صفحات سورية

“الجهاد المقدس» نقل «اللعنة الأفغانية» إلى سوريا/ هلا رشيد امون

في العام 1979، وهو تاريخ اجتياح الجيش السوفياتي أفغانستان، تسابقت قوى دولية وإقليمية، لإذكاء المشاعر الدينية، ولمناشدة المسلمين في كل أصقاع الأرض، للمشاركة مع إخوانهم الأفغان في جهادهم المقدّس ضد العدو الشيوعي الملحد، ذوداً عن حياض الإسلام. وقد سعت الولايات المتحدة منذ العام 1980، إلى إرساء تحالفٍ أميركي ـ باكستاني، يقضي بأن تأتي كلّ إمدادات التسليح والتدريب والتمويل للمقاتلين عبر باكستان. وهكذا تدفقت الأسلحة والذخيرة إلى باكستان، ومعها تدفقت أعدادٌ غفيرة من الشباب المسلم تلبية لنداء الجهاد، علماً أنّ أكثرهم لم يكن يعرف أين تقع أفغانستان، وأيُّ شعبٍ يعيش هناك. وفي ذلك الزمن، كانت مدينة «بيشاور» ـ بوابة الجبهة الأفغانية، ومدرسة «الأفغان العرب» الأولى ـ أكبر سوقٍ حرّة للشباب العرب وغيرهم من المجاهدين الذين تقاطروا على بيوت الضيافة (بيت القاعدة وبيت الأنصار) وعلى المعسكرات، حيث تلقوا محاضراتٍ تدور حول تأصيل مفاهيم الجهاد وقضية الولاء والبراء، وغيرها من القضايا المحوريّة في فكر المنظمات الأصولية عامة، بالإضافة إلى تلقيهم التدريبات العسكرية المكثفة في طريقة استخدام الأسلحة القتالية، الدفاعية والهجومية، قبل دفعهم إلى جبهة القتال، بعد أن يبايعوا على السمع والطاعة وعدم التولّي يوم الزحف، أو حتى مناقشة الأوامر والتعليمات.

بعد خروج السوفيات في العام 1989، تحوّلت أفغانستان إلى مسرحٍ لأجهزة الاستخبارات الدولية وللمنظمات الأصولية، وساد الصراع الدامي على السلطة بين «أمراء الحرب» الذين خاضوا معارك عبثية ضد بعضهم، بعد أن تقاسموا السيطرة على أنحاء متفرّقة من البلاد، ما أدّى إلى إشاعة الفساد والنهب والجريمة وفرض الإتاوات على الناس. واستعر الصراع بين المجاهدين الأفغان، حلفاء الأمس (حكمتيار، ربّاني، سيّاف) بعدما عجزوا عن حسم مسألة شرعية القيادة والسلطة ونهج الدولة العتيدة، ما جلب الدمار والخراب إلى الشعب الأفغاني الذي تحولت دماء أبنائه إلى وقودٍ في صراع الأطراف الإقليمية على أفغانستان. كل هذا، فتح الباب أمام وصول أصحاب العمائم البيضاء (الطالبان = طلبة المدارس الدينية بلغة الباشتون)، إلى السلطة – بتشجيع من الاستخبارات الباكستانية، وبموافقةٍ ضمنية من الولايات المتحدة ـ لوضع حدٍ لهذا الصراع والاقتتال والفوضى.

تمكّنت حركة طالبان في بداية بسط سيطرتها على أغلبية المدن الأفغانية، من طمأنة الشعب وكسب تعاطفه، ومن توفير الأمن الذي حُرم منه طويلاً. ولكن، ولأن هؤلاء الملالي ـ الذين أعلنوا لاحقاً «إمارة أفغانستان» تحت إمرة الملا محمد عمر ـ لم يكونوا مالكين مشروعاً اجتماعياً وسياسياً لبناء دولةٍ تلمّ شمل الإثنيات الأربع الرئيسية (الباشتون، الطاجيك، الأوزبك، الهازارة)؛ ولأنهم ظلوا مشروعاً طائفياً كل هدفه تطبيق الشريعة الإسلامية، بالاستناد إلى الأسس العقدية والفكرية التي استقوها من الحركات الإسلامية العريقة، فإنّ الصراع ما لبث أن اندلع مجدداً ـ ولا سيما بعد تحالفهم مع أسامة بن لادن – محوّلاً أفغانستان مرة جديدة، إلى مسرحٍ للاعبين الإقليميين الذين يندفعون بكل قوة لتوسيع نفوذهم وتحقيق مصالحهم الاقتصادية الكامنة في آسيا الوسطى (كازاخستان، تركمنستان، أوزبكستان، طاجيكستان) التي تفجّرت فيها ثرواتٌ هائلة من النفط والغاز والمعادن الثمينة. وهذا كله أدّى إلى تعقد الأزمة الأفغانية واستفحالها، ولا سيّما بعد تحوّل البلاد إلى ملجأ مثالي سمح بتكاثر الجماعات الأصولية الراديكالية التي دوّلت الجهاد.

أصدر الشيخ الفلسطيني عبد الله عزام، الذي يُعتبر «عرّاب الأصولية» والمؤسس الحقيقي لجماعات «الأفغان العرب» في أفغانستان، والمرشد الروحي لأسامة بن لادن، فتوى انتشرت على نطاقٍ واسع، وقد ترتب عليها الكثير من النتائج الخطيرة والمدمِّرة: «لا بد أن يكون واضحاً لدى المجاهدين، أنه إذا وصل المسلم إلى أرض الجهاد، فإنه لا يجوز له تركها بحالٍ، إلا أن يرتفع شهيداً إلى ربه، أو منتصراً على أعدائه، ليقوم بعدها بنقل هذا الجهاد إلى جبهةٍ أخرى، حتى تتطهّر بلادُ المسلمين من دنس الكفر». وبالفعل، فقد وجدت هذه الفتوى بتصدير الجهاد، طريقها إلى التنفيذ على يدي الجيل الجديد من الجهاديين الإسلاميين، الذي خرج من رحم قيادات الجيل الأول للفكر الأصولي المتشدّد، الذي يمثله عبد الله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهم. وبعد انتهاء المعركة في أفغانستان، لم يبقَ أمام «الأفغان العرب» الذين تمّ تجنيدهم بالآلاف، وأُنفق على تدريبهم الملايين من الدولارات، سوى العودة إلى البلاد التي قدموا منها: مصر والجزائر واليمن وفلسطين وكشمير والبوسنة والشيشان، ليوظّفوا الخبرات والمهارات العسكرية التي اكتسبوها، في مواجهاتٍ وصراعاتٍ وعمليات اغتيال لشخصياتٍ أمنية وسياسية في بلادهم.

أدركت الولايات المتحدة الأميركية لاحقاً، أنّ الوحش الذي ربّته ورعته في أفغانستان، عن طريق الدعم السياسي والمالي والعسكري والإعلامي والاستخباري، قد خرج عن النص، وأصبح يشكل خطراً حقيقياً عليها وعلى حلفائها العرب. ولقد حققت مآربها من توظيف «الحماسة الدينية» لدى المجاهدين في أفغانستان: فقد تحررت أوروبا الوسطى، وسقط الاتحاد السوفياتي، وانتهت الحرب الباردة، ولكن «الهوس الديني» كان قد انفلش في كل مكان، وكان خطاب العنف والقتال والهدم والتقويض قد تأصّل ـ فكراً وممارسةً ـ في نهج الحركات الأصولية التكفيرية التي تحولت بفضل ما باتت تتمتع به من مقدرات مالية وخبرات عسكرية وتقنية، إلى أداةٍ إرهابية تهدد السلم العالمي، وإلى منظّماتٍ سرية وخلايا نائمة، تنتقل من حضن جهاز استخباراتٍ إلى آخر، لتنفيذ أجنداتٍ محدّدة، ولا سيما في المناطق التي تشهد اضطرابات سياسية وأمنية. وها هي تقاتل اليوم في سوريا التي تحولت إلى «أرض جهاد وهجرة»، فتقاطر إليها المجاهدون من كل أصقاع الدنيا، ودخلوا في مواجهةٍ شرسة مع النظام السوري ومع «حزب اللّه» الذي بات يمثل الوجه الآخر للخطاب العنفي التدميري المتطرّف، بعدما انقلب على تاريخه، كحزبٍ مقاوم للعدو الإسرائيلي، فذهب إلى سوريا ليناصر حاكماً ظالماً ويدعم نظاماً مستبداً، وليزجّ نفسه في مستنقع الصراعات الدولية والمحاور الإقليمية التي لا تتردد في استغلال «النـزق الديني»، كأحد أوراق اللعب، للتخلص من أعدائها وإنهاء أزماتها.

هل صارت سوريا على أبواب استنساخ «التجربة الأفغانية» الدامية؟

إنّ ما يجعل الأزمة السورية أشدّ تعقيداً وخطورةً من الأزمة الأفغانية، هو أن الصراع فيها ليس بين الإلحاد والإسلام، الكفر والإيمان، كما كان في أفغانستان، بل هو بين معسكرين مذهبيّين، أو إيديولوجيتين دينيتين متشابهتين من حيث المقولات والمفاهيم التي تنادي بحتمية الثورة المقدّسة على الطواغيت والأوثان والأنظمة الفاسدة وغير الشرعية؛ ومن حيث اعتماد الوسائل العنفية التي تستهين بالحياة البشرية وترحّب بالموت، باعتباره طريقاً إلى الجنة والخلود؛ ومن حيث تأسيسها وتأصيلها لحقّ مجموعةٍ من الناس من دون غيرها، باحتكار الإيمان والمعرفة والسلطة والحكم.

ففي كتابه «الحكومة الإسلامية»، رأى الخميني أنّ قوى الاستعمار والمادية الملحدة قد عملت على تحريف الإسلام وتشويهه وطرده من ميدان التطبيق، واستيراد القوانين الغربية، وإحلالها محل قوانين الإسلام. لذلك يعتبر أن كل نظامٍ غير إسلامي، هو نظامُ شركٍ، وأنّ الحكم أو السلطة فيه، هو طاغوت. ونحن مسؤولون عن إزالة الشرك وعن تنشئة جيلٍ مؤمنٍ فاضلٍ يحطم عروش الطواغيت، ويقضي على سلطاتهم غير الشرعية (ص 36). والطاغوت هو كل هيئةٍ وسلطة قضائية أو حكومية تحكم أو تقضي بغير ما أنزل اللّه، وقد أمرنا اللّه أن نكفر بمثل ذلك، وأن نتمرد على كل حكومةٍ جائرة (ص 90). لذلك لا بدّ للفقهاء الذين هم الحجّة على الناس، من العمل على هدم الأنظمة الفاسدة المفسدة، وتدمير الأوثان والأصنام البشرية، والطواغيت التي تنشر الظلم والفساد في الأرض. وهذا واجبٌ مكلّفٌ به المسلمون جميعاً أينما كانوا، من أجل خلق ثورةٍ سياسية ظافرة منتصرة، عن طريق الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص 116). والنضالُ من أجل تشكيل الحكومة الإسلامية، هو توأمُ الإيمان بالولاية. وهذه الحكومة هي حكومة القانون الإلهي، والحاكم فيها هو اللّه وحده، وهو المشرّع وحده لا سواه، وحكمُ اللّه نافذ في جميع الناس، وفي الدولة نفسها (ص 46). وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيهٌ عالمٌ عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع، ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا. (ص 102)

أما سيّد قطب، فقد رأى في كتابه «معالم في الطريق»، أنّ العالم الإسلامي يعيش جاهليةً مدمّرة شبيهةً بتلك الجاهلية التي كانت سائدة قبل الإسلام. والمجتمع الجاهلي هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته للّه وحده (ص 98). وهو يعتبر أن إعلان ربوبية اللّه وحده للعالمين، معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها (ص 67). لذلك لا بدّ من تحطيم مملكة البشر، لإقامة مملكة اللّه على الأرض، وذلك بانتـزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد، وردّه إلى اللّه وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وإلغاء القوانين البشرية (ص 68). لأنّ المجتمعات التي خضعت لحاكمية الحكّام، بدلاً من حاكمية اللّه، قد تلقت عن حاكمية الطواغيت كل مقومات حياتها تقريباً، وكفرت بالإسلام (ص 103). فليس لأحدٍ، بحسب قطب، أن يقول لشرعٍ يُشرّعه هذا شرع اللّه، إلا أن تكون الحاكمية العليا مُعلنة، وأن يكون مصدر السلطات هو اللّه سبحانه وتعالى، لا الشعب، ولا الحزب، ولا أيٍّ من البشر (ص 105).

هذه النصوص التأسيسية، تُظهر كيف يتفق الخطابان الحزبيان الاسلاميان، الشيعي والسُنّي، بمرجعيتيهما الخمينية والقطبية، على أنّ طبيعة الحكم ليست مدنيّة، بل دينية إلهية؛ وكيف يسعيان إلى إضفاء صفة القداسة والعصمة على سلطة البشر، وجعْلهم خارج دائرة المحاسبة والمساءلة؛ وإلى إعطاء الحكّام والفقهاء، حقّ احتكار الفهم والتفسير والشرح والتأويل؛ وحقّ الوكالة والوصاية والقيمومة على الأمة باعتبارها قاصرة ومحتاجةً إلى حضانةِ وولايةِ «خليفة اللّه» أو «الولي الفقيه». ما يعني أن أيّ معارضةٍ أو نضالٍ ضد منْ يمارسون السلطة باسم اللّه والدين، سوف يتمّ التعامل معه، على أنه كفرٌ وجحودٌ ورِدَّةٌ ونضالٌ ضد اللّه.

ولا شك في أنّ الجهاد المقدس المستعرة نارهُ، بين أصحاب هذين النموذجين الأصوليين في سوريا. وبدلاً من تقويض أصنام الظلم وأوثان الفساد، وتحطيم طواغيت القمع والاستبداد، فقد نجح الصراع بين الأخوة في تقويض وتدمير سوريا، وفي تحويلها إلى لعبةٍ أممية واستخبارية، وإلى ساحةٍ مستباحةٍ جذبت إليها كل أصحاب المشاريع الإلهية والشيطانيّة. وهذا الوضع الشاذ الذي أسقط الحاكمية الإلهية والإنسانيّة، وأقام حاكمية العنف والقوة والعبث، بدأ يؤشر إلى أن مستقبل سوريا قد صار، وأكثر من أي وقتٍ مضى، أقرب ما يكون إلى «الجحيم الأفغاني» الذي لم تنتهِ فصوله الدموية وجولاتُ العنف الدائرة فيه، منذ العام 1979، وحتى يومنا هذا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى