صفحات سوريةنائل حريري

الحاجة إلى فشل سوري/ نائل حريري

 

حرب الأرقام ما زالت مشتعلة في سوريا، بل إنها الحرب الوحيدة في عيون الإعلام العالمي. منذ اللحظة الأولى اشتعل التراشق بالأرقام بين الأطراف المختلفة، عن عدد الشهداء وعدد المتظاهرين وعدد المعتقلين وعدد نقاط التظاهر، لتنتقل القضية إلى أرقام أكثر إرعاباً كقيمة الليرة السورية ونسب انهيار الاقتصاد ونسب العجز وعدد الشهداء والقتلى وتكاليف إعادة الإعمار، إلى أعداد المسلحين وأعداد النازحين والمهجرين، لتنتهي القضية عند أرقام أكثر تسطيحاً: عدد «اللايكات» لكل حملة، وإحصائيات كل هاشتاغ، وصولاً إلى نسب التصويت في انتخابات رئاسية هزلية.

لا يزال لب القضية المغيّب هو الموضوع الأكثر التصاقاً بالسياسة على حقيقتها والمتعلق بغياب تعريف لمفهوم «الفشل» لدى جميع الأطراف. أصبح هذا الغياب القصدي التراكمي أسلوب حياة عاماً، ولم يعد مرتبطاً بقضية بعينها. بل إنه يمكن إلقاء عشرات الأمثلة لقضايا عشوائية متباينة الأهمية تكرّس المشكلة ذاتها: سلمية الثورة السورية، اتفاق حمص القديمة، التسليح، الحل السياسي للأزمة، الائتلاف الوطني السوري، الإصلاحات، حماية الأقليات، انتصار النظام، الحوار الوطني، معركة تحرير حلب…. إلخ جميعها قضايا يدور الحوار فيها عشرين عاماً، بين طرفين كلاهما رابح، وكلاهما يهاجم الآخر.

البعض ممن يعتبر أن الثورة السلمية فشلت لأنها لم تسقط النظام في عدة أشهر، يرفض الاعتراف بفشل الثورة المسلحة التي لم تسقط النظام في بضع سنوات. آخرون يعتبرون أن النشاط المسلح في حمص قد انتصر نظراً لصموده الاستثنائي، لكنهم لا يعتبرون أن النظام السوري انتصر بالصمود الاستثنائي ذاته. أيضاً هناك من يعتبر قصف الهاون على منطقة سكنية فشلاً أخلاقياً، فيما يرى القصف الجوي بالبراميل نصراً استراتيجياً. في سوريا بأكملها لا نجد اتفاقاً على مفهوم وحيد للفشل، وبحسب التحزبات والأهواء السياسية والولاءات الشخصية تولد الانتصارات اللفظية والإعلامية.

في القاموس السوري الحالي، تعتلي مفردة «سننتصر» قائمة المصطلحات الأكثر استخداماً من قبل جميع الأطراف من دون أن ترفق بأي شرح أو تعيين لمعنى الانتصار أو لمعنى الفشل، فيغدو الانسحاب «خياراً تكتيكياً» والهدنة «إنجازاً عسكرياً» واستهداف المدنيين «شراً لا بد منه» والفشل السياسي «نتيجة طبيعية لعقم دام أربعين سنة» والتشرذم العسكري «نتيجة حقيقية للظروف القاسية» والانحدار الإعلامي «ردة فعل متوقعة» وتهجير ثمانية ملايين سوري «صنيعة إرهابية».

ينطلق أصل هذه المشكلة من العقليات الديكتاتورية الأوتوقراطية التي تقود مختلف الأطراف السياسية والعسكرية التي تتهرب دائماً وأبداً من أي مساءلة. فلم نسمع من أي جهة كانت اعترافاً واحداً بالفشل، لا من النظام السوري في «ثكنة هنانو» و«مدرسة المشاة»، ولا من المعارضة المسلحة في «القصير» و«يبرود» و«حمص القديمة» ولا من المعارضة السياسية في «جنيف 2». الاعتراف بالفشل يعني المحاسبة والمساءلة، وتصحيح الخطأ الذي قد يفضي إلى حتمية التغيير.

بحجة أربعة عقود من العقم السياسي في البلاد، يتم طمس حقيقة أن ثلاث سنوات من النشاط السياسي في البلاد لم تفض إلى خلق معايير للعمل السياسي. وكما أن الأسد يرشح نفسه لولاية جديدة من دون برنامج انتخابي، كذلك يتولى «الائتلاف الوطني» منصباً لا يحمل أي برنامج، وتتولى الحكومة المؤقتة صلاحيات غير مرفقة بوعود. من الطبيعي ألا يوجد فشل عند غياب الوعود، وهو الأمر الذي تطمئن له جميع الكيانات «الثورية» أو «الجهادية»، فيكون الرد على الهزيمة هو إعادة استهلاك خطاب «سننتصر» الأزلي، من دون تحديد آلية النصر أو معيار تحققه أو النتائج التي يهدف إليها، بل إن الهدف الوحيد الذي يصرّح عنه على الدوام والمتمثل في «إسقاط النظام» بقي هدفاً مائعاً غير محدود الملامح آجلاً إلى ما لا نهاية، بحيث إن عاماً أو عشرة أعوام من «عدم إسقاط النظام» لا تبدو سبباً وجيهاً للحكم بالفشل على أي تجربة لهذه الكيانات.

يكرّس الإعلام «الثوري» زئبقية الفشل والانتصار حتى على المستوى العسكري، فالهجوم على مبنى الأمن الجوي الذي ينتهي «بعدم السيطرة على المبنى»، أو الحشد المتكرر للسيطرة على سجن حلب الذي ينتهي «بعدم السيطرة على السجن» لا يُسمى فشلاً عسكرياً لديها، بذريعة أن هذا ضروري للحفاظ على الروح المعنوية للمقاتلين وجماهيرهم. لكن تكذيب حقائق مكشوفة بهذا الحجم والاستخدام المطوّل للعبة «الوزير الصحاف» بهذه الطريقة ليس إلا تكريساً للحالة الفاشلة مراراً وتكراراً، لكياناتٍ ما زالت طيلة سنوات تعيد تجاربها بالآليات ذاتها.

تتبدى اليوم ضرورة طرح مفهوم الفشل إعلامياً والاعتراف به للمطالبة بتغيير الواقع، وهي المهمة الإعلامية الأبرز اليوم للناشطين الباحثين عن نجاح حقيقي أو حل فعلي، أما الاستمرار في اجترار خطاب النصر الميتافيزيقي، فهو يعني انهيار البلاد وتفكك الثورة أثناء الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى