صفحات الناس

الجيش السوري يطارد ٤٨ إيرانياً معتقلين لدى « الجيش الحر» لإطلاقهم… أو قتلهم/ فداء عيتاني

 

-1-

في التاسع من كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣ نقلت وسائل الإعلام صور أكثر من ألفي معتقلة ومعتقل يخرجون من سجون النظام السوري، ويحصيهم وفد تركي من جمعية خيرية، ثم يوقفهم ضباط الأمن ويجبرونهم على الهتاف بحياة الرئيس بشار الأسد قبل أن يتركوا في الشوارع ليجدوا طريقهم إلى حيث يريدون، وفي الوقت نفسه كانت تنقل صور ٤٨ إيرانياً يجمعون في باصين، وينقلون وهم يضحكون نحو حريتهم أيضاً.

يوم التبادل المفترض قالت قناة «العالم» الإيرانية انه «كانت هنالك مطالب للمجموعات المسلحة، مثل الإفراج عن بعض المعتقلين وتحديداً لبعض الأسماء، ولم يتم التجاوب مع المجموعات المسلحة في ذلك”. مضيفة: «كانت هناك خطوة إيجابية جداً من قبل الحكومة السورية على سبيل المساعدة، عبر إطلاق سراح بعض الأشخاص ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء، وكان من المفترض إطلاق سراحهم من السجون السورية، وسيتم ذلك الآن».

أكدت إيران أن المجموعة المعتقلة من الحجاج الزوار للسيدة زينب، بينما قال الثوار إنهم من الخبراء الإيرانيين. وبين الاثنين وقف الكلام وانتهت عملية التبادل المفترضة، وبقي الناشطون في سجون النظام، وعاد خبراء الحرس الثوري إلى الحرية مجدداً.

وما بين الأردن وتركيا انتشر من بقي حياً من شهود على تلك المرحلة، إضافة إلى الداخل السوري، وهم يروون عملية القبض والتفاوض وإطلاق سراح الخبراء الإيرانيين كالتالي.

خبراء لا زوار

أبو إبراهيم الإدلبي، رجل من الشمال السوري، اربعيني، من سكان العاصمة دمشق، كان احد قادة كتيبة البراء، وسيكون قائد عملية الخطف للزوار، ومع تحول الثورة إلى السلاح أقام أبو إبراهيم شبكة علاقات في دمشق لمصلحة الثورة، ومن ضمن شبكة علاقاته رجل يعمل في شركة سياحية في العاصمة، هذه الشركة، كما غالبية شركات السياحة في العاصمة السورية تقتصر أعمالها على نقل سياح وركاب من المطار وإليه، أو أخذهم في جولات داخل البلاد، كان ذلك قبل الثورة، أما مع تقدم الثورة في المناطق فقد باتت الحركة أصعب والسياحة شبه متوقفة.

اتصل العامل في مكتب السياحة بأبو إبراهيم، وأخبره أن ثمة حافلتين ستتجهان من المطار إلى فندق ايبلا الشام، وعلى متنهما أكثر من ٨٤ إيرانياً، وأن ثمة حافلة ثالثة فيها نساء. وأكد له موعد الانطلاق، كان ذلك يوم الرابع من آب ٢٠١٢.

قبل الموعد انطلق أبو إبراهيم يخبر قادته. كان الفصيل قد توافق على قيادة أبو النصر (عبد الناصر شمير)، بصفته القائد الأعلى لكتيبة البراء، إلا أن أبو النصر لم يهتم كثيراً بمعلومات أبو إبراهيم حول باصات الإيرانيين، واعتبر أن الخبر قد يكون كاذباً أو كميناً. وعلى رغم إصرار أبو إبراهيم، وتأكيدات العامل في الشركة السياحية بأن هؤلاء ليسوا زواراً، وأن خبرته ومعلوماته سمحت له بالتمييز بأن هؤلاء من الخبراء الإيرانيين، إلا أن أبو النصر أهمل المعلومات وتمنع عن التجاوب.

في تلك المرحلة كانت المناطق لا تزال تحت سيطرة قوات النظام السوري، ولم يكن ثمة مناطق آمنة وأخرى خطرة، كانت حركة القوات العسكرية شديدة التعقيد، والمناطق متداخلة ببعضها، وفي داخل بعض القرى كان يمكن الحركة، ولكن على مداخلها وعلى مداخل المدن يمكن الوقوع بسهولة في حواجز للنظام.

ولكن في الوقت عينه كانت الفترة التي مضت على انطلاق الثورة والأعمال العسكرية المضادة للنظام كافية لإظهار الاهتراء الكبير لدى الجيش السوري وأجهزة مخابراته العسكرية كافة. كان الثوار يتحركون ويضربون، وأحياناً يقعون ضحايا لأعمال الكمائن الاستخباراتية، وفي غالبية الأحيان ينجحون، وكان النظام قد بدأ يستنجد بالقوات الإيرانية ويحيط أجهزته وقواته العسكرية بالخبرات الإيرانية وتلك الآتية من لبنان مع كوادر ومقاتلي حزب الله.

ويؤكد أحد القادة في الجيش الحر في منطقة دوما بأن أبو إبراهيم لم يتوقف لحظة عند رفض أبو النصر الاهتمام بالمعلومات، بل وبعد عدم اكتراث أبو النصر اتصل أبو إبراهيم بأبو محمود نمورة، قائد كتيبة الحمزة في دوما، وأخبره بما لديه من معلومات، إلا أن الآخر أيضاً لم يبد كبير اهتمام. فلجأ إلى أبو عباد الأخرس، وهو من دوما أيضاً، فاتفق الاثنان على متابعة المعلومات.

في اللحظة الأخيرة اتصل الشخص من شركة السياحة وأخبر أبو إبراهيم بأن الرحلة تأخرت ليوم واحد. وفي اليوم التالي تأكدت المعلومات حول مجيء الإيرانيين، عندها قال أبو إبراهيم لأبو عباد: “سأذهب لتنفيذ عملية الاعتقال، ومن يرغب فليرافقني”.

الساعة الثامنة صباحا كان أبو إبراهيم قد أخذ حوالي ٦٥ مقاتلاً من المتطوعين معه ورافقه أبو عباد، ووصل إلى طريق قصر المؤتمرات. تأخر الباص، واشتبه بعض المقاتلين بأحد الأشخاص الذي تبين لاحقاً أنه مخبرهم، ولكن في هذه الأثناء مر الباص الأول من دون أن يتمكنوا من إيقافه، ثم مر الباص الثاني فأوقفوه، وكذلك الثالث، الذي كان به نساء، ولكنهن لسن نسيبات الموجودين في الباص الموقوف.

يصف مقاتل من كتيبة البراء وأحد قادة الجيش الحر في المنطقة المشهد بالجنون، فقد كانت السيارات تعبر على الطريق الدولية الفاصلة بين المطار والعاصمة من دون أن تلتفت إلى ما يجري على الطريق من انتشار للمقاتلين، بعضهم اعتقد بأنهم عناصر من المخابرات، وبدأت السيارات تتوقف لاعتقاد سائقيها بأنهم أمام حاجز، ومر شرطي دراج، وشاهد المقاتلين على الطريق، يحيطون بالباص. خمسة أو ستة مقاتلين على طرف الطريق، وغيرهم ينتشرون هنا وهناك، ولكن الدراج آثر السلامة فلم يقترب وبالمقابل لم يعترضه أحد من المقاتلين.

بعد أن نقل أبو إبراهيم الباص المليء بالشبان والرجال الإيرانيين انطلق نحو أبو النصر، بصفته قائد كتيبة البراء، ولحظتها أعلن أبو النصر عن تبني العملية يوم الخامس من آب ٢٠١٢، عبر فيديو مصور في المكان الأول الذي وصله الباص.

تنقل وحملات قتل

أبو منير (اسم وهمي)، شاب عشريني من دوما، من الذين شاركوا في التظاهر في بداية الثورة، ولاحقاً حمل السلاح إلى جانب رفاقه لحماية التظاهرات، ثم كان يوم الرابع من آب ٢٠١٢ حين أخبره أبو محمود نمورة بأن يستعد لعمل في الصباح، إلا أن المجموعة تحركت وترك أبو منير العشريني نائماً في منزله، كانت القرى لا تزال مطوقة من أجهزة الأمن، الحراك يتم في داخلها أو سراً.

التحق أبو منير بمجموعته فور عودتها من خطف الباص يوم الخامس من شهر آب عام ٢٠١٢، وانتشر خبر وصول الإيرانيين المخطوفين إلى مزرعة (فيلا) في قرية المحمدية.

“بدأنا بتفتيش الإيرانيين، وكنت قد عدت إلى العمل كفرد من مجموعتي بعد عودتها من عملية الأسر”، يقول أبو منير.

في الباص عثر المقاتلون على البطاقات العسكرية للإيرانيين، وكانوا قد تخلصوا منها برميها بداخل الباص وتحت المقاعد، إذ لم يكن بإمكانهم فتح نوافذ الباص للتخلص من أوراقهم الحساسة.

وعلى الفور بدأت عمليات التحقيق مع المعتقلين، كان بينهم مترجم أفغاني وشيخ دين، وفي خلال التحقيق كان يجري أيضاً التخلص من الباص الذي كانوا يستقلونه.

بقي الإيرانيون تحت التحقيق ساعات النهار كلها، وكانت الحركة صعبة في المنطقة، حاول المقاتلون جهدهم عدم التحرك أو كشف مكانهم حتى المساء، وفي هاتف أحد الإيرانيين عثر المحققون على فيديو يظهره وهو يعمل على سرية مدفعية، ويقصف، ولكن لم يتمكنوا تحديد الدولة، أهي سورية أم إيران.

في التاسعة مساء انتدب أبو منير مع سبعة من المقاتلين الآخرين لنقل وحماية الإيرانيين، تم نقل الجميع بواسطة خمس سيارات قبل صلاة الفجر، “كنا نضعهم فوق بعضهم، كل عشرة في سيارة، لم يكن متاحاً تشكيل موكب كبير ولا العثور على العديد من السيارات”.

انتقل الموكب إلى مسرابا، وتم تقسيم المعتقلين إلى قسمين، قسم في منزل وآخرين في مدرسة. وفي المقر في المحمدية بقي أحد الضباط الإيرانيين، والشيخ والمترجم وسائق الباص، واختبأ الجميع في مسرابا لمدة ثلاثة أيام، حاول خلالها المقاتلون فهم خلفيات الوفد الإيراني، إلا أن أحداً منهم لم يكن يجيد العربية، فكان المقاتلون ينتهون بضرب معتقليهم لعدم تجاوبهم.

“لقد طلب منا عدم التعرض لهم بأية إساءة، كما أنه طلب منا عدم سؤالهم أي شيء، فهم لا يعرفون العربية إطلاقاً، ولكن الحشرية من جهة والحقد في نفوسنا ونزعة الانتقام جعلتنا نخالف أوامرنا”. يقول أبو منير.

في اليوم الأول للخروج من مسرابا وصلت حملة عسكرية من قوات النظام إلى تخوم المنطقة، كانت الحملة تقنص وتقتل كل من يتحرك، وعدد عناصرها كان كبيراً نسبة لما شاهده الثوار سابقاً، أضف إلى أنها اتسمت بالعنف الشديد.

«أحد الشبان الناجين من الحملة روى لي أنهم كانوا يبحثون في المنازل، وواضح أنهم يبحثون عن الإيرانيين، ولكن إطلاق النار يتم على المنازل قبل الدخول» يروي أبو منير، “واضح أن أوامرهم كانت تقضي بقتل الكل، إيرانيين وثوار كما أخبرني صديقي الناجي من الحملة”.

لم يقتل أحد من الثوار في تلك الحملة، بل تمكنوا من الفرار إلى دير العصافير، وإلى هناك لاحقتهم الحملة، فقاوموا قليلاً وانسحبوا أيضاً من المنطقة. وانقطعت الصلة بين المجموعة التي تحمي الإيرانيين وبين القيادة التي تعمل على تنظيم وضعها في مناطق لا يزال للنظام اليد الطولى فيها.

مفاوضات بمطالب متعددة

على الفور بدأت الاتصالات ترد إلى قيادات الجيش الحر، كان أبو النصر قد سجل شريط فيديو يظهر عدداً من أسراه ويظهره شخصياً متبنياً العملية، ومن لحظتها بدأت المواجهات مع النظام الذي تتبع حركة المقاتلين والقادة، كما بدأت عمليات الاتصال بهدف التفاوض، فتدخل أول من تدخل الأتراك والقطريون بحسب ما يروي أحد قادة الجيش الحر المطلعين على تلك المرحلة.

أرسل الأتراك والقطريون أحد الأشخاص (نتحفظ عن ذكر اسمه) المنتمين إلى حركة الإخوان المسلمين، والذي سبق أن كان على متن إحدى بواخر أسطول الحرية التركي، بغاية التفاوض، فاتصل الرجل بأبو النصر، الذي طالب أولاً بإطلاق سراح المعتقلين لدى النظام، ودخلت لاحقاً مؤسسة IHH الخيرية التركية في خط الوساطة في شكل رسمي، فكانت تمثل الجانب التركي ومفوضة من قطر لأعمال الوساطة بين طهران ودمشق من ناحية وبين الخاطفين من ناحية أخرى.

مع بدء تجميع أسماء المعتقلين المطلوب إطلاق سراحهم، رجالاً ونساء، بدأت مطالب أخرى توضع على الطاولة، وأصبحت تتدرج كالاتي: ١-أسلحة، ٢- ذخائر، ٣- أموال، ٤- معتقلين.

في ذلك الوقت كان الأسرى والمجموعة الحارسة قد أضحوا بحالة عزلة عن قيادتهم: «أصبحت أوامرنا تأتي من قائد مجموعتنا الموجود بيننا بعد أن انقطع الاتصال بقيادتنا» يقول أبو منير.

وتسرب نبأ وجود الإيرانيين مع المجموعة بين أبناء مسرابا، فتم الانتقال مع الفجر نحو منزل قدمه مدني في مسرابا نفسها، وضم الجميع حيث بقوا هناك جميعاً: المخطوفون الإيرانيون، ومجموعة الحماية من دون أن يتحرك أي منهم من المنزل لمدة أسبوع. وسائق الباص هو الوحيد الذي تمكن من الفرار بينما بقي جميع الأسرى بقبضة الثوار يتنقلون مع مجموعة الحماية الأولى نفسها المكونة من ثمانية أشخاص.

«علمنا أن هؤلاء خبراء، من التحقيقات معهم، وبعد انضمام المترجم إليهم، كانوا قد تركوا نساءهم في بلادهــــم، وأتوا للعمل في سورية إلى جانب النظام، بينهم خبراء اتصالات وإلكترونيات وإنشاءات، وضبــــاط مدفعية ومدربين مختــصين من الشبان» يقول أبو منير.

ويتذكر أبو منير أسراه بالقول إن غالبيتهم لم يكونوا يصومون في رمضان، وبعضهم لم يكن يصلي، كان التفاهم أولاً بالإشارة، ثم صاروا يفهمون بعض التعابير العربية. “وبعضهم كان يدخن، فكان يشاركنا حصتنا من الدخان أيضاً” يقول أبو منير.

خلال تلك الأيام من شهر آب وصل إلى المنزل حيث يقبع الجميع سراً رجل وامرأة برفقة مالك المنزل، قال مالك المنزل إنهما من منظمة دولية، وإنهما يرغبان في مقابلة الإيرانيين، فرفض قائد المجموعة السماح بالمقابلة، ولم يلتقهما، ولكنه قرر في المقابل تغيير مكان الإقامة للجميع.

مرة أخرى انتقل الجميع إلى منزل جديد وما زالت القيادة غائبة عن الاتصال بعناصرها، ومكثوا في منزل أحد المواطنين المتطوعين لمدة ١٠ أيام أخرى إلى حين أتى صاحب المنزل واعتذر من الثوار قائلاً إنه لا يمكنه الاحتمال أكثر من ذلك، ولحسن الحظ، كما يروي أبو منير، فان القيادة انتقلت في الوقت نفسه إلى منطقة العب، حيث أعادت التواصل مع المجموعة، ونقلت الجميع إلى مزرعة (فيلا) بين العب والشيفونية، ووضع كل المعتقلين فيها، على رغم أن المناطق كلها كانت لا تزال تحت سيطرة جيش النظام.

-2-

مبادلة الأسرى بأسلحة وأموال… والإفراج عن معتقلين جلبوا من الشوارع

انسحب أبو منير والمجموعة المرافقة، وتم تسليم المعتقلين إلى مجموعة أخرى، وبدأت الأمور تتجه نحو تحرير المناطق، كانت المجموعة الأولى قد أمضت أكثر من شهر وهي تحمي الإيرانيين، ومن بعدها تسلمتهم مجموعة أخرى، لكنها ما لبثت أن تمردت على الأمر، وطلبت إعفاءها من حراستهم.
«الإيرانيون متطلبون، والمجموعة الجديدة لم تحتمل كثرة طلباتهم وتذمرهم الدائم، لقد قال قائد المجموعة الجديدة أبو عدي الحمصي أنه تعب منهم ولا يريد المتابعة، فعدنا إلى حراستهم، كنت وأمير محمود الذي قتل لاحقاً نتولى قسماً منهم ويتولى أبو محمود نمورة قسماً آخر»، يقول أبو منير.
مر أسبوعان على المجموعة الجديدة وهي تحرس الإيرانيين، وحاولت في تلك الأثناء مجموعة أخرى من الجيش الحر خطفهم، لكنها فشلت بعد اكتشاف محاولتها التسلل. وعرض جيش الإسلام على السجانين وقيادتهم تسليمه المخطوفين مقابل «بدل ما» كما يقول أبو منير، على أن يتكفل جيش الإسلام بحمايتهم «ريثما تنتهي المفاوضات»، ولكن هذا العرض رفض أيضاً.
ومنذ لحظة بدء المفاوضات، كان المفاوضون العرب والأتراك يعلمون أبو النصر كيفية الحفاظ على سرية المفاوضات، وعدم إطلاع أي كان عليها، وإبعاد شركائه المحتملين بالعمل حتى لا يكونوا حجر عثرة لاحقاً في طريق التبادل، هذا ما يرويه أحد القادة في المنطقة الذي كان ملتصقاً بأعمال أبو إبراهيم الإدلبي وعدد آخر من القادة المعنيين بالتفاوض.
تغيرت سياسة أجهزة أمن النظام ظاهرياً، وعلى رغم محاولتها للوصول إلى المخطوفين ولو بالقذائف وتصفيتهم إلا أنها في الجانب الظاهر بدأت تسعى لابتزاز الخاطفين لإطلاق سراح الإيرانيين المعتقلين، فتم إلقاء القبض على مجموعة من النساء، من ضمنها زوجة زهران علوش قائد جيش الإسلام، وأتى بيان من الخاطفين ترافق مع تعثر في المفاوضات، بأن عدم إطلاق النساء سيؤدي إلى إعدام جزء من المعتقلين، فأطلقت زوجة زهران.
في المقابل، خطفت القوات التابعة للنظام عائلة أحد المشاركين الرئيسيين في عملية الخطف، واتصلت به لمساومته، فأخبرها بأن عائلته ميتة منذ لحظة اعتقالها. وتوجه مع مجموعته إلى أماكن سكن ضباط في الجيش، واعتقل أربعة من الرتب العالية في القوات الخاصة، وبعد ذلك تمت عملية تبادل على أحد معابر الغوطة الشرقية.
مجدداً ومرة أخرى تم نقل الإيرانيين إلى ملجأ في مبنى في منطقة زملكا، كان الحراس قد ألفوا سجناءهم، وأطلقوا عليهم أسماء جديدة بعد أن يئسوا من حفظ أسمائهم الحقيقية، فسموا هذا محمد وذاك حسن وآخر سفروت، وغيرها من الأسماء. المكان الجديد كان محاطاً بأسوار عالية، فترك السجانون مساجينهم ليلعبوا كرة القدم في الشمس ويتحركون في أرجاء المكان نهاراً، وكان المسبح أحد أفضل هوايات المعتقلين، حيث يمكنهم السباحة منذ فتح باب الغرف عند الساعة السادسة صباحاً.
«أخبرناهم أن ضمانتهم الوحيدة هي البقاء معنا، وأن هروبهم سيضعهم في أيدي مجموعات أخرى قد تقتلهم فوراً، يبدو أنهم اقتنعوا بالأمر، ومرة واحدة فقط حاولوا سرقة سلاح أحد الشبان بعد أن هاجموه، لكن طلقة واحدة فوق رؤوسهم كانت كافية لإعادة الهدوء إلى المكان» يقول أبو منير.
«تخيل أنهم لم يوافقوا على تدخين «الحمراء» (سجائر سورية) وكنا نعطيهم دخاناً أجنبياً، في وقت كنا لا نتمكن من إطعام مقاتلينا في الكتائب المقاتلة ضد النظام، وحين أطلق سراحهم سمعت عبر الإعلام أنه تمت مبادلتهم بألفين من المعتقلين السوريين والسوريات، ولكن لم يطلق أي شخص من منطقة دوما» يقول، ثم يكرر: «لم يخرج شخص من دوما من السجن، هذا كذب، الأسماء الواردة على اللوائح التي تقدمت بقيت في السجن».

ذخائر ومطاردات
وصلت المفاوضات مرات عدة إلى طرق مسدودة، كان يتم خلالها التهديد على لسان أبو النصر بتصفية معتقلين بحال لم تتحرك الأمور، ثم تعود المفاوضات إلى مسارها، ليس من دون تعرض المعتقلين إلى الكثير من الأهوال، سواء من آسريهم، أو من النظام الذي لاحقهم من مكان إلى آخر محاولاً تصفيتهم قصفاً حيناً وبالصواريخ من الطائرات أحياناً، وتمكن في مرات عدة من إصابة مرافقي المعتقلين بجراح أدت إلى تغيير طاقم الحرس برجال آخرين ونقل المعتقلين من مكان إلى آخر.
تحررت منطقة دوما في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢، الإيرانيون لا يزالون في ملجأ بناء في زملكا، وبدأت حالات المرض تظهر عليهم، «كان من المستحيل إخراجهم إلى الشمس، المكان مليء بالسكان والنظام يبحث عنهم، ومع تحرير دوما أصبح القصف لا يهدأ، والطائرات تغير علينا، كل ما تمكنا من فعله هو المجيء لهم بالأطباء» يقول أبو منير الذي قُتل شقيقه في تلك الفترة بعمليات القصف، وحاول الانتقام من أحد الأسرى، ولكن ما إن أغمي على الأسير من مشهد البندقية في وجهه حتى ندم أبو منير وحار كيف يوقظه، لا سيما أن قيادته كانت تشدد عليه دائماً بعدم التعرض للأسرى.
من شدة القصف كان هناك تخوف من مقتل الإيرانيين، وخرج أبو النصر ليقول أنه بحال لم يتوقف القصف فسيتم إعدام إيرانيين، وتم أيضا إطلاق إعلان كاذب بمقتل ثلاثة منهم خلال عمليات قصف النظام، إلا أن القصف كان يهدأ لساعات ثم يعود ليشتد ودائماً في المناطق المحيطة بأماكن وجود المعتقلين وحراسهم.
رصد النظام عبر الخروقات الأمنية الموجودة أماكن تقريبية للمعتقلين، وهي الأماكن التي كانت تتعرض للقصف الأشد في مناطق دوما وزملكا، وأين ما نقل الإيرانيون. وكان الاستهداف واضحاً، وبات الحرس والمعتقلون يفرون منتقلين من مكان إلى آخر كل بضعة أيام، ويختبئون ممتنعين عن الظهور أو كشف أماكن وجودهم، إلا أن نقل الطعام إليهم بكميات كبيرة كان كافياً لمعرفة أماكن اختبائهم.
انتهت المفاوضات إلى الاتفاق على تبادل، لكن بند إطلاق معتقلين من جانب النظام كانت الأقل ثانوية، وصلت المعلومات إلى مناطق وجود المعتقلين وإلى محيط دمشق بأن عناصر النظام تقوم بحملات اعتقالات عشوائية لنساء ورجال في الشوارع، على أن تُجرى مبادلتهم لاحقاً ضمن الصفقة، بينما أهملت اللوائح الاسمية التي قدمها الثوار، لا بل كان النظام يخفي عدداً من الرجال والنساء المعتقلين في سراديب الاعتقال بعد وصول أسمائهم، أو يتم تحذير الأفرع الأمنية وقادة المعتقلات من تسليمهم، ويطلب عزلهم عن باقي المعتقلين والمعتقلات، بخاصة الناشطين والناشطات.
ويروي أحد قادة الجيش الحر المرافقين لأحداث تلك الفترة أنه عند وصول المفاوضات إلى نهاياتها، اتجه أبو محمود نمورة وشخص مقرب من أبو النصر إلى تركيا، حيث تسلما وفق الاتفاق شحنة من الأسلحة والذخائر شملت ضمن ما شملت مضادات أرضية، و٥٠٠ بندقية AK47، وكميات من الذخائر. وبدأت عمليات تمويل مؤسسة البراء الإغاثية ومقرها في دوما كجزء أيضاً من الصفقة المتفق عليها، التي ستضخ الأموال والأدوية والغذاء بإدارة أبو سليمان حديد (شقيق أبو جمال حديد).
وشمل الاتفاق أيضاً تقديم مبلغ مالي مقابل كل معتقل من الإيرانيين، وأقل رقم تم تداوله هو مليون دولار للمعتقل الواحد، بينما قالت مصادر أخرى متابعة أن الرقم وصل إلى مليوني دولار للمعتقل الواحد.
«كان القصف يشتد، وقوات النظام شديدة القرب من مكاننا، فقررنا الانتقال إلى مكان آخر مجدداً، وبقينا بضعة أيام أخرى في قبو جديد، ألقي علينا هناك صاروخ كبير، ولم يصب أحد، ولكنه كان واضحاً أنه يستهدفنا، وأن النظام حدد مكاننا مجدداً» يروي أبو منير، ويتابع قائلاً: «وبعد يومين خرجت لأحضر الطعام من سيارة التموين على غير عادتي، كان من المفترض ألا أخرج من الملجأ وألا أظهر في الشارع، ولحظة خروجي لجلب الطعام سمعت طائرة، ثم انفجر شيء ما، مات سائق سيارة التموين على الفور، واختفى شاب آخر تماماً كان في مركز الانفجار، وأصبت أنا في عيني وفي ساقي وأنحاء جسدي كافة» يقول أبو منير عن نهاية خدمته كسجان للمعتقلين الإيرانيين.

التبادل سراً
في ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣ أكدت جمعية IHH التركية أن إطلاق سراح المختطفين الإيرانيين – وبعضهم من عناصر الحرس الثوري «المتقاعدين» – جاء في نطاق صفقة سيتم بموجبها إطلاق سراح 2130 سجيناً لدى الحكومة السورية.
وقالت الجمعية أن فريقها الديبلوماسي نجح في الوصول إلى اتفاق مع السلطات السورية على صفقة تبادل للسجناء، تخلي بموجبها المعارضة السورية سبيل المدنيين الإيرانيين الـ48، بينما تخلي السلطات السورية سبيل 2130 سجيناً منهم 70 امرأة وبينهم سجناء أتراك، وأن تنفيذ الصفقة بدأ عملياً صباح اليوم.
في دوما، تم استنفار مجموعة من المقاتلين منذ ساعات الفجر الأولى ليوم التاسع من كانون الثاني، «أخبرت المجموعة بأن عليها حماية الطريق لتأمين إدخال وفد من قوات النظام يعمل على المصالحة بين المناطق» يقول أحد قادة المجموعات التي أمنت الحماية للباصات.
وانتشر المقاتلون على الطرق، وعند السادسة والنصف صباحاً كان أحد قادة المجموعات الرئيسية العاملة في المنطقة يربط الطريق مع مجموعته من طريق مستشفى حرستا العسكري، إلى كرم الرصاص وصولاً إلى البرج الطبي حين مرت قافلة من باصين وسيارتي جيب، في تلك اللحظة فقط علم القائد العامل تحت إمرة أبو فهد حديد (شقيق أبو جمال حديد) بان ما يجري هو عملية تبادل للمعتقلين الإيرانيين وفق ما يقول من مقر إقامته في الأردن حالياً.
انتظر هذا القائد ثلاث ساعات وهو يقف مع قواته في الطريق، ومروا بعد ثلاث ساعات من بين المقاتلين من دون أن يعلم هؤلاء من الذي خرج على متن الباصات.
بعد عام كامل، التقى قائد المجموعة الحامية للتبادل، الذي تحول إلى أحد القادة الأكثر بروزاً في المنطقة، بالوسيط السوري المكلف التفاوض من جانب قطر وتركيا، وأخبره الأخير بأن عملية التبادل تمت يومها، ولكن قبل أن تتم عقدت آخر جلسة للتفاوض على متن الباص، واتفق خلال نصف ساعة على آخر النقاط العالقة، وأجريت الاتصالات لتأكيد وصول المبالغ المالية المحولة، ثم أصعد الإيرانيون في الباصات وانطلقوا نحو دمشق.
على الضفة الأخرى أخرج النظام السوري أعداداً من المعتقلين، تحت إشراف الجمعية التركية، انتظر أهالي دوما والمناطق المحيطة بدمشق وصول أبنائهم الواردة أسماؤهم في لوائح مقدمة من جانب فصائل الجيش الحر، إلا أن الأشخاص الذين أطلق سراحهم من سجون النظام السوري لم يكونوا هم أنفسهم من سجل الأهالي أسماءهم. «في دوما على الأقل لم يعد إلينا أحد من المعتقلين الذين طالبنا بهم» يقول أحد القادة من دوما، ويضيف: «لقد أطلق النظام ألفين من المعتقلين غالبيتهم من الذين اعتقلوا قبل ثلاثة أيام من التبادل، وبعضهم من المعتقلين الجنائيين، ولوائح الأسماء التي حملها الوفد التركي المشرف على التفاوض لم تكن هي نفسها التي قدمناها».
ويتحدث أحد القادة من منطقة الغوطة عن عملية الإفراج عن معتقلي النظام، حيث يشير إلى أنه قدم الكثير من الأسماء، ولكن لم يطلَق منهم أحدٌ، «لقد بدأت عمليات اعتقال عشوائية، صار جنود النظام يعتقلون عابري السبيل، ويخضعونهم لصنوف التعذيب أياماً قبل عملية التبادل المزمعة، وحين أتى وقت التبادل أطلقوا كل من اعتقلوه في الأيام الاخيرة، ومعهم مئات من المساجين المدانين بجرائم عادية وآخرون كانوا قد تثبتوا من عدم مشاركتهم بأية أعمال لها علاقة بالثورة».
إحدى الناشطات البارزات التي أطلقت لاحقاً تحكي لاصدقائها أنها وضعت خلال ترتيبات عملية الإطلاق في سجن انفرادي، وكذلك الطبيب خلدون سراوي الذي عالج أبو النصر خلال إصابته في اشتباك مع النظام في بدايات الثورة، كان قد اعتقل لعلاجه الثوار، ولم يطلق سراحه في عملية التبادل بل لقي مصيراً أسود.
المشاركون في عملية الخطف والمفاوضات:
أبو ابراهيم الإدلبي: قتل خلال الاشتباكات المباشرة مع جيش النظام في اقتحام الجيش منطقة عربين نهاية ٢٠١٣، وتركت عائلته من دون معيل.
أبو عباد الأخرس: (نائب أبو محمود في كتيبة حمزة) وضع في سجن أبو النصر، قائد فيلق الرحمن حالياً، بتهمة بيع ذخائر.
أبو محمود نمورة: (قائد كتيبة حمزة) ويدعى أيضاً أبو حمزة نمورة نسبة إلى كتيبته، اعتقل لدى أبو النصر بتهمة الفساد، وتم تهريبه من جانب جيش الإسلام، وعاد وانضم إلى الجيش المذكور.
أمير البداوي: (أبو توفيق الملقب بالحوت) قتل خلال الهجوم على الفوج ١٦.
أبو جمال حديد: (نائب أبو النصر) طرد من فيلق الرحمن وعاد للعمل كمزارع.
أبو سليمان حديد: (مدير مؤسسة البراء الإغاثية) توقفت المساعدات المقدمة من الدول للمؤسسة، وتوقفت المؤسسة عن العمل، وعاد إلى الحياة المدنية من دون أي نشاط.
الدكتور جمال: شقيق أبو النصر، الذي تم تحويل الأموال إلى حساباته ضمن صفقة التبادل، انتقل من العمل في قطر إلى العيش في تركيا.

 

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى