج أو تحصّن اجتماعي بحال، بل هو علامة استعباد سياسي ديني.

التحليل الاجتماعي محدود الفائدة في هذا الشأن، لكون ظاهرة الحجاب الجديدة سياسية عسكرية دينية، وليست اجتماعية دينية. هذا يقتضي من جهة مواجهة الحجاب الجديد على أرضية الافتراضات الدينية السياسية الخاصة المشرعة له، ومن جهة أخرى إدراج هذه القضية في قضية التحرر العام، السياسي والاجتماعي، والدفاع عن العدالة والمساواة والحرية للنساء كوجه أساسي للعدالة والمساواة والحرية لجميع السكان.

3

يبدو أن أول الافتراضات الكامنة وراء الحجاب يتصل بنظرة ثنائية إلى الكائن البشري تراه نفساً وجسماً (أو روحاً). ليس الجسم هو الشخصية، ليس كيان الإنسان المؤهل لاكتساب وتطوير طاقات متنوعة، ليس وجود الإنسان في العالم. تتعدد الأقوال في شأن النفس والروح إسلامياً، لكنهما معاً، في تقابلهما مع الجسد، مصدر خلخلة لوحدة الكائن البشري، تتيح لمدراء النفوس أو الأرواح التسلل والسيطرة على بشر منقسمين على أنفسهم.

لأجسادنا حق علينا ما دمنا في «الدنيا»، لكن ما نحتاج حقاً إلى رعايته والتكرس له ليس هي، بل «النفس». ويأخذ التكرس في الإطار الإسلامي، والسلفي بخاصة، شكل انضباط بصورة معطاة سلفاً للنفس. لا تبدو النفس شيئاً يقع في داخلي وعليّ الاعتناء به لأنه ذاتي، شخصيتي، مبدأ الداخلية والإيمان في كياني. تبدو بالأحرى جملة قواعد لضبط الجسد، مُستمدة من «الشريعة»، تتفوق فاعليتها الضابطة الجمعية على ما يفترض من أن النفس مقر الإيمان الشخصي والطمأنينة والشعور بالعالم. ومن تلك القواعد بخاصة الإكثار من الصلاة والصيام، ومنها ما يسمى «الهدي الظاهر»، أي إرخاء اللحية وتقصير الثوب ومُكمِّلاتهما بخصوص الرجال، واللباس الشرعي والقرار في البيوت بخصوص النساء. ومنها الإحصان المبكر للجنسين عبر الزواج. وعلى هذا النحو يفتح التقابل بين الجسد والنفس ثغرة واسعة يدخل منها مدراء «الشريعة»، بأوامرهم ونواهيهم ومشروعهم لهندسة الأجساد وللمجتمع.

تبدو الشريعة نفساً جمعية، تلغي اختلافات الأفراد، وتصبو إلى أن يكونوا متماثلين تماماً. يقول ابن تيمية: «المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وتدفع إلى المشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدرج الخفي. فينتج عنه نوع مودة ومحبة». ربما. لكن مثال مجتمع قائم على التناسب والتشاكل والموافقة والمشابهة هو مجتمع متماثل الأفراد، كأنما هم نسخ لأصل واحد. ما الفائدة من كثرتهم إذن؟ وفوق كونه مُفقِراً اجتماعياً، هذا التشابه مشروع سلطة في واقع الأمر، وليس مشروع «مودة ومحبة»، وهو يمتنع دون سلطة من نوع المُطوِّعة في السعودية وجلاوزة الحِسْبة عند داعش. في غير الموت، لا يتماثل الناس إلا بفعل سلطة خارجية تفرض عليهم التماثل، على ما هو ظاهر في الجيوش، وفي فرض اللباس الموحد على طلاب المدارس في سورية، وفي وقت من الأوقات على طلاب الجامعات. وبما أن الهدي الباطن، أي الإيمان والتقوى، لا يمكن التيقن منهما، وبما أنه يجري إلزام الناس بمظاهرهما قسراً، فإن كل الدين يغدو عملياً هدياً ظاهراً، أي كله في الواقع سلطة ضبط خارجية، تنتج التماثل وتعممه.

الحجاب في صيغة اللباس الشرعي هو مظهر لسطوة الشريعة كقوة خارجية، كسلطة، وليس بحال تعبيراً عن الهدى والورع. يمكنه أن يكون كذلك في حالة واحدة فقط: حين يكون خياراً شخصياً للمرأة.

الافتراض الثاني المكمل لسابقه هو النظر إلى جسد المرأة بالذات كفتنة، كمصدر إغواء. جسد المرأة هو الغائب غير المسمى في لافتة «أحرار الشام»، هو المحجوب المغيب الذي لا ينبغي أن ينكشف منه شيء أو يوصف أو يُشفّ عنه. «اللباس الشرعي» هو في آن إعلان أن المرأة جسد من نوع خاص، خطير وواجب التغييب، ثم ختم السلطة على هذا الجسد، الختم الذي يعلن أن الجسد ليس لصاحبته، تتصرف به مثلما تشاء، بل هو ملك «الأمة».

لا يرتد الأمر إلى أن الجسد الأنثوي ثانوي قياساً إلى النفس الجمعية، الشريعة، أي سلطة صنع النفوس المتماثلة، إنه فوق ذلك حامل لخاصية خطيرة، لشحنة كهربائية يمكن أن تكون مُهلكة. الفتنة خاصية أنثوية، تجتذب وتشد وتسحر من جهة، وتثير الشقاق والعنف والتمزق الاجتماعي من جهة ثانية. لذا ينبغي طمس هذا الجسد الخطير، نزع كهربائيته وتحييده. الوأد الجذري للفتنة هو الحجب الكامل للجسد بـ «اللباس الشرعي»، وليس بغطاء الرأس الذي هو مسايسة للفتنة، أو تسوية معها، تليق بـ«الإسلام السياسي»، التوفيقي جوهرياً. اللباس الشرعي هو الحل الجذري اللائق بالسلفيين والإسلام العسكري، وهو الإعلان الواضح أن أجساد النساء ليست لهن، ولا حق لهن بالتصرف بها تالياً، إنها مملوكة لـ«الأمة»، جماعة المسلمين.

ورغم أن الإسلام لا يُقِرُّ عقيدة الخطيئة الأصلية، وهي مركزية في اللاهوت المسيحي، فقد جعلت عقيدة الفتنة من كل امرأة خطيئة فرعية تسعى. وهذه بالمناسبة واقعة تستحق أن يتملى فيها من يثابرون على اشتقاق الوقائع التاريخية من المعتقدات الدينية.

ينتظر من الرجال أن يغضوا البصر، لكن الحجاب السلفي يُلقي عبء الفتنة كلياً على كاهل النساء، ويفترض في الواقع رجلاً لا يغض بصره إطلاقاً، ما دام منتظراً من حجاب المرأة ألا يصف ولا يشف ولا يكشف. داعش لا ترضى من النساء أن يُغطين وجوههن بغير برقع مضاعف بحيث أنه حتى لو «بحْلق» عناصر «الحسبة» في وجه المرأة عن قرب لن يرى منه شيئاً.

ويتصل بما سبق معاداة الجمال لأن الجمال البشري بخاصة «فتنة»، و«يُلهي عن ذكر الله». ويُلحَق بالجمال البشري الجمال الفني الذي هو فتنة بدوره، لكنه كذلك وسيط محتمل بين الله والإنسان. وفي عمق نفي الوسائط هنا عقيدة الحاكمية الإلهية كما تطورت على يد محمد بن عبد الوهاب، ثم أبو الأعلى المودودي وسيد قطب. وهي تؤول إلى معادة الفن والثقافة (النحت، الرسم، الموسيقا، وحتى زينة المساجد…)، ومقاومة التاريخ كانحراف، وإلى رفض الحضارة والعمل من أجل الموت الحضاري. ليس في هذا العالم غير نساء مستعبدات محجوبات، ورجال ملتحين متجهمين يشبهون بعضهم، وربهم المكفهر.

وفي أساس حجب النساء، أيضاً، واقع أن علاقة الرجال بالنساء في المتخيل الإسلامي المهيمن علاقة تملّك، شيء يتجاوز علاقة السلطة المكرسة نصياً عبر مفهوم القوامة، إلى جملة ممارسات وخطابات ومؤسسات تقوم على السيادة والملكية. ومن هذا المتخيل تصدر صورة «الدرّة المكنونة»، أي المحفوظة والمخبأة، التي وردت في لافتة «أحرار الشام» المشار إليها في صدر المقالة، ومنها تسويغ شائع لـ «الباس الشرعي» بصورة قطعة الحلوى، المغطاة والنظيفة، مقابل صورة الحلوى المكشوفة التي يحط عليها الذباب التي يفترض أنها تمثل المرأة السافرة. ومنها طبعاً القيمة العليا الممنوحة للعذرية، بوصفها ختم المرأة، أو علامة جِدتها. المرأة غير العذراء ضمن هذا المتخيل هي مثل بضاعة مستخدمة.

لا يجري امتلاك المرأة قبل تشييئها. وبطبيعة الحال لا تُسأل قطعة الحلوى، وقد تكون أحياناً قطعة شوكولاتة، عن رأيها في تغطيتها، وليس لها قول في هذا الشأن. والدرة لا تسأل إن كانت تريد أن تكون مكنونة، أو أن تكون درة أصلاً. حرمان المرأة من الكلام والمحاججة وجه أساسي لعلاقة التملك.

تعدد الزوجات هو المؤسسة التي تجسد علاقة التملك، والنفي الأساسي للمساواة بين الجنسين. ليس للرجل الذي يتزوج بأكثر من امرأة «قلبين في جوفه» أو أكثر، وليس «حبّيباً» أكثر من غيره، فنمط الأسرة المكونة من زوج وزوجات يقضي على الحب كعلاقة قائمة جوهرياً على المساواة. من يتزوج بأكثر من امرأة في الوقت نفسه ليس أقدر من غيره على الحب، بل هو محب للتملك أكثر من غيره.

ومعلوم أن صعود الحب والكتابة عنه والتغني العام به سار يداً بيد مع تراجع تعدد الزجات  في مجتمعاتنا في القرن العشرين. ويبدو ظاهراً، بالمقابل، أن تعدد الزوجات وموت الحب يسيران معاً في بيئات الإسلام الحربي. وليس في المأثور الإسلامي أمثولة واحدة شهيرة عن حب جمع رجلاً بنسائه في الوقت نفسه، بينما حتى بين زوجات الرسول هناك قصص عن الغيرة والكيد.

وإذا كان التحرش الجنسي منتشراً في مجتمعاتنا الإسلامية، فليس الأمر منفصلا عن تأكيد السلطة والامتياز الجوهري. التحرش فعل سلطة يتيح للرجل (الضعيف غالباً) أن يؤكد سلطته على الأضعف منه، حتى بانتهاك نساء محجبات أو منقبات على ما تواتر حدوثه في مصر.

وأخيرا يقترن الحجب التام للمرأة بالحرب. كلما تطورت صيغة أكثر حربية من الإسلام اقترنت بمحو أشد لكيان المرأة، وعزل أشد لها في النطاق الخاص. الإسلام الشعبي، أي الإسلام الذي يملكه عموم الناس، المبتعد عن الحرب والسلطة، والمندرج بالمقابل في الحياة اليومية، يقترن بلباس يجمع بين «الحشمة» والتكيف مع البيئة (في ريف الرقة كانت غُرّة المرأة وجدائلها مكشوفة)، ولا يحول دون اختلاط (مراقب) للجنسين. الإسلام السياسي يحجب رأس المرأة، ويميل إلى الفصل بين الجنسين، وإن تعايش على مضض مع اختلاطهما في الجامعات والعمل. الإسلام العسكري يقترن بفصل كامل بين الجنسين، يتجسد في «اللباس الشرعي» حين يحصل أن تضطر المرأة للخروج من بيتها.

حين تقول لافتة «أحرار الشام» إن حجاب المرأة أغلى من دم المقاتل، فإنها تدرج الحجاب في علاقة حرب: أنا أقاتل/ أنت تتحجبين، وفي تقسيم اجتماعي للعمل: أنا للحرب والسياسة وأنت للبيت وتدبير المعيشة، فإن خرجت تخرجين مختومة باللباس الشرعي، أي بما يعلن أن جسدك ملك الأمة. وحين يترجى منشور «جيش الفتح» أن يكون ارتداء «اللباس الشرعي» في «المدارس والمؤسسات والأسواق» «سبباً من أسباب تنزل النصر على المجاهدين»، فإنه لا يخرج على أن حجاب المرأة من مستلزمات الحرب. فبما أن «الهجوم الروسي لا يمكن صده إلا بقوة الله واستنزال نصره»، حسب منشور «جيش الفتح»، وبما أنه «لا يتنزل نصر الله إلا بطاعة أمره»، فلا بد من تحجيب النساء. وهو ما ينطبق على «حزب الله» وهو ظاهرة دينية حربية تكوينياً، واقترن صعوده بانتشار صيغة من «اللباس الشرعي» لا تحجب الوجه، لكنها منتجة ومعممة للتماثل في الأوساط الشيعية اللبنانية. ثنائية الحجاب والحرب مصانة في كل حال. ومن المحتمل أن صيغة: «حجابك أغلى من دمي» من ابتكار شيعي. على النت يجد المهتم صفحات فيسبوك ويوتيوبات تستظهر هذه الصيغة، وكلها شيعية لبنانية.

والتدرج بين الإسلام الاجتماعي أو الشعبي والإسلام السياسي والإسلام الحربي يتصل بملكية الدين. الإسلام الاجتماعي ملك للمجتمع، المؤمنين وغير المؤمنين، حيث يكون الدين علاقة أفقية بينهم، وعلاقة عمودية لهم أفراداً بربهم. أما الإسلام الحربي، أي السلفي الجهادي، فالدين ملك الجماعة الجهادية تفرضه بالإكراه على الجميع، النساء والرجال. الرجال والنساء مؤممون هنا، ملك للأمة. الأولون محاربون، والأخريات مُحجبات يرعين غيابهم وينجبن محاربين جدداً. ويبدو أن الإسلام السياسي، وهو توفيقي تكوينياً، يشغل موقعا وسطاً في هذا الشأن.

من الداخل السلفي تبدو العلاقة بين الحجاب والقتال ضرورية، وتسند ضرورتها إلى الشريعة وطاعة الله. ومن الخارج تبدو اعتباطية، أملاها الرجل الجمعي لمصلحته، ولم يأخذ رأي النساء فيها. بل إن نهي «جيشٍ» لهن، قضيته هي «الفتح»، عن «التبرج»، وعن «وضع مساحيق التجميل»، على ما جاء في المنشور ذاته، ما يشير إلى أنهن لا يمتثلن للأمر طوعاً، ولا يرين البداهة التي يراها الرجل الجمعي الذي يحارب ويعزل النساء.

4

في المحصلة الحجاب أو اللباس الشرعي ليس ثياباً، إنه علاقة قوة تشغل النساء فيها موقع التابع المملوك المحروم من الكلام وتمثيل نفسه. وهذا ظاهر على كل حال من عبارة «اللباس الشرعي» بحد ذاتها، فالأمر يتعلق بزي مفروض بـ«الشرع»، أي بقانون ملزم، وليس بشيء مستحب، أو باختيار شخصي. معنى الزي يختلف كلياً حسب ما إذا كان خياراً شخصياً، أو هو فرض إكراهي، وهو يكون أسوأ حين يجمع بين الصفة الإكراهية، والاقتصار على أحد الجنسين. ولا يتعلق أمر اللباس الشرعي بتمييز لصالح الرجل في مجتمعنا، مما لا يزال بدرجات متفاوتة واقع الحال في كل مجتمعات الأرض تقريباً، بل بتمييز ضد المرأة، يُنكِّد عيشها فعلاً. فلنفكر في النساء اللاتي يرتدين تلك الألبسة الثقيلة القاتمة في حرّ الصيف في  بلادنا، أو في مشهد نساء يرفعن النقاب قليلاً عن وجوههن كي يختلسن النظر إلى مواقع أقدامهن في الشارع. ليس هذا بالأمر الكريم كي نقول كلاماً معتدلاً.

هناك نساء يستبطنّ ثنائية الحجاب والحرب، فيحجبن الحجاب كعلاقة القوة عبر هذا الاستبطان، وبخاصة منهن من يعملن في أجهزة المجموعات الدينية العسكرية، السنية والشيعية. علاقات القوة على كل حال قلما تكون علاقات إكراه مباشر، ويغلب أن تظر لطرفيها كعلاقة تكامل، يمكن تقبل ما فيها من امتياز لطرف بالاستناد إلى تمايز جنس أو وظيفة الطرفين. لذلك يبقى لازماً في كل حال نزع حجاب القوة عن الحجاب، والتعامل مع تفاصيل كل وضع، وإظهار الأوضاع التمييزية التي يغطيها اللباس الشرعي.

يلزم أكثر أن إظهار أنه حيث يفرض عزل صارم للنساء وراء اللباس الشرعي هناك عزل صارم بالقدر نفسه لعموم الناس، رجالا ونساء عن المجال العام، وحكم نخبوي لمصلحة أقلية صغيرة من الرجال. هؤلاء الرجال هم من يحتمل أن يمتلكوا نساء كثيرات، فيما أسر الشرائح الدنيا مكونة من رجل وامرأة. ما يجري عملياً هو حجب الفقر وراء السلطة الدينية المعصومة، وتأنيث الأفقر والأكثر انكشافاً وهشاشة، وبالمقابل تذكير مضاعف للذكور النافذين الحاكمين، على نحو يبدو مجسداً في نخبة داعش وفي حسن نصر الله وأتباعه.

الحجاب، تالياً، ليس علاقة قوة بين الرجال والنساء حصراً، لكنه أولاً علاقة قوة بين النخبة الدينية  العسكرية الحاكمة وعامة السكان، مسلمين وغير مسلمين (إن وُجدوا). ضمن هذه العلاقة الرجل في وضع أقوى طبعاً، لكنه مهمش هو ذاته حين لا يكون من النخبة.

وبهذا فإن في القول أن الحجاب علاقة قوة ما يعني أن الرجل محجب أيضاً بصورة ما، أنه طرف في علاقة تجرد من تقرير مصيره بقدر ما هي تستعبد  المرأة. وهذا ظاهر من وقائع حياة عموم الناس في ظل داعش، والمجموعات السنية والشيعية المحاربة عموماً.

5

يريد هذا النقد أن يتفاصل عن ضرب شائع من نقد الإسلام والشأن الإسلامي في نقطة أساسية: تحركه اعتبارات تتصل بالعدالة والكرامة الإنسانية، وتصور لمجتمع، ولنساء ورجال، مختلفين، يكرمون إنسانيتهم في تعاملهم على أسس من المساواة والحرية. ليس هذا النقد معنياً باعتبارات معارك العقائد والأديان التي كان لها دور مفسد كبير في ثقافتنا واجتماعنا المعاصرين، سواء عبر إثارة الشكوك والضغائن والكيد المتبادل، أو عبر إدارج هذا النقد في معارك الطوائف والصراعات من أجل السلطة بين النخب الطائفية، فضلاً عن إغفال البعد الاجتماعي التحرري لنقد الدين والشؤون المتصلة به. هناك نقد جمهوري وتحرري للإسلام وهناك نقد أرستقراطي وتمييزي وطائفي، هو الأشيع منذ عقود. ليس النقد المسطر هنا ناقدا لهذا النقد الأخير فقط، وإنما هو يرى في نقده وفي القطيعة معه شرطا لتفكير تحرري وسياسية تحررية في الشأن الإسلامي. قضية المرأة قضية حرية ومساواة وعدالة، وليست قضية «رقي» أو «حداثة» أو«مظهر حضاري». إنها قضية مجتمع بأكمله، برجاله ونسائه، بسكانه كلهم، وليس قضية جنس واحد أو قضية البعض.

هذه النقطة مهمة من أجل إخراج النضال التحرري ضد الإسلاميين من الطريق المسدود الذي أوصله إليها دعاة عقديون، يمزجون العلمانية بالطائفية وبموالاة الطغيان النخبوي.

ومن شأن ذلك وحده أن يخرج نقد الإسلام من دائرة النقد الأصولي الذي يحركه انفعال عدائي حيال دين المسلمين. وخلافاً لهذا النقد الأصولي للدين، يفترض النقد الاجتماعي التحرري للإسلام أن تغير أوضاع النساء والعلاقة بين النساء والرجال ممكن في مجتمعاتنا، وإنه ليس هناك حتمية دينية تقضي باستحالته ما لم يجر القضاء على الإسلام أو إضعافه بشدة. الإسلام، أيا يكن معنى هذا الدال الذي يفترض دعاته وأشد أعدائه وضوحه التام، واقعة اجتماعية متحولة، لا يكف عن تشكيلها إداريو الدين في حقول سياسية واجتماعية عينية من جهة، وفي وجه مقاومات متنوعة من طرف عموم المؤمنين من جهة ثانية. ليس هناك فكر تحرري لا يأخذ علماً بهذه المقاومات، حتى إن لم يقتصر عليها.

وليس صحيحاً بحال أن الدعوة «التنويرية» و«الحداثية» و«العلمانية» تحررية تلقائياً في مجتمعاتنا. في صيغها المتداولة، يغلب في الواقع أن تكون التحاقاً تبعياً بالقوي المزدهر. وهذا لأنها تكوينياً دعوات فوقية، تثق بالسلطان لا بالمجتمع، وتحتمي بالرئيس الطاغية خوفاُ من رؤوس عموم الناس.

فرصنا في صراع تحرري ضد الإسلامية مرهونة بانخراطنا في صراع تحرري من أجل العدلة والمساواة والحرية في مجتمعاتنا ضد أي طغيان. هل هناك ما هو بديهي أكثر من ذلك؟ وهل يمكن تصديق من يناضل باسم الحداثة ضد الإسلامية، بينما هي/ هو يستكين بسلام تحت جناح طغيان إجرامي بالغ الوحشية والانحطاط مثل الطغيان الأسدي؟

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى