صفحات سوريةعمر قدور

الحاكم الأب والحاكم الإبن… إنها الروح الخالدة تستمر مع الوريث


عمر قدور

منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي راجت في الإعلام السوري، وفي أوساط البعث ومؤيدي النظام، عبارات مثل «سيد الوطن» و»الأسد إلى الأبد«، وأخذت هذه الأوساط بتلقف كل ما يفيد بتمجيد الرئيس وتقديسه مروِّجة إياه في تنافس ومزاد محمومين بين المتسلقين والانتهازيين الذين التقطوا المزاج الجديد للنظام الذي يُراد تكريسه على نحو حثيث.

في الواقع لم تكن الألقاب غير الرسمية وليدة تلك المرحلة فقط، وإن لم تشكل سياقاً فاضحاً ومستمراً من قبل، فبعد ما سُمّي بـ»الحركة التصحيحية» وفي أول مؤتمر لحزب البعث أعقبها أُطلق على الأمين العام الجديد للحزب لقب «قائد المسيرة»، بناءً على اقتراح من «الرفيق مصطفى طلاس» كما صرّح هو نفسه في أحد الأحاديث التلفزيونية. وفيما كان لقب «الأمين العام» لقباً حزبياً رسمياً قابلاً للتداول، ولو نظرياً، فإن ابتداع لقب «قائد المسيرة» كان شأناً شخصياً يخص الأمين العام آنذاك حافظ الأسد، وقد أُلّفت الأغاني التي تتضمن ذاك اللقب الذي يتضمن قيادة مسيرة الحزب و»الأمة العربية»، والذي يتضمن على نحو مضمر تفويضاً استثنائياً ونهائياً لشخص الأمين العام، وإن لم يتضمن كلمة إلى «الأبد». ومع أن مشروع التوريث رُوّج تحت ستار «التطوير والتحديث» إلا أن وعد التحديث لم يصل إلى الألقاب ودلالاتها، ففي أول مؤتمر لحزب البعث إثر وفاة الرئيس الأب تم نقل لقب «قائد المسيرة» إلى الرئيس الابن، في إشارة إلى استمرارية الحكم بكل مقتضياته ومندرجاته، وألقابه أيضاً.

إلا أن شعار «إلى الأبد» يختلف عن عبارات التمجيد والتقديس السابقة واللاحقة، وقد لقي التفاتة خاصة بتكريسه كشعار يردده طلاب المدارس يومياً وإلزامياً، ولم يعد معنى «الأبد» المُراد ترسيخه من قبيل المغالاة والتطرف كما بدا أولاً، بل بات هذا المعنى من أدبيات السياسة الرسمية التي رفعت الرئيس باطراد إلى مرتبة الألوهة، فلم تبقَ المسألة في إطار مبايعته رئيساً طالما ظل على قيد الحياة، وتجاوزتها إلى كونه رئيساً على مرّ الزمن؛ رئيساً لن يجرؤ الموت ذاته على أن يطال شخصه. بهذا المعنى لم يكن مشروع التوريث مشروعاً سياسياً بسيطاً؛ إنه من قبيل مغالبة الموت البيولوجي بانتقال روح الميت واستمرارها في حياة جديدة متجددة، وهو انتقال بالسياسة من مجال المُعاش والملموس إلى مجال الميتافيزيك.

حتى لقد كانت صدمة للكثيرين أن «الأبد» قد مات! لكن الصدمة لم تبلغ مداها إذ كان التوريث والانتقال السريع للسلطة كفيلين بملء تلك الفجوة الزمنية القصيرة جداً، ولن نجازف إن قلنا إن ذلك كان كفيلاً بالتئام الجرح النفسي لدى بعض الموالين ممن آمنوا حقيقة بأن القائد لن يفنى أسوة بالبشر الفانون. أغلب الظن أن إطلاق اللقب الأخير على الراحل أتى استكمالاً لهذا السياق، فبدأت الإشارة إليه بلقب «القائد الخالد»، ومرة أخرى لم يكن هذا التشريف لقيادته السياسية الزمنية وحسب، بل إنه تشريف لشخصه تحديداً كروح باقية على مرّ الزمن.

إنه الرب؛ لم يقلها أحد علانية فيما مضى مع أن الأفعال سبقت الأقوال الصريحة. فهذه الروح الخالدة لا يمكن إلا أن توضع في مصاف الألوهة، وهي إذ تنتقل من جسد إلى آخر فإنها تغير قليلاً من تجلياتها دون أن تتزحزح عن جوهرها. ليست إهانة إذاً أن يجبر رجال الأمن المعتقلين، كما شاهدنا في أكثر من شريط مصور، على الركوع وتقبيل صورة الرئيس الحالي وأن يُرغموا على القول إنه الرب. وليست المسألة عودة إلى العبودية بمعناها الطبقي أو الإنساني، إن العبودية هنا هي العبودية المطلقة كما هو الرب مطلق، وكما كانت مشيئته طوال الوقت مطلقة. وما نراه تعذيباً وإهانة بليغين قد لا يكون من جهة الجلادين سوى تصويب للاختلال الذي طرأ على نفوس العبيد، وليست أرواحهم بأحسن حالاً لأن روح العبد ملك للرب يستردها متى شاء.

الرب غير مطالب بشيء أصلاً، وعندما يقدم شيئاً فهذا من سبيل الإنعام. هكذا لم يكن دخول مفردات من قبيل «مكرمة، منحة…» إلى قاموس السياسة الرسمية السورية إلا استكمالاً منطقياً لفلسفة تخرج عن نطاق الحكم إلى «حاكمية» من نوع خاص تتداخل فيها شبهة الوضعية دون أن تكون فاعلة ما دام المُلك لصاحب الملك يمنح منه ما يشاء ويحجبه متى شاء. وفي السياق نفسه لا يجوز قسر الرب على خلاف مشيئته، وما قد يبدو لنا تنازلاً غير كاف لا يخرج عن إطار مشيئته أيضاً بدلالة أنه لا يقدّم سوى ما يتسق مع بقائها فاعلة ومستمرة. ليس من إطار عام يُحتَكم إليه هنا لأن الروح الخالدة هي الأدرى بمصالح العباد، وهي بطبعها تأنف الخوض فيما هو صغير من مصالحهم، فكيف عندما يتطاول العباد على الروح المقدسة ذاتها؟!

بخلاف ما سبق أتت الانتفاضة السورية لتنقلب على المفاهيم المؤسسة للحكم الحالي برمتها. إنها ليس ثورة على الحاكم بالمعنى المتداول للكلمة، هي أقرب لأن تكون ثورة على الحاكمية والربوبية المتجسدة في شخص الحاكم. لم تطرح الانتفاضة سوى شعارات مدنية مؤسِّسة للحكم، وبذلك فضحت المنطوق القديم الذي استعار من السياسة المعاصرة بعضاً من أدواتها كإسسوار لا أكثر، وليس بوسعنا الحديث عن ديكتاتورية تصارع من أجل البقاء لأن منطوق الحكم يعلو على ما يُعرف عن الديكتاتورية كاستثناء زمني محدود. أتت الانتفاضة لتعلن موت الرب، وهي بذلك ذات أثر رجعي لأنها تطاول الزمن الحالي والزمن الذي أسس له أيضاً، وهي إذ تكفر بالروح الخالدة فإنها تتناول أسّ النظام وتقوّض عرش ربوبيته.

ليس استهتاراً ألا يرى النظام أولئك الضحايا الذين بلغ عددهم السبعة آلاف، وليس استهتاراً أيضاً ألا يحتفي بأولئك القتلى من المدافعين عن بقائه، ففلسفة النظام لا ترى في هذه الأرقام حيوات، وتكاد لا ترى فيها حتى أرقاماً لأن الرب بمقدوره الاستغناء عن بعض الأصفار. ضدّ هذه الرؤية تنذر الانتفاضة بإعادة الاعتبار إلى إنسانية المحكوم والحاكم على قدر المساواة، فلا روح خالدة لأحد وإنما هناك حياة ينبغي احترامها للجميع. هي قفزة واسعة من عبادة الأوثان إلى التعددية التي لا تفاضل فيها بين البشر المختلفين.

المعركة سياسية، هكذا يبدو الأمر ظاهراً، لكنها أيضاً معركة فلسفية تعيد السياسة في سوريا من حقل الميتافيزيك إلى مطرحها الطبيعي، تعيدها إلى التداول العام بعد أن تم احتكارها طويلاً من قبل الحاكم. هنا أيضاً تبدو اللغة وضعية ومخادعة، إذ ما حاجة الرب إلى السياسة؟!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى