صفحات الرأيمحمد تركي الربيعو

الجهاد في زمن الليكزس» عن أزمة الحداثة والعنف الديني في الشرق الأوسط/ محمد تركي الربيعو

 

 

 

يرى العديد من الكتابات السياسية المعاصرة، وتحديدا تلك التي تأتي في سياق تيار ما بعد الحداثة، ان الحداثة السياسية التي شهدتها العديد من بلدان الشرق الأوسط في بدايات القرن العشرين لم تكن صيرورة نحوالحرية، وإنما صيرورة نحومراقبة الفرد وتطبيعه. حيث تبين لهذه الدراسات وعبر البحث في جينالوجيا الدولة الحديثة الشرق أوسطية، ان أصل الذات الاجتماعية لم يكن على الاطلاق خارج علاقات السلطة. فالإكراه هومن صاغ الذوات الاجتماعية الحديثة، الأمر الذي كان ينافي خطاب الحداثة الذي بقي يتوهم حرية تكوين الذات لنفسها وإمكانية التحقق الذاتي خارج علاقات الاخضاع.

وبناء على هذه الرؤية للذوات الاجتماعية بوصفها إحدى منتجات الدولة الحداثوية، نسعى في هذه القراءة إلى تقديم مقاربة لأزمة العنف الديني السائد حاليا في المنطقة باعتبارها ازمة ناتجة عن الحداثة وما بعدها بامتياز، ولا تعود في جذورها إلى بعض المدونات التاريخية والتراثية، بمقدار ما ارتبطت بالتغيرات التي شهدها المجال السياسي للدولة الحديثة في المنطقة منذ منتصف القرن التاسع عشر وخاصة فيما يتعلق بتغيب دور الحقل الديني التقليدي، والتطورات التي شهدها هذا المجال لاحقا في زمن الليكزس وشجرة الزيتون (العولمة) على حد تعبير الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، وما تضمنته من انكسار لعوالم الرقابة التقليدية التي اخذت تكسب الإسلامية القتالية العالمية قنوات جديدة للتحريض والتعبئة .

ولادة مجتمعات الرقابة:

في حال اعتمدنا على قراءة فوكولآليات الرقابة التي أخذ يشهدها المجال السياسي للدولة الحداثوية حيث أخذت تتحقق صيغة سلطة جديدة محددة بجملة التكنولوجيات التي ترى المجتمع ملكوتا للقوة السياسية نجد ان فترة التنظيمات، التي شهدها جسد الإمبراطورية العثمانية سنة 1839، كانت بمثابة منعطف أساسي في صوغ مفهوم جديد للمجال السياسي داخل المجال العام العثماني والعربي.

فقد شكل نشوء الفئات المتعلمة من البيروقراطيين والمعلمين والاختصاصيين جمهورا أخذ يتغذى بالمواد المطبوعة والأفكار السياسية والاجتماعية الخارجة عن الإطار والامتثال الديني، وقد أخذت هذه النخب بحسب المؤرخ التركي جنكيز كيرلي، تنظر إلى المجتمع ككيان غير واع بذاته ويحتاج إلى إعادة صياغة من أعلى الدولة. ولذلك أخذت سجلات الإمبراطورية العثمانية في الربع الثاني من القرن التاسع عشر تقدم لنا أدلة وفيرة لاقتفاء أثر هذه التغيرات في وضع الحكم العثماني، ففي حين كانت تقارير التجسس تدون مزاج السكان في الولايات العثمانية، كانت تقارير الحجر الصحي تبين أوضاعهم وكانت سجلات الدخل تدون ثرواتهم، في حين ترسم الخرائط والإحصاءات السكانية أراضي الإمبراطورية وسكانها. وفي الوقت الذي جعلت فيه هذه الخرائط والإحصاءات الرعية مفهومة، أصبح الرعايا «هدفا للمراقبة».

دولنة الإسلام:

وبحكم هذه التحولات ما عاد ينظر إلى الحقل الديني باعتباره مجرد مرجعية سوسيولوجية ظهرت على الرغم من الدولة وأحيانا في مواجهتها، ذلك ان الممارسات الحكومية الجديدة أخذت تجادل بضرورة إعادة تعريف كل المجالات العامة الأمر الذي بات يمس من استقلالية المجال الديني.

ومن هنا أخذت التقنيات السياسية الجديدة للإصلاحات العثمانية تنشأ مفهوما جديدا لـ «العدالة» عبر النظر للشريعة باعتبارها جزءا من عملية صنع القانون على يد المؤسسات، متجاهلة بذلك ان دور الشريعة تاريخيا كان يفيد بما هو أكثر بكثير من القانون بالمعنى الحديث، وذلك لما أدته من وظيفة مجتمعية في التأكيد على العدالة والمبادئ الأخلاقية وفي الدفاع عن استقلالية المجال العام داخل فضاءات المدينة الإسلامية، وهو ما بينته العديد من الحوادث التاريخية والكتابات الفقهية، كما في رؤية الماوردي الاجتماعية مثلا، التي سعت بحسب ما تبين للمفكر العربي رضوان السيد أثناء تحقيقه لكتاب الماوردي «تسهيل النظر وتعجيل الظفر» إلى التأسيس لنظرية في السلطة والدولة على النظرية الاجتماعية. بمعنى – والكلام هنا للسيد- ان أسس الاجتماع الإسلامي بحسب فهم الماوردي كانت تقوم على الدين الذي تمثل الشريعة أداته التنفيذية. حيث تقوم سلطة الشريعة على توحد الجماعة بالنص، فلا يكون الجانب السياسي بعد هذا إلا مسألة تنظيمية لتطبيق الشرع، وصاحب السلطة في هذا جماعة المسلمين التي يتبلور فيها النص الإلهي بشكل جماعي ومطابق. وبذلك تكون السلطة حقا من حقوق المجتمع لا ميزة طبيعية لفرد من أفراده أو قلة من وجهائه.

ومن هنا كانت نهاية الاعتماد على منطق الشريعة الاجتماعي تعني ميلاد الدولة الحديثة دستوريا في العالم المسلم وفي مثل هذه البيئة لم يعد هناك حاجز لنموسلطة تنفيذية لا تخضع للرقابة.

لكن مع ذلك ظل العلماء يشكلون بما لا يدع مجالا للشك أكثر الفاعلين تأثيرا في عملية الأسلمة رغم كل الظروف التي تعرضوا لها، وخاصة وان دور الحركات الإسلامية التي أخذت تظهر مع الثلاثينات في الدعوة كان غير كاف. بيد ان الحوادث التي شهدتها المنطقة لاحقا دفعت بالقوى الإسلامية إلى تتصدر المشهد اليومي المعارض للدولة بينما بقيت استراتيجية العلماء قائمة على خيار التفاوض وليس المواجهة، الأمر الذي ولد حالة غاضبة من قبل الشباب الإسلامي وحتى من قبل الحس الاجتماعي العام بشكلعام تجاه السلطة الدينية التقليدية، وخاصة ان الذاكرة الجماعية الشعبية بقيت تحتزن صورة لعلماء الدين بوصفهم المعبرين عن الحس الاجتماعي العادل داخل المجال العام، ما دفعهم الى تبني مقولات سيد قطب حول الحاكمية كرد فعل على مبدأ إطلاقيه دولة ما بعد الاستقلال، وخاصة ان هذا المفهوم بحسب أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة برينستن مايكل كوك كما عبر عنه في كتابه « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ناتج في الأساس من أزمة الدولة الوطنية المصرية في الخمسينات.

وبالرغم من عدالة مطالب هذه الحركات، فان أبناء هذه الحركات قد وقعوا من خلال تبني مقولات «الإسلام دين ودولة» في شراك ما تصوروا مقاومته، بأن استبطنوا فلسفته فباتوا أسرى لديناميات الدولة الحداثوية، وإعادة تدوير وإنتاج الدين ليغدو رافدا لمشروع آخر بحيث بقي منطق انتصار الحداثة على الدين سائدا.

وبعد التعثر الذي شهده مسار الحركات الإسلامية في مرحلة الثمانينيات، وفي ظل غياب أي قنوات سياسية بديلة، أخذ العديد من الأوساط الشعبية ينظر إلى الممارسات الدينية كوسيلة للمقاومة السلمية، باعتبار ان الأخلاقيات الإسلامية في مضمونها كانت تعارض سلوك السلطات السياسية التي كانت تفتقر إلى أي أساس أخلاقي.

الأمر الذي ساهم لاحقا في انزلاق العديد من النخب المدينية في عدد من البلدان العربية نحو سلفية جديدة أخذت تسعى إلى القيام بأسلمة جديدة من خلال توظيفات متعددة الأوجه في أوساط المجتمع المدني. ولذلك كان انحسار الإسلاموية السياسية في هذه الفترة قد ترافق مع تقدم الإسلام كظاهرة اجتماعية.

ما بعد الدولة القومية:

في هذه الأثناء وبعد نهاية الحرب الباردة كان الصعيد العالمي يشهد عددا من التحولات التي أخذت تشير إلى حدوث تغييرات في البنيان المادي للدولة القومية والنظام العالمي.

وضمن هذا السياق الجديد، أخذ البعض يروج للفكرة التي تقول بأن للولايات المتحدة الأمريكية حق شن الحرب حالما تجد نفسها في مواجهة تهديد بعدوان يمكنه ان يعرض مصالحها للخطر.

فالعدواليوم بحسب هذا المنطق بات أمر عاديا (إذ جرى اختزاله إلى مجرد هدف للقمع البوليسي الروتيني المألوف) من جهة، وصار مطلقا (بوصفه عدوا يهدد النظام الأخلاقي برمته) من جهة ثانية. وربما شكلت حرب الخليج النموذج المتكامل لهذا المعنى الدلالي الجديد. بيد ان هذا البعد الامبراطوري الجديد، الذي بات يستند إلى أدوات العولمة الجديدة، كان لا بد ان يشهد بحسب مايكل هاردت وانطوني ونيغري في كتابهما «الإمبراطورية» مقاومة من قبل العديد من القوى والحركات عبر الاعتماد على نفس الاليات والمنطق الفلسفي لمفهوم الحرب العادلة. الأمر الذي برز بشكل واضح في حالة الشرق الأوسط من خلال ولادة ظاهرة الجهاد العالمي، كرد فعل على حالة الانسداد الاجتماعي الوطنية، وحالة التوحش الأمريكية التي بدت في الجوانب السياسية والعسكرية عبر الانتقال من قتال «العدوالقريب» إلى مواجهة «العدو البعيد».

ولعل ما يدعم هذا الرأي ان العودة لقراءة تاريخ فكر القاعدة تظهر لنا ان هذا التنظيم كان منقسما في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينيات بين التيار المصري الذي سعى إلى تبني رؤية ثورية اجتماعية، وإلى تبني فكرة القاعدة للإطاحة بالحكومات العربية، بينما كان بعضهم الآخر مثل الشيخ أسامة بن لادن أقرب إلى الموقف الجهادي الكلاسيكي الساعي إلى تشكيل قوة نخبوية للرد على أي احتلال لبلد مسلم.

بيد ان نقطة التحول، تمثلت في تنكيل النظام السعودي بالمعارضة الصحوية في سبتمبر/أيلول 1994، ما قاد بن لادن إلى الاقتناع بأن الاعتراض على الوجود العسكري الأمريكي بالطرق السلمية لا يجدي نفعا. وبحلول عام 1995 توصل بن لادن إلى استنتاج مفاده ان الحرب باتت مع الولايات المتحدة الأمريكية

وبذلك ما عاد هذا العنف التي أخذت تروج له بعض الحركات الجهادية، ناجم بالأساس عن رواسب ثقافية إسلامية، بمقدار ما أخذ يدل على ان هذا العنف بات يتموضع في التنافس المحاكي، بين الجماعات والبلاد التي ترغب كلها في ان يقلد بعضها بعضا. ولذلك وبحسب رأي أستاذة الانثروبولوجيا في جامعة لندن (مضاوي الرشيد) الذي كنا قد أشرنا اليه في مقالة سابقة (حكاية الجهادي العابر للقوميات) فإن أبناء الحركات الجهادية باتوا يشاركون بأسلوب مشابه للطريقة التي تكافح بها الليبرالية الجديدة الغربية لتكون مهيمنة من حيث هي رؤية للعالم، بحيث يكون الدين حاسما في السرد الجهادي عبر جعل الإسلام مهيمنا في العالم، لا جعله على قدم المساواة مع السرديات الأخرى.

انحسار دور الذاكرة الدينية

(سوق ديني جديد):

وبالرغم من ان الولايات المتحدة الأمريكية نجحت ظاهريا في قصم ظهر الحركات الجهادية العالمية بعد حرب أفغانستان، وفي الوقت الذي ظن به العالم بأن زمن هذه الحركات قد ولى، فإن مفاعيل العولمة بقيت تدفع وتنظم إلى اقصى مدى عددا من الظواهر، ولا سيما منها إزالة الإقليمية على صعيد العامل الديني.

ففي ظل بروز فكرة الفردانية الحداثوية وما عرفه الناس من حركية في أنشطتهم اليومية، كل ذلك جعل الفرد يدخل في نوع من سوق دولي كبير للرموز الدينية، فيختار منها ما يشاء ويعرض عما يريد. ومن ثم يخلق لنفسه توليفة لرموزه الدينية الخاصة به. وهذا ما بتنا نجده عند المهاجرين مثلا أوعند أبنائهم. وأنتج كل ذلك لديهم ثقافة دينية لا تربه لها ولا تاريخ مما خلق وضعا جديدا يتميز بتعدد مصادر المعرفة الحديثة والمعاصرة مقابل تقلص دور الذاكرة الدينية على حد تعبير الانثروبولوجي المغربي محمد الصغير جنجار.

وقد ترافقت هذه التحولات على صعيد التدين لدى الشباب المسلم في أوروبا، بتزايد حالة الاغتراب لدى هؤلاء الشباب الناتج عن العلمانيات الحازمة من جهة وعودة سيطرة الأحزاب الدينية المسيحية في بعض الدول. الأمر الذي دفع هؤلاء الشباب إلى البحث عن بديل مثالي من خلال اعتماد الإسلام الطهراني كبديل هوياتي في ظل عدم الاعتراف بثقافته. وخاصة ان هذا الانتماء يؤمن لمعتنقيه قدرة على القفز من الواقع والعودة إلى المخيال الديني المبكر (زمن السلف الصالح) عبر التضحية ببعض المنافع المباشرة (التواجد في أوروبا) والقيام بهجرة دينية حسب وصفهم إلى العراق وسوريا بشكل كبير لاحقا، ه وما يكسبهم مكانة تترجم إلى تفوق أخلاقي على الأرض مقارنة بالمكانة الهامشية التي يعانون منها في بلدانهم الأوروبية.

في ظل هذه الديناميات الصامتة كان المسؤولون الغربيون والأمريكيون يرتكبون أكبر خطيئة في تاريخ السياسة المحلية والإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط، عندما قرروا تدمير الدولة العراقية، مقدمين بذلك أكبر هدية لخروج طوفان الثورة الخمينية.

فقد كان احتلال بغداد عام 2003 بداية لمد شيعي جديد بعد بروز نمط قيادة شيعية أخذ يقنن ويعقلن الدور السياسي للحوزة الشيعية. كما أخذت تعبر عن منحى ميثولوجي في السياسات الشيعية في المنطقة بقيادة إيران، بحيث بات يعبر عن نفسه عبر عمليات قتل يومية تجاه السنة في العراق وعمليات أمنية تخريبية في دول الجوار وثأرية في الأقاليم البعيدة، وتظاهرات ومواكب مليونيه وحروب هنا وهناك.

ولذلك، في ظل العوامل التي اشرنا اليها، فإن حالة العنف السلطوية الدموية التي شهدها الربيع العربي، وتجاهل المجتمع الدولي لهذه الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين، وامتداد اثاره إلى بعض الدول التي كانت تعيش حالة من الاحتقان الاجتماعي والطائفي، دفعت جميعها إلى ان تتفتق الذاكرة السنية ليس في المنطقة فحسب ولكن في فضاءات المسلمين في الغرب، لتعيد بناء سرديتها من جديد حيال أحداث الماضي، ولتتفاعل العوامل السالفة الذكر (سلفية جديدة، ضعف على المستوى الدولي، تدين طهراني إسلامي في الغرب، ميليشيات شيعية وقتل طائفي ) ويتولد عنها خليط مركب من الحركات الجهادية ذات الطابع العولمي والمحلي ( دولة العراق والشام الإسلامية)، الأمر الذي دفع وبحكم هذه العوامل مجتمعة إلى انطلاق أكبر موجة من العنف المذهبي والديني في المنطقة منذ عقود.

باحث سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى