صفحات الرأي

الحاكمية وتسييس الفكر الإسلامي

 

سالم سالمين النعيمي

هل هي بداية حقبة ولاية المرشد، وذلك على غرار ولاية الفقيه وتصدير نموذج الحاكمية السياسية لتوحيد السلطات؟ فهي الحقيقة الغائبة الحاضرة في أذهان قيادات الإسلام السياسي الفئوي الانفصالي ومنظور الحاكمية والقومية الإسلامية. إنه وقت الإعلان عن تلك الحقيقة، وإكراه المجتمع عليها بالتحايل ومصادرة المصطلحات والقوانين والدساتير تارة وبالقوة تارة أخرى ناهيك عن التحالفات الانتقائية وفق التسلسل الموضوع في استراتيجيات تلك التنظيمات مما أثار الخلافات بينهم على التوقيت والآلية بعدما أصبحت سيطرتهم على كل مقومات الحياة السياسية في بلدانهم واقع لا يقبل التأويل أو الإنكار.

ولكن رفض الشارع لهم بعد انكشاف الأقنعة وإدراكهم أن ثوراتهم سرقت منهم، وروبن هوود ذو العمامة التي يلبسها على عقله بدلاً من رأسه يسرق ليعطي حزبه وإخوانه في المذهب التسهيلات والصلاحيات والسيطرة على اقتصاد تلك الدول، ولكنها سيطرة واحتكار حسب الشريعة الإسلامية، فأصبح حتى الاحتكار واستغلال الشعوب يحتاج لإجازة شرعية، بينما يمنع ذلك عن الفقير والمحتاج ومن لا يشاركه أو يوافقه الرأي.

وفي ظل غياب القامات الفقهية الأسطورية التي استوعبت الاختلاف وقبلت بالتنوع، قد تم تحجيم دور الفقه التقليدي، وشنت حرب شعواء طاحنة على رموز وموارد وأدبيات الفقه المعتدل ليطلق على العلماء الراسخين في العلم لقب علماء السلاطين وخروج أقزام تلعب دور الفقيه تحت مسمى مرشد وإمام وداعية…الخ واستغلال تلك الألفاظ لتهميش العلم الفقهي القابل للنقد والتجريح واستمالة الشارع باستخدام مفاهيم الحق الذي أريد به باطل.

إن تفسير تلك الأطروحات والمصطلحات وتأويلها لغايات تنم عن عدم حفظ الأمانة بالاعتماد على تفسير ظاهري لفظي للقرآن مغلف بدلالات متمركزة على حب السلطة وإخضاع كلام الله عز وجل لمنطق بشري محض بالمطلق وتهجير كلماته حرفياً خارج نطاق السياق والوقت والحدث التاريخي.

ومن هنا كان تسييس الفقه وفق فهم شخص مثل العلامة الهندي أبو الأعلى المودودي أول من استخدم (الحاكمية) في خطابه السياسي والديني، وتبعه الآخرون مثل سيد قطب لحصر الكلمة في إفراد الله بالتحكيم والتشريع والحكم السياسي وإدارة شؤون الدولة. وهذا ليس له علاقة بتوحيد الربوبية، أو بدعة مردود عليها، ولا يختلف المسلمون في توحيد الله تعالى في التحكيم بين المسلمين وفق الشريعة المحكمة المنزلة في كتابه المبين واﷲ اﻟﻤﺸﺮّع ﻟﺨﻠﻘﻪ ﻳﺤل ﻟﻬﻢ وﻳﺤﺮم ﻋﻠﻴﻬﻢ… إﻻ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻨﻔﻲ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻠﺒﺸﺮ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻓﻴﻤﺎ ﻻ ﻧﺺ ﻓﻴﻪ، أو ﻓﻲ اﻟﻤﺼﺎﻟﺢ اﻟﻤﺮﺳﻠﺔ، ولكن ﻓﻜﺮة «اﻟﺤﺎكمية» كما تناولها اﻟﻤﻮدودي وﻗﻄﺐ فهي توظيف ﻻ يقبل اﻟﺘﺄوﻳﻞ ﻓﻲ ﺳﻴﺎق ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ تأخذ باﻟﺘﻜﻔﻴﺮ كمنهج أصبح فيه اﻟﻌﺎﻟﻢ أما دار ﺣﺮب أو دار إﻳﻤﺎن.

فهل يجوز الربط بين تحكيم الشريعة وبين أصول العقيدة الإسلامية لجعل السلطة الإسلامية هي سلطة تحكم باسم الله وتصرفاتها السياسية واجتهاداتها التشريعية تصبح أحكام الله، وبالتالي من يعارض الحاكم يصبح معارضاً لحكم الله، ويتم تكفيره من خلال وصف السلوك التشريعي والسياسي في الدولة الإسلامية بأنّه حكم إلهي يعكس تجاوزاً غير مسبوق وتطاولاً على حاكمية الذات الإلهية من خلال إنزالها منزل فهم واستيعاب البشر.

أما في ما يخص بعض الآيات التي تم تأويلها خارج النص في القرآن مثل «إن الحكم إلاّ لله» (يوسف، آيه 40) «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» (الأحزاب آية 36)، هي نصوص ظنية الثبوت وقطعية الدلالة، فهذه مجال الاجتهاد والإعمال العقلي فيها أكبر بينما هناك أمور لم يرد فيها نص وفيها يجتهد الإنسان، ويقيس ويقدر لتدخل في دائرة مساحة الاجتهاد، فحكم الله في الميدان الشرعي هو فيما ورد فيه نص قطعي أو ظني يرجح من الراسخين في علوم الدين، ممن اجتمعت عليهم الأمة أنّه قطعي، وفي ما عدا ذلك فهو حكم الإنسان واجتهاده سواء أخطأ أو أصاب، فنرى سيدنا عمر بن الخطاب بعد عشر سنوات من وفاة الرسول، وقد اجتهد في نحو أربعين مسألة خالف فيها بعض النصوص القرآنية مثل حصة (المؤلفة قلوبهم) ومسألة زواج المتعة وغير ذلك، وكما يقول الحديث النبوي: (أنتم أأعلم بشؤون دنياكم).

أما في ما يتعلق بالنص القرآني: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» المائدة 44. هو محور دعوة منظري الإسلام السياسي لتحقيق حلم هدفهم السياسي الأسمى حيث شرع في اقتطاع النص من الآية الكريمة، وليس ضمن السياق العام للنص : «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا ومن لن يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» المائدة 44. وفي نفس النص وفي الآية الكريمة 47 يقول عز وجل : «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون». هنا توضح الآية أن يحكم المسيحيون بالإنجيل، ويعد تطبيقها شأناً بشرياً يتوافق مع طبيعتهم البشرية وفق استيعابهم للنصوص الدينية تأكيداً أن الدنيا دار اختبار، فتلك الآيات، نزلت بعد أن زنا يهودي مع يهودية فأتيا الرسول ليحكم بينهما فأمرهما الرسول باتباع أحكام التوراة وتعاليم الله الواردة فيها وضرورة تنفيذ تعاليم الله وفق لفظ الحكم الوارد، ولم يكن يتعلق بالسلطة السياسية، وإنما بالمعاملات والقضاء فقط، وهي سورة مدنية، أي بعد ما عرف بالدولة الإسلامية. ولأن مسألة الحكم تحتاج لعصمة من رب العباد، فقد ارتبطت بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام كما توضح الآية الكريمة: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما» النساء 65. وكذلك قوله تعالى: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله» النساء 105، أي أن الحاكمية كولاية بتوجيه رباني مباشر مارسها الرسول الكريم إن أردنا أن نسميها ولاية الحاكمية الربانية، وانتهت بموت الرسول إن صح القول لأنها ممارسة خارقة للعادة وتحتاج لتدخل رب العزة بإرساله جبريل عليه الصلاة والسلام، ليري ويؤيد مباشرة الرسول بالمقدرات التي تمكنه من تطبيق الأحكام حسب تفسيره، وما يراه من حكم استناداً على ما فهمه من أحكام الكتاب، فإذا الرسول احتاج كل هذا المدد الرباني ليحكم بما أنزل الله فالقرآن ينسف ادعاءات منظري الحاكمية وممارستها من خلال عامة الناس، وإن كانوا فقهاء ولا يوجد أي نص قرآني يصف ويحدد آليات تولي «الأمر» في القرآن الكريم، ولا يصف الناس بالكفر، إذا لم يأمروا بهذه الكيفية فمصطلح الشورى وحده هو الذي ارتبط «بالأمر» وعليه القرآن لم يطلب إطلاقاً أن تكون هناك سلطة سياسية باسم الله.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى