صفحات سورية

الجيش العربي السوري أيقونة النظام واليسار “المرقّط”/ روميو حسّون

 

 

تحوز صورة «الجيش العربي السوري» على علوٍّ وتكريم رفيع في إعلام السلطة السورية وفي أشكال التعبير السائدة لدى قواعدها الشعبية، ويلاحظ سلوك عامّ يعتبر البزّة العسكرية رمزاً للشرف والوطن والأخلاق بغضّ النظر عن لابسها، أكان يحمل شرفاً وأخلاقاً أم يفتقر إليهما.

هذه الرفعة والقداسة لدور العسكر لم تكن شيئاً ملحوظاً في الأشهر الأولى للتظاهرات حيث الوجه المدني للثورة لا تخطئه عين منصفة، وكان ليمكنك في أوساط النظام بلا حرج وبقليل من العقلانية غير المتشنجة أن تتناول مؤسسة الجيش ومتفرعاتها وفق كافة المناظير، من فسادها الأخلاقي والإقتصادي والمهني إلى النخر الطائفي العميق الذي يعشش فيها، وصولاً إلى غياب العدالة في بنيانها وتشكيلاتها واتساع شرائح المظلومية فيها في ما يخصّ الترقيات والنفوذ والحقوق، سواء كان المعنيون كرداً أو دروزاً أو اسماعيليين أو سنّة. وحتى العشائر العلوية أسفرت حينها عن تملل قديم مكتوم من تهميش أغلبها لمصلحة عشائر القادة المزمنين من أمثال علي دوبا وشفيق فياض وغيرهما.

بدأت إعادة مركزة الجيش في الوعي العام للموالين للنظام مع قرار السلطة زجّ الجيش في المدن والاعتماد عليه مبكراً في التعامل مع المحتجّين، وما رافق ذلك من تكتيكات اقتضت ترك مجموعات من الجنود الخفيفي العتاد في ظروف شاذّة تواجه، عاريةً بلا مساندة، مصيرها المحتوم، مما وفّر لآلة الدعاية الأسدية مادة مبكرة عملت عليها بكثافة لإظهار الجيش بمظهر دفاعي وضحية انتقام وعنف الخصوم المنفلت.

وكان أن دأب الإعلام الرسمي على بناء صورة ورواية مزيفة للثورة وقام بفبركة واقع وأحداث على مقاسها، وقد حصل ذلك قبل أن يجود الواقع والأحداث بما يكفي من الدم والسوء بحيث انتفت لاحقاً وإلى حدّ بعيد الحاجة إلى التصنيع والفبركة وصار المصدر لتثبيت صحة الصورة الرسمية هو ما تصدّره الجماعات المتطرفة عن نفسها وتفاخر به. ولكي تكتمل دائرة إعادة المركزة والإعلاء للجيش وتنزيهه عما يفيض من سلوك أفراده من انتهاكات وعنصرية، كان لا بدّ من اختراع عدوّ مدنّس يجسد الشرَّ المطلق بحيث لا يعود أيّ عدوان أو انتهاك أمراً جسيماً.

العدو الشبح سيحمل اسم مندسين عملاء وعصابات مأجورة لمصلحة أعداء خارجيين ليأخذ لاحقاً صورة جماعات تكفيرية إرهابية وصولاً إلى شيطان «القاعدة» والجهاد في تجلّيه الأخير.

في سياق متصل كانت إعادة تلميع مستلزمات صورة الجندي السوري، سلسلة من التظاهرات خصصت للإحتفاء المسرحي الرديء بـ»البوط» العسكري، ما أثار الإمتعاض والسخرية حتى عند بعض الموالين، ولم تخل من إهانة خفية على رغم محاولات الرسميين المشاركين الإيحاء بعكس ذلك. نشير هنا إلى سلسلة تدشينات لتماثيل ضخمة للبسطار العسكري على مداخل عدة مدن في الساحل السوري وفي بعض ساحاتها الرئيسية. أما البزّة العسكرية والتي تعتبر في عالم التحليل النفسي من الرموز الإيروتيكية الشهيرة، ومثلها يعتبر السلاح الذي يحيل إلى انتصاب ذكوريّ متفوّق، فإنهما لطالما كانا مصدر إغراء للمراهق للالتحاق بالسلك العسكري واستعراض فحولته من خلاله، وأيضاً مصدر شبق وإثارة لكثير من النساء.

يبرز هنا إصرار كثير من المشتغلين بالإعلام وخصوصاً النساء منهم على التخفّي خلف صورة البذلة المموّهة كعنوان لمواقفهنّ. وأكثر ما تبدّى ذلك في عالم الـ «فايسبوك» وصور غلاف الصفحات الشخصية والتملق المنفّر في التعليقات على صور الضحايا من عناصر الجيش، وليس بعيداً احتفال ممثلة شابة صاعدة وإحدى نجمات مسلسل «صبايا» بعيد ميلادها بين مجموعة من الجنود على أحد حواجز الجيش في وسط دمشق وما رافق ذلك من ضجّة وإعجاب.

نجد أنفسنا، للأسف، أمام مزدوجةٍ لا ينفصم ذراعاها. حيث كلّ كلام عن «الجيش العربي السوري» هو في وجهه الآخر كلام عن طائفة بعينها وعن صعودها ودورها في التاريخ السياسي لسورية خلال الخمسين عاماً الماضية، أي أن الكلام سيكون كلاماً في التمييز والمحسوبية اللذين طالما وسما مؤسسة الجيش طوال تلك العقود. فالعوامل التي تحكم علاقة الطائفة بالجيش مركّبة ومتنوعة، منها الإقتصادي باعتباره مصدراً وحيداً للعمل والدخل، ومنها الإجتماعي باعتباره كان دوماً طريقاً سهلاً ومتاحاً للترقي الشخصي والإجتماعي، ولا يخفى الإرتباط المعنوي المبطّن بالخوف من فقدان أداة ضاربة والذي لا يزال راسخاً في الوعي العام. وعلى رغم اعتقادنا أنّ ما من طائفة هي كتلة صماء متجانسة، يبقى لافتاً للانتباه أن قسماً كبيراً حتى من مثقفي اليسار، يتبنون الموقف السابق نفسه من الجيش، على رغم إصرارهم على إبراز مسافة افتراقهم عن النظام في كل مناسبة وغضبهم حين يشار إليهم كمؤيدين. فاليسار المتهالك الذي شهد سلسلة انهيارات وتشوّهات كان آخرها على وقع تعقيدات الثورة السورية، خرجت منه ثلةٌ تمجّد الجيش وأبدعت باعتبارها ان ما يحدث ليس إلا غزواً تركياً استعمارياً صريحاً، خصوصاً على وقع أحداث كسب وريف اللاذقية الشمالي، مما أضافته إلى إبداع سابق لها بعدم جواز خروج شرارة الإنتفاضة الشعبية المدنية من ساحات المساجد باعتبارها مخالفة صريحة لترسيمة ثقافوية مستقرة لا يصح الخروج عليها. هذه الثلّة من اليسار التي نقترح تسميتها باليسار المرقّط، هي الوجه الشقيق لغريمها التاريخي الذي يشار إليه باليسار «المؤمن»، العنيد والوفيّ حتى اللحظة، على رغم كل ما حدث، لتحالفه البراغماتي المشين مع الإخوان المسلمين السوريين ورفضه الإنفكاك عنهم أو عدم قدرته على ذلك.

أخيراً، فإن استقرار أية صيغة مستدامة للحل السياسي في سورية سيكون مرهوناً بالدقة في معالجة ملف الجيش والسلاح وتجنيبه التفكك المفاجئ درءاً لإحتمال اقتتال أهلي وفوضى معممة ستكون هي النتيجة لأيّ عبثٍ غير مدروس بالمؤسسة العسكرية، تلك الصيغة التي يجب أن يكون بإمكانها إعادة تأسيس العلاقة بين مختلف مكونات الوطن السوري الجديد وتأكيد أن العدالة ليس هدفها الإنتقام من مجموعة لصالح غيرها ولا الثأر لجماعة على حساب الآخرين.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى