صفحات الرأي

الحاجة إلى يسار عربي جديد وإلى برنامج واقعي وراهن للتغيير

 


كريم مروة

أثار كتابي “نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي” الصادر عن دار الساقي في بيروت نقاشات واسعة من قبل عدد من مثقفي اليسار العربي من لبنان ومصر وفلسطين وتونس وسوريا والعراق (37 مثقفاً). جمع هذه النقاشات مركز البحوث العربية الأفريقية في كتاب صدر عن مكتبة جزيرة الورد في القاهرة بعنوان “حوارات مع أطروحات كريم مروة نحو نهوض جديد لليسار في العالم العربي”. وتضمن الكتاب تعقيباً مسهباً من قبلي على تلك النقاشات. وأقدم هنا مقتطفات من هذا التعقيب.

يهمني، وأنا أدخل في النقاش مع أصدقائي من المثقفين اليساريين العرب حول مواقفه من أفكاري التي تضمنها كتابي بأنني حرصت على التأكيد في الكتاب بأن ما قدمته من أفكار حول نهضة اليسار العربي هو محاولة، مجرد محاولة، لا أجزم فيها بأمر، ولا أعطي لنفسي صفة الحكم أو ما يشبه ذلك. وهي محاولة أستند فيها إلى تجربتي الطويلة في مواقع مسؤولة لمدة زمنية طويلة داخل أطر اليسار في بلدي لبنان وفي علاقتي المتعددة صيغها وأشكالها ومناسباتها مع اليسار العربي والعالمي. وأستند فيها أيضاً إلى طموحي في أن أرى يسار بلداننا قد جدد أفكاره وبرامجه وصيغ عمله، واستعاد عافيته ودوره، قبل أن أغادر الحياة بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر. وقد تناولت النقاشات جملة من القضايا البالغة الأهمية، قضايا ذات صلة وثيقة بواقع بلداننا وبالدور المفترض لليسار في التصدي لها.

لنبدأ بالقضية الأولى. وهي تتعلق بالمراجعة النقدية وبشروطها، وتتعلق بدوري فيها وبموقفي منها، كما تشير إلى ذلك النقاشات. وفي الواقع فإن لهذه المراجعة النقدية جانبين يكمل أحدهما الآخر. فهي تتطلب بالضرورة من أهل اليسار في بلداننا، وهو الأمر الذي يعنيني ويعني أصدقائي اليساريين العرب، أن يرتبط فيها الجانب المتعلق بالتجربة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي وفي المنظومة العالمية التي حملت اسم الاشتراكية بالجانب المتعلق بتجربة اليسار بتياراته المختلفة في الأحزاب خارج السلطة، سواء بالإرتباط العضوي لتلك الأحزاب بالتجربة بنموذجيها السوفياتي والصيني، أم بالاختلاف والتمايز عن تلك التجربة بنسب متفاوتة. لذلك فإنني أتفق مع الذين أشاروا إلى ضرورة الربط بين هذين الجانبين في المراجعة النقدية. وفي التعقيب على الملاحظة التي تقول ان كتابي قد خلا من النقد والنقد الذاتي، أود أن ألفت نظر الأصدقاء إلى أن القسم الأول من الكتاب يتضمن جزءاً من هذا النقد بشقيه، لكنه نقد مجتزء وغير كاف وغير مقنع، وأعترف بذلك. إلا أن المفارقة في هذا الأمر هو أن عدداً من الأصدقاء ممن ساهموا في نقاش الكتاب رأوا، بخلاف أصدقاء آخرين، أنني أكثرت من النقد والنقد الذاتي إلى حدود المبالغة في جلد الذات. وذكرني هؤلاء الأصدقاء بالإنجازات الإجتماعية التي تحققت في التجربة الاشتراكية، ذكروني بالرموز الكبيرة التي برزت باسمها في بلداننا وفي العالم، في الآداب وفي الفنون وفي الفكر وفي العلوم، وتركت بصماتها على عصر بكامله. وإذ أقدر هذه الملاحظة بالذات وأتفق مع الذين أطلقوها، وأعترف بالنقص في كتابي حول هذا الموضوع، فإنني أخشى، بالمقابل، من أن تؤدي المبالغة في الحديث عن المنجزات إلى تغييب الخلل الذي رافق التجربة وإخفاء الأخطاء التي تراكمت وقادت التجربة ذاتها إلى الانهيار بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها.

مفهوم اليسار وهويته

يتمحور النقاش في القضية الثانية حول مفهوم اليسار وحول هويته. وهي القضية الأهم في كل النقاشات. ذلك أن ثمة اختلافاً كبيراً داخل قوى اليسار حول مفهوم اليسار ذاته وحول أفكاره وحول تحديد هويته وحول المهمات الراهنة المطروحة أمامه وحول قاعدته الإجتماعية الجديدة. وفي الواقع فإن هذا المحور الذي يشكل الأساس في كتابي والأساس في النقاشات هو موضوع صعب وشائك. لذلك فإنني لا أعترض على وصف محاولتي في تحديد مفهوم اليسار وفي البحث عن نهضته بالارتباك، ولا أعترض على وصفي بالإنسان القلق والمقلق. فالإنسان القلق هو إنسان حقيقي، كما وصفه أحد الأصدقاء، إنسان يبحث ويفتش ويجرب، ولا يتعب ولا ييأس ولا يغرق في الأوهام. لذلك فإنني أعترف بأنني قلق ومرتبك ومهموم ومنهمك في البحث في مستقبل يسارنا العربي وفي الدور المفترض له في تحقيق التغيير المنشود في بلداننا. وإذا كان بعض الأصدقاء قد اتهمني بأنني غيّبت في تحديدي لليسار دور الطبقة العاملة باعتبارها حصراً حاملة مشروع التغيير، وأنني، في تحديدي للقاعدة الإجتماعية لليسار المعاصر، غيبت الطابع الطبقي لليسار وغيبت الصراع الطبقي، وهي تهمة غير دقيقة، فإنني أتساءل، وأرجو ألا أكون متعسفاً، هل أخذ أصدقائي في الإعتبار في تحديدهم لليسار ولدور الطبقة العاملة المتغيرات الكبرى التي شهدها العالم المعاصر بعد مرور مائة وخمسين عاماً على وفاة ماركس، وبعد مرور المدة الزمنية ذاتها على أفكاره ومفاهيمه وعلى تحديداته لأقطاب الصراع في المجتمعات المعاصرة؟ لن أدخل هنا في النقاش حول الجديد الهائل الذي أدخلته العلوم والتقنيات على عملية الإنتاج وعلى القوى ذات الدور الحاسم فيها، والجديد غير المسبوق الذي أدخلته تلك التطورات على المجتمعات وعلى طبيعة ونوع الصراعات داخلها، ليس فقط بين المالكين لوسائل الإنتاج والعاملين بالأجر، بل كذلك داخل تلك الفئات الإجتماعية ذاتها في مواقعها المختلفة، أعني فئات المالكين وغير المالكين على حد سواء. ذلك أن الإكثار من الحديث عن الطبقة العاملة وعن دورها وعن الصراع الطبقي، من دون تحديد للمفهوم المعاصر للطبقة، ومن دون رؤية موضوعية للمتغيرات التي شهدتها الطبقات والفئات الإجتماعية في كل المواقع، لا يقدم معرفة بالواقع القائم في بلداننا، ولا يقدم معرفة بالواقع القائم في العالم المعاصر. ولست أرمي من هذه الإشارة إلى المتغيرات الكبرى التي شهدها العالم خلال القرن ونصف القرن من عمر الزمن إلى تغييب دور الطبقة العاملة في النضال باسم اليسار من أجل التغيير، استكمالاً لمشروع ماركس. كلا قطعاً. لكنني أريد أن أشير إلى أن مفهوم الطبقة ذاته قد أصبح بحاجة إلى تحديد جديد أكثر دقة وأكثر صلة بالواقع المعاصر. وأزعم، في ضوء قراءتي لوقائع العصر وللمتغيرات التي أحدثتها فيه العلوم والتقنيات، أن الطبقة العاملة في المفهوم الماركسي القديم لها لم تعد بالدقة ذاتها وبالدور ذاته اللذين كنا نتصورهما ونقتنع بهما في أدبياتنا القديمة، لم تعد هي وحدها وبالحصر حاملة مشروع التغيير الذي يسعى اليسار المعاصر إلى تحقيقه في بلداننا وفي سائر البلدان، وفق الظروف الخاصة بكل بلد منها. فالوقائع المعاصرة باتت تشير بكثير من الوضوح إلى أن القاعدة الاجتماعية التي تعاني من الظلم ومن الإستغلال، والتي تنشد التغيير بصفتها صاحبة المصلحة فيه، قد اتسـعت موضوعياً وتنوعت وتعددت فئاتها. وضاقت، بالمقابل، قاعدة القوى المهيمنة التي يستهدفها التغيير ويستهدف مواقعها. وبلغ الإستقطاب ذروته الكبرى. إن ما تقدم يقودني إلى القول بأن الطبقة العاملة بالمفهوم الماركسي القديم، أي طبقة العاملين بالأجر في المصانع والمعامل وفي المؤسسات الإنتاجية على اختلافها، قد تقلص دورها بفعل تقلص عددها، وكثر، بفعل ذلك، عدد العاطلين عن العمل، وعدد الفئات المهمشة. وكبر، بالمقابل، جيش القوى الإجتماعية المناهضة للرأسمال المعولم، والساعية لإحداث التغيير في اتجاه العدالة الإجتماعية، على قاعدة مشروع ماركس معدلاً لكي يكون أكثر تطابقاً مع شروط العصر. بهذا المعنى فإن الصراع الطبقي لم يعد هو ذاته بالدقة كما جاء في تحديد ماركس له، أي بين الطبقة العاملة بمفهومها القديم والطبقة البرجوازية بمفهومها القديم أيضاً. بل هو اتخذ له معنى أوسع وأشمل ليصبح صراعاً بين هذه الكتلة الاجتماعية المتعاظمة من الذين يقع عليهم الظلم الإجتماعي وبين أقطاب العولمة الرأسمالية الذين يستأثرون بالقسم الأعظم من الثروة، ويتحكمون بمصائر شعوب الأرض. أقول ذلك باقتناع متزايد عندي، من دون أن أدعي امتلاك الحقيقة فيما أقول. وما أقوله هو محاولة مني في فهم المتغيرات التي يشهدها العالم المعاصر على جميع الصعد، بما في ذلك في تحديد مفهوم اليسار وفي تحديد هويته وفي تحديد قاعدته الاجتماعية وفي تحديد مهماته، وفي تحديد دوره في عملية التغيير. لذلك فإن التهمة التي وجهت إليّ بصيغ مختلفة حول تحديد مفهومي لليسار، ومن ضمنها تهمة الليبرالية، فهي لا تشكل، بالنسبة إليّ، مادة للنقاش الحقيقي حول جوهر ما طرحته من أفكار تتصل بتحديد وتجديد مفهوم اليسار المعاصر. وقد تولد لديّ إحساس، أرجو أن أكون مخطئاً فيه، بأن كثيرين من أهل اليسار في بلداننا لا يدركون بالوعي الضروري أنهم هم ويسارهم يعيشون في أزمة كيانية بكل المعاني، وأنهم معنيون، من موقع مسؤولياتهم ومن الموقع الذين هم فيه، ببذل الجهد النظري والعملي لقراءة ما جرى من انهيارات وما يجري من تحولات في العالم المعاصر وما هو قائم في بلدانهم من كوارث. وتشكل هذه القراءة الشرط الضروري لسلوك الطريق الواقعي الذي يقودهم، في شروط العصر بالتحديد وليس خارج هذه الشروط، إلى الخروج من أزمتهم وإلى الإسهام في تحقيق التغيير الذي تنشده شعوبهم في نضالاتها القديمة وفي ثوراتها المعاصرة.

المهمات

يقودني هذا الحديث على مفهوم اليسار إلى الحديث في المحور الخاص بالمهمات التي تواجه اليسار في بلداننا في هذه الحقبة التاريخية التي نعيش فيها. وهي القضية الثالثة. وفي الواقع فإن النقاش حول مفهوم اليسار من دون تحديد المهمات التي يفترض بها أن تكون مهماته تحديداً، المهمات ذات الصلة بالزمان وبالمكان المحددين، هو نقاش غير واقعي. إذ لا توجد مهمات عامة غير محددة بالزمان وبالمكان، بالنسبة إلى أية قوى سياسية واجتماعية، وبالأخص بالنسبة إلى اليسار الذي تمتلئ أدبياته بالحديث عن المرحلية وعن المراحل في النضال من أجل التغيير. على أن اليسار، في محاولتي لتحديده ولتحديد هويته ولتحديد انتمائي القديم والحديث إليه، هو الذي يفترض به أن يحمل في مشروعه المهمات الأساسية المباشرة والبعيدة المدى، للوطن وللشعب اللذين ينتمي إليهما. لذلك فإنني، حين حددت في كتابي عشرين مهمة مباشرة ملموسة كمهمات راهنة لليسار في بلداننا، بمعزل عن الترتيب لها حسب الأولويات، إنما انطلقت أولاً من الواقع القائم في بلداننا الذي استوحيت منه هذه المهمات، وانطلقت ثانياً من تحديدي لدور اليسار في تحقيق هذه المهمات، وانطلقت ثالثاً من أن مشروع اليسار للتغيير الذي يحدد هويته إنما يبدأ واقعياً من المهمات الملموسة الراهنة التي يفتح تحقيقها الطريق إلى المستقبل. وتتمحور النقاط العشرون في كتابي كمهمات لليسار المعاصر حول ما اعتبرته بالمصالح الأساسية للمجتمع برمته، بدءاً بإصلاح الدولة لكي تصبح دولة حق وقانون ومواطنة وحقوق إنسان وعدالة اجتماعية، في نظام ديمقراطي حديث متحرر من كل مظاهر الاستبداد التي تسود في بلداننا منذ ما يقرب من نصف قرن. وانطلاقاً من التغيير في الدولة وفي النظام وفي طبيعتهما وفي وظائفهما، طاولت النقاط العشرون كل ما يتصل بمصالح المجتمع بكل فئاته تحقيقاً للعدالة الاجتماعية التي لا تتحقق إلا بثلاثة شروط أساسية: التقدم الاقتصادي في ميادينه كلها، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والحرية بجوانبها المتعددة، التي تؤمن للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة حقوقه وكرامته والشروط الضرورية للتعبير عن ذاته. واستناداً إلى هذه النقاط البرنامجية التي اقترحتها لليسار في بلداننا، حرصت على التأكيد بضرورة تجنب القفز فوق المراحل، أي القفز فوق الواقع، وتجنب الوقوع في أسر الأوهام والبقاء في حالة الحنين إلى الماضي الذي مضى. واستناداً إلى تجربتي الشخصية في اليسار التي استحوذت على عمري كله، أستطيع القول اننا، في الحزب الشيوعي اللبناني على سبيل المثال، قد أصبنا وأخطأنا. وكان جزء مما أصبنا فيه مجيداً. وكان جزء مما أخطأنا فيه فادحاً. لكن المهم، فيما نحن بصدده، هو أن المهمات المباشرة في اللحظة التاريخية المحددة الموضوعة أمام أهل اليسار هي التي تحدد القاعدة الإجتماعية لهذا اليسار. وهي التي تعطيه مفهومه المعاصر. وهي التي تعطيه دوره وموقعه كيسار في كل ما يتصل بقضايا الوطن والشعب. ولا أرى، في ما يتعلق بي كيساري مخضرم، أي ضرورة راهنة لتحديد قاطع للهوية الفكرية لليسار، إلا بالمعنى العام الذي تعبّر عنه القيم والمثل الإنسانية التي حملتها وبشرت بها الإشتراكية. إذ ان علينا أن نقر كيساريين، من دون خوف على موقعنا وعلى درونا، بأن بعض اللحظات التاريخية تخلق في صورة مؤقتة وعابرة أساساً موضوعياً لتقاطع ما في المصالح بين أهل اليسار وبين أهل اليمين في العمل لتحقيق مهمات معينة. ولا أعني هنا باليمين السلطات بالضرورة. بل أعني بالتحديد القوى السياسية والإجتماعية في البلد المعين من ذوي الإتجاهات الليبرالية المستنيرة منها على وجه الخصوص.

الدولة

هنا بالذات يأتي الحديث عن الدولة. وهي القضية الرابعة. وفي الواقع فقد استغربت كيف أن بعض الأصدقاء قد عاب عليّ وضع مهمة بناء الدولة الحديثة كمهمة أولى بين مهمات اليسار. وأعترف بأنني لم أفهم ماذا يريد المنتقدون اليساريون قوله بصدد الدولة. ففي معرفتي المتواضعة التي أغنتها تجربتي الحزبية، وعززتها قراءاتي التي لم تنقطع لكتابات ماركس ولكلاسيكيي الماركسية التي تحدثت عن الدولة في المجتمعات البشرية، لا سيما في ظل الرأسمالية، كان نضال أحزابنا يتجه ويسعى دائماً نحو استحداث قوانين جديدة بديلاً من قوانين رجعية قائمة، قوانين ديموقراطية تخدم مصالح المجتمع بعامة، وتخدم مصالح الفئات الكادحة على وجه التحديد. أي اننا كنا نضع أمامنا مهمة إحداث تعديلات ضرورية في وظائف الدولة وفي وظائف مؤسساتها لكي تكون أكثر عدلاً وأكثر احتراماً لحقوق ومصالح الفئات الفقيرة على وجه الخصوص، أي دولة حق وقانون وعدالة إجتماعية. وكنا نعلم أن استحداث تلك القوانين الديمقراطية الجديدة لا يغيّر في الطبيعة الطبقية للدولة. وكنا نعلم بالمقابل أن هذه الدولة ذاتها، دولة طبقة الرأسماليين التي تدافع عن مصالحهم، إنما تتخذ، في حدود معينة وبالنضال، بفعل وظيفتها العامة كناظم للمجتمع، صفة استقلال نسبي عن الطبقة التي تمثل مصالحها في السلطة. والكلام عن الاستقلالية النسبية للدولة في المجتمعات الطبقية هو لماركس بالذات. وإذا كان الأمر كذلك فإن مهمة تحديث الدولة وتحديث قوانينها والعمل على تحريرها من أنماط الاستبداد والظلم والاستغلال هي مهمة ذات أولوية بالنسبة إلى أهل اليسار قبل سواهم من القوى السياسية في بلداننا. وإلا فما هو المطلوب؟ هل المطلوب أن يضع اليسار أمامه مهمة إقامة دولة بروليتارية باسم الاشتراكية فوراً، ورفض الدولة الرأسمالية القائمة، ورفض التعامل معها، بانتظار قيام هذه الدولة البروليتارية؟! وأحيل أصدقائي في هذا السياق من الحديث عن الدولة وعن دورها وعن التغيير في أدائها وفي وظائفها، إلى تلك الثورات التي تجتاح العالم العربي من أقصاه |إلى أقصاه المطالبة بالتغيير، تغيير الأنظمة الاستبدادية القائمة، واستبدالها بأنظمة ديموقراطية يكون فيها للدولة المدنية ذلك الدور وتلك الوظيفة اللذان يخدمان مصالح الوطن ومصالح الشعب في آن، وتحترم فيهما وتصان الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان.

المشترك بين البلدان العربية

يقودني الحديث عن الدولة إلى المحور الخاص عما هو مشترك بين البلدان العربية. وهي القضية الخامسة. فقد أثار عنوان الكتاب تساؤلاً عند بعض الأصدقاء في صيغة “اليسار في العالم العربي”، بدلاً من صيغة “اليسار العربي”، تساؤلاً يتعلق بموقفي من القومية العربية ومن الأمة العربية. وذهب البعض إلى حد اتهامي بأنني أتسامح مع إسرائيل ومع أميركا وأقلل من اتهامي لهما في حديثي عن الوضع المأسوي الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني في ظل الصراعات بين فصائله، وفي إشارتي الساخرة إلى شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وفي حديثي عن الهزائم العسكرية التي منيت بها الأنظمة العربية فيما اعتبرته في كتابي مغامرات تمثلت في حروبها مع إسرائيل التي بدلاً من أن تحرر فسلطين أدت إلى احتلال كامل أراضيها وإلى احتلال أجزاء من أراض عربية أخرى. وأرى في هذه الإعتراضات على كلامي المترافق بعضها باتهامات تشبه التخوين، في قراءتي لها، الدفاع من قبل بعض اليساريين عن الأنظمة الإستبدادية التي حولت الجيوش في بلداننا من جيوش للدفاع عن الوطن، وهو وظيفتها الأصلية، إلى قوى أمن تحمي سلطاتها واستبدادها المتمادي وتحمي استيلاءها على مرافق الحياة برمتها، مستخدمة في الآن ذاته شعار المعركة القومية للخداع. أليس في ذلك الكلام ما يدعو إلى الغرابة؟! أما في ما يتعلق باستخدام صفة “العالم العربي” بدلاً من “الأمة العربية” أو ما يشبه ذلك، فلا يعني من قبلي التنكر لانتمائي العربي. فلست بحاجة إلى شهادة من أحد في نضالي ونضال حزبي على امتداد عقود طويلة من أجل القضايا العربية، على أرض لبنان بالذات، وفي المحافل الدولية. وانتمائي العربي الذي أعتز به لا يفرض عليّ تبني نظريات ومواقف ومشاريع وأفكار وشعارات وتسميات أعتبرها في معظمها شعبوية وغير ذات معنى وجدوى. وهو ما دلت عليه ممارسات الأنظمة القائمة وممارسات الأحزاب والحركات القومية خلال أكثر من نصف قرن.

القضية السادسة في النقاش تتمحور حول تحديد طابع وسمات العصر الذي نحن فيه اليوم، وتحديد طبيعة النظام الرأسمالي المعولم المهيمن. ولا أظن أننا بحاجة لأن نقنع بعضنا بأن الرأسمال المعولم هو الذي يهيمن اليوم، بمكوناته المختلفة، على العالم ويتحكم بمصائر البشرية. ولا أظن أننا بحاجة لأن نقنع بعضنا بالأسباب التي جعلت هذا الرأسمال المعولم يحمّل نتائج أزماته المتواصلة المتكررة للأكثرية الساحقة من الناس في جميع البلدان، الغنية منها والفقيرة على وجه الخصوص، الأزمات التي تعلـٌّمنا الكثير عنها وعن استمرارها وعن اتخاذها طابع أزمات دورية من قراءاتنا في كتابات ماركس وكبار كلاسيكيي الماركسية. أسوق هذا الكلام لأقول بأننا، من موقعنا كيساريين عرب في بحثنا عن نهضة ليسارنا تخرجه من أزمته الخانقة التي همشته وهمشت دوره، بحاجة لأن نعرف بدقة علمية وبواقعية طبيعة وسمات العصر الذي يهيمن فيه الرأسمال المعولم بوحشيته، وأن نحدد بدقة علمية وبواقعية الطرائق التي يستعيد بها يسارنا دوره في ظل هذا الوضع بالتحديد، وليس خارجه. ذلك أن أي قراءة غير واقعية للعالم المعاصر تستند إلى تصورات خيالية وإلى أوهام يعلن بها أصحابها ببساطة مدهشة أن هذا الرأسمال المعولم سينهار من تلقاء ذاته بسبب أزماته، وأنهم سيرثونه بعد انهياره ليعيدوا للمشروع الاشتراكي موقعه في حركة التاريخ، هذه القراءة ليست خاطئة فحسب، بل هي مليئة بالمخاطر على دور اليسار وعلى موقعه في حركة النضال من أجل التغيير. فضلاً عن أنها لعدم واقعيتها إنما تخلق أوهاماً تقود، بفعل سقوطها السريع، إلى الإحباط واليأس. وقد حاولت في قراءتي للعالم المعاصر وللتحولات فيه وللإتجاهات المتناقضة في هذه التحولات، أن أدعو أهل اليسار في بلداننا للبحث عن نهضة يسارهم في هذه الشروط التاريخية للعالم المعاصر بالتحديد، أي خارج تلك الأوهام وخارج تلك الشعارات الشعبوية التي شوّه استخدامها معنى اليسار لدى شعوبنا وأفقده مصداقيته.

تلك هي بعض الأفكار التي استوحيتها من النقاش الذي أثاره كتابي وأثارته أفكاري ومواقفي فيه. وإذا كنت قد ركزت على بعض القضايا التي كانت محور اختلاف في الرؤى بيني وبين أصدقائي، فإنني لا أستطيع إلا أن أتوجه بالشكر إلى أصدقائي الذين أعلنوا اتفاقهم معي في العديد من أفكاري، حتى وهم يتمايزون عني في تحديد فهمهم لها. وأخص بالذكر توقفهم عند المرتكزات التي اعتبرتها في الكتاب مرتكزات ذكّرت فيها بضرورة إعادة السياسة إلى أصلها وربطها بالثقافة وبالأخلاق، وإخراجها من الشعبوية والعدمية والاتنتهازية، وجعلها أكثر احتراماً لحقوق الإنسان، وأكثر حرصاً على تحريره من العبوديات الجديدة التي حولته، في الإصطفافات السياسية والعقائدية والزبائنية، إلى ما يشبه القطيع.

وبعد، فإنني أعتبر أننا ما نزال في بداية الطريق إلى نهضة يسارنا وإخراجه من أزمته، وأننا ما نزال بحاجة إلى تجديد الآليات والشروط التي تؤهلنا لأن ندخل من الباب الواسع، لا من الأبواب الضيقة، إلى تلك الأهداف التي تعبّر عن مشروعنا اليساري لتغيير بلداننا. وهذا التأكيد إنما يتطلب منا بالطبع أن نواصل النقاش حول مكونات اليسار على اختلاف اتجاهاته، وأن نبذل جميعنا المزيد من الجهد في البحث عن مستقبل اليسار من دون أفكار مسبقة نحاكم فيها بعضنا البعض. فالمهم بالنسبة إلينا هو أن نخرج يسارنا من الهزيمة إلى النهضة لاسترجاع موقعه الطبيعي الذي يعود له لتحقيق التقدم لبلداننا والحرية والسعادة لشعوبنا. وهي حاجة موضوعية راهنة تتصل بما يجري من حراك بالغ الأهمية والدلالة، تعبر عنه الثورات التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى