صفحات الرأي

الجوع في العالم ظاهرة سياسية/ بونو بارمانتيير

 

 

 

الآن، وقـد بات الإنسان المتقدم يملك معارف حقيقية في مجال الزراعة، وقدراتٍ حقيقية في ميدان النقل، وبات يسـتطيع تقنياً مواجهة التقلّبات المنـاخية، فإنـه لم يعـد بالإمكـان النظر إلى الجوع لعنةً أو حادثاً عارضاً، أو قَـدَراً محتوماً. فالجوع بنـاءٌ إنساني حقاً وصـدقاً. واليوم، يمكن أن يموت أو يهلك قومٌ جوعاً في بلد يغصّ بالغذاء، بل يقوم بالتصدير منه، في حين أنـه يمكن توصيل الغذاء الى أي مكان كان، بما في ذلك المناطق نصف الصحراوية، أو التي تعاني من إفراط في تعداد السكان. وتستطيع الكوارث الطبيعية، ولا ريب، أن تعيد المجاعة إلى سيرتها الأولى، لكن تواصل المجاعة واسـتمرارها هـو دائمـا مسؤولية بشر، ونتيجة عوامل محض إنسـانية.

وعلى هذا، فإن الجـوع ظاهرة سياسية. إنـه نتيجة الجهل والحرب وقصور السلطات الرسمية والنزاعات التي تدور حول الاسـتيلاء على الموارد الطبيعية. وهو، إلى هذا، يتحوّل، يوماً بعد يوم، إلى نتيجة فرعية من نتائج العولمة: عقيدة “السـوق الحـرّة” التي تبثها وتنشرها المؤسسات المالية الدولية، وغياب الرقابة العمومية عن الشركات المتعدّدة الجنسيات، تحمل كلها مسـؤولية ثقيلة في ذلك. فقـد مارس “القوم” سياسات معقدة من نشر الجوع. وهـذا خبر سيئ وخبرٌ جيـدٌ في آنٍ معـاً. ذلك أن مـا صنعه الإنسان يستطيع هو نفسه تقويضه، وإذا كان الجوع بادئاً، حدثاً سياسياً، فإن اجتثاثه يكون سياسياً أيضاً.

“وفقاً لمنظمة الأمم المتحـدة للتغذية والزراعة (فاو) تنبغي زيادة الإنتاج الزراعي العالمي، من الآن حتى حدود العام 2050، بنسبة 70%”

حتى العام 2050

لا بـدّ لكي يأكل الجميع من إنتـاج ما يكفي الآكلين. ووفقاً لمنظمة الأمم المتحـدة للتغذية والزراعة (فاو) تنبغي زيادة الإنتاج الزراعي العالمي، من الآن حتى حدود العام 2050، بنسبة 70%. ويتفسّر هذا الرقم بالتأليف بين عاملين، زيادة سكان العالم الذين يفترض أن يصلوا إلى 9,7 مليارات نسمة في العام 2050، وتطوّر العوائد الغـذائية، ولاسـيما لدى أبناء الطبقات الوسطى. فهـؤلاء يزدادون استهلاكاً للحم والحليب، ويمتصّون، على نحـوٍ غير مباشر، كمية متزايدة من الموارد الغذائية النباتية. في العام الجاري 2015 ذهب نصف الإنتاج العالمي من القمح وثلاثة أرباع إنتاج الذرة والصويا لتغذية المواشي.

زيادة السكان وتحسّن شروط الحياة تجبران على زيادة الإنتاج. وهذا هـو الحـال في آسيا، بخاصة التي ستستقبل قرابة مليار نسمة إضافيين في العام 2050، والتي لا تني طبقاتها المتوسطة تتوسع، وعلى وجه السـرعة، الأمـر الذي يستدعي مضاعفة الإنتاج الزراعي. وهو وضع يمكن مقارنته بالوضع في إفريقيا الواقعة جنوبي الصحراء، على الرغم من أن الطبقات المتوسطة هناك لا تزال قليلة العـدد، فلا بـدّ من مضاعفة الإنتاج الزراعي ثلاثة أضعاف لتغذية قارة سيقارب تعدادها الملياري نسمة في حدود العام 2050 (وبل مضاعفته خمسة أضعاف إذا كان الأهالي الذين لا يزالون نباتيين إلى حـدٍ بعيد اليوم، سسيصبحون أكلة لحوم).

وإذا كان من الضروري إنتاج مـا يكفي، فلا بـدّ كذلك من تلافي إنتاج النافل، ومـا لا طائل فيه. وهكذا، لا بـدّ من التسـاؤل حول إنتاج اللحم ومنتجات الألبان التي يؤدي اسـتهلاكها المفرط في الشمال، وهو إفراطٌ يسيء للصحة في الواقع، وله آثار مأسوية على بلدان الجنوب. وثمّة اختلال آخـر ينبغي لـه أن يستثير انتباهنا، ألا وهـو الهـدر. إذ تعتبر منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة أن 1,3 مليار طن من الأغـذية تُرمى سنوياً، وتمثل ثلث المحصول العالمي. وتقع هذه الخسارة في بلدان الجنوب أساساً، بسبب فقدان تجهيزات التخزين والنقل المناسبة فيها. أمـا في بلدان الشـمال، فإن نمـط الحياة هـو مـا يسبّب هذا الهـدر. وعلى هذا، بات من المُلحّ والعاجل تقليص هذا الهدر في كل مراحله.. من الحقل إلى المـائدة.

تُضاف إلى هذا ظاهرتان شديدتا الخطورة. أولاهما المنافسة بين إنتاج الغذاء وإنتاج المنتجات الصناعية على الأراضي الزراعية. ذلك أنـه إذا مـا واصلنا تكريس قسم متعاظم من الأراضي الزراعية الخصبة، من أجل إنتاج الطاقة (مثل الوقود الزراعي) وإنتاج المواد الأوليّة الصناعية (النسيج إلخ..)، فإننـا نوشك أن نجـد عنتـاً في أن نتغذّى على نحـوٍ مسـتدام. ثم تأتي بعـد ذلك المنافسة القاتلة من أجل الوصول إلى الأراضي، أو “تخطف الأراضي Land Grabbing” كما يقول الأنجلوساكسون. فـ”مقاولو” البلدان الصناعية، أو “أصحاب المشروعات” من البلدان الصناعية أو الصاعدة، يحصلون على مساحات زراعية شاسعة في البلدان الفقيرة بأسعار لا تذكر، وبأساليب غالباً مـا تكون أساليب نهب، وبمفاعيل تصبّ في ميدان المضاربة، لإنتاج الغذاء أو لإنتاج الطاقة لمصلحتهم. ووفقاً لبعض المنظّمات غير الحكومية، فإن 200 مليون هكتار انتقلت ملكيتها من يـد إلى يـد، فيما بين العامين 2005 و2010، أي حوالي سبع الأراضي الزراعية على أرض الكوكب.

الليبرالية في ميدان الزراعة

من الأفضل من أجل إطعام كل فم، أن تقترب أماكن الإنتـاج من أماكن الاسـتهلاك. أمـا دفعنا إلى الاعتقاد، كمـا تفعل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، بأن في وسعنا نقل مئات ملايين الأطنان من المنتجات القابلة للتلف والهلاك، على عشرات آلاف الكيلومترات، لإيصالها إلى آخـر قرية معزولة، لا يملك أهلها من المـال ما يشـترون بـه ما يأكلون، فإنمـا هـو ضربٌ من الاحتيال الثقافي.

“1,3 مليار طن من الأغـذية تُرمى سنوياً، وتمثل ثلث المحصول العالمي. وتقع هذه الخسارة في بلدان الجنوب أساساً، بسبب فقدان تجهيزات التخزين والنقل المناسبة فيها”

ينبغي للتجارة الدولية أن تسـتمر، بكل تأكيـد، لكن لا ينبغي الاعتماد عليها لتغذية المعمورة. “التبادل الحـر” الذي يضع موضع التنافس شركاء غير متساوين، ويستحدث مفاعيل ارتهان وتبعية، هـو، في الغالب، صفقة غبن. فبالنظر إلى الفوارق الهائلة في الإنتاجية في العالم الزراعي (حيث تتراوح معدلات الإنتاجية من 1 إلى 200)، فإن التجارة الدولية تـدمّر فلاحي البلدان ذات الزراعة الأقل فاعلية تدميراً مطلقاً. وهذا مـا فهمته المناطق الأكثر إنتاجاً في العالم ـــ أميركا الشمالية، أوروبا الغربية والصين ـــ حيث يجري التقدم الزراعي بفضل المساعدات العمومية، وتحت حماية الحواجز الجمركية الثقيلة المنيـخة. وهـو مـا تأبـاه هذه البلدان على البلدان الإفريقية، وتنكره عليها بدواعي الفضائل التي يعزونها إلى “التبادل الحـر”.

للمعتقدات الليبرالية التي تروّجها المؤسّسات الدولية في ميدان الزراعة والتغذية، مفاعيل مأسوية، في حين أن الاضطراب المالي والمضاربة لا يتوقفان عن التوسّع: حين تتدنّى المواسم ويسوء الحصاد، ترتفع الأسـعار، وتحدث المجاعات وتقع الاضطرابات الاجتماعية في بلدان عديدة، وحين تجود المحاصيل تنهار الأسعار، بما يؤدي إلى هجرة ملايين الفلاحين نحو المدن.

تعزيز السيرورات البيولوجية

“الثورة الخضـراء” التي أنجزتها بلدان عديدة، غداة الحرب العالمية الثانية، أحدثت معجزات. فبفضل تحسين الطرائق الزراعية، ازداد الإنتاج العالمي من القمح والأرز والحليب، ووصل مـا بين 1970 و2010 إلى أكثر من الضعف، في حين أن إنتاج الذرة أو الثمار الطازجة ازداد ثلاثة أضعاف، بينما تضاعف إنتاج الخضر أربعة أضعاف، وإنتاج الصويا ولحم الدجاج أكثر من ستة أضعاف.

غـير أننـا كنا قـد وصلنا، عنـد منعطف القرن، إلى نهاية سيرورة التحسّن هذه. فقـد بقيت من جهة أولى، مناطق بكاملها خارج هـذا التطوّر، نتيجة الافتقار إلى تنظيم اجتماعي متكيّف، وإلى دولة متهيكلةٍ متماسكة البنية، والافتقار كذلك إلى إرادة سياسية، أو بسبب الحرب وعدم الاسـتقرار. كمـا أن نظامـاً يقوم، من جهة أخرى، على امتصاص واسـتنفاد موارد كونية غير متجدّدة، لكي يطهو طعامه، هـو نظامٌ يقترب من ملامسة حدوده القصوى. فنحن نعرف كيف ننتج الكثير بالكثير والمزيـد بالمزيد، وبات علينا أن نتعلم كيف ننتج الأكثر والأفضل… ولكن بالأقل.

ثمّة سبيلان عظيمان، أو طريقـان كبيرتان، وغالباً مـا تكونان متناقضتين، ويصعب التوفيق بينهما، تتقدمان إلينا لنسلكهما من أجل مواجهة هذه المشكلة. وقوام السبيل الأول هـو مواصلة “الثورة الخضـراء”، بالاستناد إلى علم الوراثة، وباسـتخدام كميات متزايدة من الكائنات المعدلة وراثياً، أو المحـوَّرة جينياً (OGM). هذه التكنولوجيات التي تشهد طفرة وتوسّعاً عظيمين، تطرح مشكلات عدة، بيئية سياسية وخلقية وإلخ.. لا سبيل لتناولها هنا، لكنها تسـتثير شكوكاً جديدة حول “الأفضل” الذي يمكن أن تأتي هذه التكنولوجيات به. أمّـا الأكثر أو “المـزيد” فليس أمـراً مؤكداً، كائناً مـا كانت ادّعاءات دعاته ومروّجيـه؛ فهي قـد تتمكّن من تغذية الطبقات الوسطى التي تملك قدرة شرائية نقدية في العالم. ولكن، ليس الجماهير الجائعة الفقيرة المدقعة التي لا تملك نقـداً، والتي يمكن أن تطـردها هذه الصناعة الزراعية الجديدة خلال ذلك من أرضها.

أمـا السبيل الآخـر، فهي طريق الزراعة البيئية، أو “الزراعة المكثفة بيئياً”. فبدلاً من السعي الدائم إلى إنكار المسارات الطبيعية أو معاندة السيرورات الطبيعية، فإن من الخـير الاندراج فيها والدخول إليها لتحفيزها تحفيزاً أفضل أو أمثل، أي “تعزيز السـيرورات البيولوجية”. فعلماء الزراعة يبرهنون على أن في الوسع اليوم بلوغ ذات مردودية الزراعة الكيماوية بالطرائق الطبيعية (8 أطنان من القمح، 10 أطنان من الذرة، أو 50 طناً من البطاطا في الهكتار). ومعنى هذا في أميركا الشمالية وأوروبا أن “تنتج المقدار نفسه بنوعية أفضل”. أمـا في البلدان الاسـتوائية، ولاسـيما في إفريقيـا، فإن الإنتاجية الزراعية يمكن أن تـزيـد زيادة جذرية بفضل هذه الطرائق، خصوصاً أنهـا في بداياتها، وأن مـا يزيـد في نجاعتها هو تكيفها مع الزراعة المنزلية أو العائلية الصغيرة.

“ازداد الإنتاج العالمي من القمح والأرز والحليب، ووصل مـا بين 1970 و2010 إلى أكثر من الضعف، في حين أن إنتاج الذرة أو الثمار الطازجة ازداد ثلاثة أضعاف”

ضمــان حصول كل إنســــان على الغـــذاء

لا يكفي أن ننتج إذا أردنا لكل إنسـانٍ أن يأكل، بمـا في ذلك البشر القاطنون في المدن الصفيحية، أو في الأرياف النائية، فإنـه لا بـدّ حينذاك من التأكـد أن في وسع كل إنسان امتلاك الإمكانية المادية (الفيزيقية) للوصول إلى الغذاء الذي لا يسـتطيع هـو أن ينتجه، وأن يتمتع بمـداخيل تكفي للحصول عليه.

هذا هـو جـوهـر مـا تسمّى سياسات “جوع صفر”، أو “صفر جائعين” التي بدأت في البرازيل. فعنـدما وصل الرئيس لولا دا سـيلفا إلى السلطة في العام 2003، لاحظ أنـه في بلده الزراعي الكبير الذي يصدّر بكميات كبيرة الصويا والذرة والقهوة والسكر وعصير البرتقال واللحوم، هناك 70 مليون من البرازيليين يعيشون في حالة انعدام أمن غذائي (أكثر من ثلث السـكان). يومها، وجـد شعاراً بسـيطاً ومفرط القوة ليرفعه: “جوع صفر”، وقرر التدخل والتأثير على ميزانيات ربّات الأُسـر، لتُصرف لهن معونة شهرية، من نوع المخصّصات العائلية أو المساعدات العائلية تدفع على نحـوٍ حديث وإلكتروني، عبر بطاقات اعتماد أو بطاقات الهـواتف المحمولة، الأمـر الذي يتيح تكريسها لشراء المنتجات الغذائية، وهـذا مع تدابير مواكبة، من أجل دعم الزراعة العائلية، وأخرى للتجارة المحلية أو للغذاء في المدارس. وقـد أتاح هذا البرنامج بين 1999 و2009 لعشرين مليون برازيلي الخروج من الفقر، وتقليص نسبة الفقر بين البرازيليين من 28% إلى 10% من الأهالي. أمّـا سـوء تغذية الأطفال فتدنى بنسبة 61% ووفيات الأطفال بنسبة 45% والفقر الريفي بنسبة 15%، الأمـر الذي كان يؤاتي الزراعة المحلية واسـتهلاك المنتجات المحلية. وقد دفعت نجاحات الحكومة البرازيلية، والسـابقة التي أوجدتها، بلداناً أخـرى إلى اقتفاء أثرها؛ فهكذا كان حال المكسيك مع “الحملة الوطنية ضد الجوع”، والهنـد مع القانون الذي أصدرته حول الأمن الغذائي (قانون الأمن الغذائي القومي، أو الوطني).

وخلافاً للمظاهر، فإن مـا لم تفلح البشرية مطلقاً في صنعه على سطح الأرض، أي إزالة الجـوع، يبـدو أفقاً معقولاً من آفاق القرن الحـادي والعشرين، بل إن الإنسانية لم تكن يومـاً قريبة من التوصل إلى ذلك، كما هي اليوم. لكنها لن تتوصل إليه، إلاّ إذا توفرت لها إرادة قوية، حازمةٌ مصممة، ثابتة، منظَّمَة. وثمّـة مواطنون يحملون هـذا الأمل في العالم كله. يبقى إجبار الحكومات على القيام بمسـؤولياتها.

ترجمة وإعداد: أحمد فرحات

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى