صفحات الرأي

الجهاديون من المباهلة إلى… الاجتماع/ حسام عيتاني

 

 

واحدة من المقاربات لموضوع الجهاديين وموجاتهم المستمرة والمتعاظمة منذ الثمانينات، تقوم على دعوة إلى التعمق في فهم الخلفيات الفكرية والأيديولوجية التي يأتون منها.

يطرح متخصصون غربيون وعرب في شؤون الجماعات الإسلامية المسلحة العودة إلى الأصول النظرية التي يستمد منها الجهاديون الدوافع والمبررات لخروجهم على السلطات القائمة ومواجهتها بالعنف سعياً إلى إقامة سلطاتهم ودولهم. تبرز هنا مراجع من مثل سيد قطب وابن تيمية كمصدرين رئيسين للأيديولوجيا الجهادية.

جلي أن ثمة فارقاً شاسعاً بين الاثنين، وفي عصريهما وظروفهما. وإذا كانت العجالة هذه لا تتسع لرسم الفوارق بينهما يمكن القول إن الأول ركز على رد المجتمعات الإسلامية إلى سوية جاهلية وصولاً إلى تكفيرها، فيما تناول الثاني بإسهاب الفِرق والجماعات المخالفة لاعتقاداته ووسمها بالكفر من دون أن يكفر المجتمعات الإسلامية، بل اكتفى بتكفير الأفراد المنحرفين عن جادة الصواب كما رآه وفهمه. بل إن كتاب ابن تيمية «السياسة الشرعية» واضح في اهتمامه بإصلاح السلطات والأمراء واعتبار صلاحهم الأس الأهم في صلاح الجماعة، مقابل إهماله شأن العامة.

التبحر في فقه الجماعات الجهادية يفيد على الأرجح في فهم «الخطاب» الداخلي المتداول بينها واستطراداً رؤيتها إلى العالم المحيط وتعاملها معه ونظرة بعضها إلى البعض الآخر. لكنه لا يساعد كثيراً على تشخيص الأسباب العميقة التي فرزت هذه الظاهرة ودفعتها إلى اعتماد سياسات وممارسات معينة دوناً عن غيرها.

في السياق هذا تأتي المباهلة التي دعا إليها القيادي في «جبهة النصرة» أبو عبد الله الشامي خصومه في تنظيم «الدولة الإسلامية» أثناء القتال بين الفريقين مطلع العام الحالي ورد المتحدث باسم «داعش» أبو محمد العدناني عليه وما تبع ذلك من اتهامات متبادلة انتهت، على ما يبدو الآن، إلى نوع من الهدنة والتعاون الضمني بين التنظيمين في سورية.

انتهت المباهلة في حينها بين الجانبين من دون نتيجة. بيد أن اللجوء إلى هذه الممارسة التي نادراً ما استخدمت في التراث الإسلامي، يشي بانسداد آفاق التعامل والتفاهم بين فريقين يزعم كل منهما امتلاكه ناصية الحقيقة والالتزام المطلق بالكتاب والسنّة.

ثمة من يقترح تفسيراً اجتماعياً للعلاقة بين «داعش» و»النصرة» يصب في نسبة الأولى إلى إسلام قَبَلي يشمل العشائر والقبائل المنتشرة في البادية الممتدة من الأنبار إلى أطراف حلب، مقابل إسلام ريفي زراعي لسكان أرياف إدلب ودمشق وحمص وغيرها. يرتبط هذا التوزيع بظروف الأزمة الشديدة التي بلغها المجتمع السوري منذ نهاية التسعينات وانهيار الدولة المركزية وتحولها إلى إقطاعيات مافيوية- أمنية تعتاش على الأزمة وعلى النهب العلني والصريح للسوريين، من جهة، وعلى خلفية الطور الحالي من العولمة التي دفعت إلى الهامش مجتمعات ودولاً فائضة عن حاجة الدورة الاقتصادية والمالية العالمية وعن ضروراتها.

الأزمة هذه، وفق التفسير أعلاه، فككت المجتمع السوري وحملت جماعاته المتفرقة على البحث عن ملجأ في الهويات الأصلية كالدين والعشيرة والجهة، من منظور التغيرات التي تراكمت فيها وحولها على امتداد الزمن.

مهما اتسعت زاوية الرؤية في هذا التفسير ووجاهته، تظلان (الزاوية والوجاهة) قاصرتين عن الإحاطة بتعقيد الظواهر الاجتماعية والسياسية التي يشهدها المشرق العربي، وليس سورية وحدها. تفـــكك المجتمعات العربية في المشرق وانهيار الدولة المركزية يكادان أن يكونا صفة مشتركة لبلدان تمتد من ليبيا إلى اليمن مروراً بسورية والعراق ولبنان.

لكن العوامل المفضية إلى الظاهرة هذه شديدة التداخل. فالعامل الاقتصادي والاجتماعي (الانفجار السكاني، شح الموارد الطبيعية أو سوء توزيعها من قبل أنظمة الاستبداد المسلح، تمركز رأس المال في يد تحالفات مافيوية لا تملك أي رؤية أبعد من الربح المباشر والسريع)… يستند إلى ثقافة جاهزة لتقديم المبررات لكل الأطراف المتصارعة. انحياز الشيخ محمد رمضان البوطي إلى نظام بشار الأسد، على سبيل المثال، غير قابل للتفسير فقط ضمن آليات الترهيب والترغيب، بل يعود في الأصل إلى موقف ممالئ للسلطة عميق الجذور في الثقافة الإسلامية السائدة. وما يقال عن وقوف قسم لا يستهان به من سنّة سورية وراء نظام الأسد حتى اليوم لا يجد تفسيره فقط في ضمان المصالح المادية المباشرة، بل أيضاً في الاستكانة إلى كل من أمسك زمام السلطة، وهو ما تبرره أدبيات فقهية عديدة.

تداخل كل هذه الأخلاط والأمشاج (على ما يقال) يحرض على رفض المقاربة الثقافوية القائمة على حصر تفسير ظاهرة من صنف الجهاديين ودورهم وتاريخهم وتمددهم بعامل واحد، سيان أكان الاستبداد أو انتشار الأفكار المتشددة. وانتشار العنف والرفض العدمي لكل أشكال الحكم القائمة والفشل المستمر منذ سنوات في البلدان العربية التي شهدت الثورات الأخيرة، تقول إن عطباً عميقاً أصاب هذه الشعوب والمجتمعات، وأنه يدفعها إلى الانتحار وإلى المزيد من الاستسلام لتحكم القوى الخارجية الأكثر تنظيماً ووعياً لمصالحها وامتلاكاً لوسائل تحقيق المصالح تلك.

ذلك أننا أمام انفتاح باب التاريخ على مصراعيه وعودة العرب إليه من باب الأزمة الشاملة التي لا تنفع معها رؤى جزئية، أكانت مباهلات بين الشامي والعدناني أو تفسيرات محض اجتماعية – اقتصادية. ومن أسف أن المقاربة المتعددة المستويات والمناهج لأزماتنا ما زالت في طور الطفولة وتحتاج إلى جهود جبارة للانتقال بها إلى حيز التشخيص الدقيق قبل السعي إلى العلاج.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى