سوسن جميل حسنصفحات سورية

الحالة السورية عرتنا كما رمتنا في العراء


سوسن جميل حسن

بعد مدة وجيزة، إذا ما قيست بعمر الحراك السوري حتى الآن، أطلت علينا بثينة شعبان وزفت لنا الخبر: ‘خلصت’. فأخذ الناس يرددونها بل واستعملت هذه اللفظة بطريقة إشهارية مثل أي منتج يراد الإعلان عنه، فكانت تلصق على واجهات المحلات وعلى زجاج السيارات، وتكتب بواسطة البخاخات الملونة التي لوحقت في الأسواق بسبب استخدامها في الكتابة على الجدران لعبارات ضد النظام. بالتزامن مع هذه القنبلة الإعلامية خرج العديد من المعارضين المقيمين في الخارج على شاشات الفضائيات المشغولة بالوضع السوري يرددون عبارات واثقة راسخة من قبيل: انتهى، النظام ساقط خلال فترة قريبة، أو الحسم خلال أيام. أما لفظة ‘النصر’ أو ‘الانتصار’ فقد استعملها الطرفان بالحزم ذاته والعزيمة نفسها.

وبين ‘خلصت’ و’انتهى’ لم تتوقف طاحونة الموت عن فرم الشعب السوري، بل إن أداءها في اضطراد. وترتفع الأصوات بآراء تقول بأن انهيار سوريا هو كارثة على المنطقة، لكن لا أحد يخبرنا ما هي سوريا المقصودة، هل هي شعب أم نظام؟ النتيجة المؤكدة هي أن سوريا كمجتمع ودولة ومؤسسات تنحدر بسرعة إلى الهاوية، وأولى علاماتها الباكرة كانت تظهرها التفاصيل الحياتية الصغيرة للناس، فمنذ بداية الحراك الشعبي بدأت ردود أفعال الناس تستجيب للتخويف الطائفي الذي تم التسويق له باكراً جداً، من قبل النظام كما من قبل جهات خارجية، فراح الناس يحصنون بيوتهم ومنازلهم بالحديد، تحولت الأحياء إلى أقفاص من حديد، كما بدأ النزوح الخفي وتدبير الأمور باكراً لمن يستطيع، خوفاً من الآخر.

بعد عام ونصف، أرى سورية التي عشنا فيها كخليط من الأنماط الحياتية والمعتقدات، والتي لم نفكر يوماً أن نمتحن مناعتنا فيها، أراها كانت حالة من العلمانية الوهمية، خاصة منها الاجتماعية. لم نكن نلتفت إلى أن تحت غبار أوهامنا توجد نواة للإسلام الراديكالي كانت تنمو وتكبر وتستقطب لها مساحات في الحاضنة الشعبية، مع أن مظاهرها كانت قد بدأت تفصح عن نفسها كجزء من الشارع السوري، النقاب الوهابي، والحجاب الشيعي، وازدياد عدد الجوامع ومدارس ومعاهد تحفيظ القرآن، والجمعيات الخيرية بمسميات مختلفة تنم عن انتمائها المذهبي.

هذه المظاهر التي كانت حتى الثمانينات غير مألوفة لدى المجتمع السوري، لم تظهر بين ليلة وضحاها مع الحراك السوري، بل هي عملية مدروسة وممنهجة ولا يمكن تجاهل نشوئها بعد المواجهات العسكرية بين النظام والإخوان المسلمين في الثمانينات، والتغير اللافت في العلاقات السورية السعودية. منابر دينية ناشطة لم تكن تلاحق من قبل النظام على مواعظها وثقافتها التكفيرية التي تنتشر بين الناس وتحول المجتمع السوري من حالة توحي بأنه مجتمع متحرر منفتح، إلى مجتمع مقيد ينغلق على نفسه. لم يكن النظام يهتم بهذه الثقافة الإيديولوجية الناشطة، بل كان يحارب الإسلاميين على الصعيد السياسي فقط، مثلما حارب أي تنظيم آخر، إذ كان يهمه ألاّ يمسّ أمنه فقط.

في الوقت نفسه لم تستطع الفصائل الأخرى من المجتمع السوري، اليسارية بكل أطيافها أو الليبراليين العلمانيين أو المستقلين، أن يؤثروا في الوعي الشعبي، بل إن بعضهم انسحب من الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومنهم من تجمد عند مرحلة تاريخية بعينها، والناشطون منهم لم يستطيعوا أن يكوّنوا قاعدة شعبية، حتى إذا فاجأنا الحراك الذي لم نكن نتوقعه أو نصدقه، كما لم يكن يتوقعه النظام، وكنا نتوهم أننا بعيدون عنه برغم كل الأسباب الموجبة له، تكشفت أوهامنا.

في بداية الحراك، كانت أغلبية الشعب ترى فيه بوادر ثورة طال انتظارها، لكن بعد عام ونصف، وبعد أن نجح النظام من جهة، والجهات الخارجية من جهة أخرى برسم صورة للحراك غارقة بالدم والقتل والدمار، وبعد أن تراجعت المظاهرات التي ابتدأت سلمية وتحولت على وقع العنف الذي قوبلت به إلى السلاح والمواجهات العسكرية، وصارت البلاد جبهات عدة وانقسم الشعب إلى فريقين يقاتلون بعضهم البعض، صار الناس يقيّمون الوضع بطريقة أخرى. لقد نجح العنف الممنهج في فرز الناس إلى صفوف توحدها الانتماءات الطائفية، وتحولت الثورة السورية من ثورة من أجل قلب نظام لم يستطع أن يقدم للناس ضمانات لحياة كريمة كما تطمح الشعوب كلها، بل أحكم قبضته الأمنية على مقادير المواطنين، إلى حرب تبذل جهود كبيرة من أجل وصمها وتكريس تصنيفها كحرب طائفية بين شعب ينتمي إلى طائفة ونظام ينتمي إلى أخرى، ساعد على التكريس بعض الشعارات التي كتبت ورددت، وبعض الرموز التي تشير إلى جهات سلفية أو تكفيرية. هذه الصورة كشفت الهشاشة التي خلفتها سنوات الاغتراب والتغريب والقمع والشمولية في حصانة جزء كبير من مجتمعنا، ولم تعد لتلك المقولة التي قالها شكري القوتلي عشية الوحدة بين سورية ومصر للرئيس جمال عبد الناصر كما روي : ‘كل سوري يعتقد نفسه سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسه قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنه نبي، وواحد من عشرة يعتقد بأنه الله. فكيف يمكن أن تحكم بلداً كهذا؟’ لم تعد تحمل، برغم مبالغتها، تلك النشوة الغامضة المستبطنة لمعنى الحالة السورية التي يعيشها السوري وتمنحه ملامحه الخاصة. والأمثلة عديدة، فمنذ بداية الانتفاضة السورية فاجأني رأي ردده كثيرون ممن كانوا يعتزون بتجاربهم النضالية، وأطروحاتهم اليسارية، أو أفكارهم الليبرالية، ومنهم من دفع الثمن سنيناً طويلة في سجون الرأي، عندما كانوا يقولون بأسى: ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدوّاً له ما من صداقته بدّ، معتبرين أن النظام القمعي المستبد القائم على الفساد والذي أردى سورية إلى مهاوي الردى هو الضامن الوحيد اليوم لعدم انهيار سورية، فهو بسقوطه سوف يترك البلاد ليس للمجهول، بل للجماعات السلفية المتربصة بالأقليات والقادمة لتصادر ما كان قد تبقى من ملامح مجتمع مدني وحريات. والمبرر الثاني بالأولويات هو أنه إذا انهار النظام السياسي السوري في كومة من الفوضى فإنه يمكن أن يسبب عدم استقرار في سورية وغيرها وهذا بالضبط ما ترغب به إسرائيل وحلفاؤها في المنطقة.

المبرر الثاني برأيي هو الأهم، لكن ما يحقق طموح إسرائيل ليس سقوط النظام السياسي، فسحب الثقة من كل الشعب السوري الذي يتجاوز عدده الثلاثة وعشرين مليوناً من أنه لا يوجد بينهم من هو جدير بقيادة البلاد غير النظام الحالي، فيه إهانة للشعب. وإنما سقوط سورية كمجتمع ودولة ومؤسسات، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية هذا هو المخيف، وتفضيل المبرر الأول لتبني بيت الشعر المذكور يعكس الحالة المقلقة الهشة التي بات جزء كبير من الشعب يعاني منها.

بالأمس حكى لي أحد أصحاب الفكر اليساري العروبي الذي كان مناهضاً للنظام على مدى عقود حكاية صغيرة، خلص منها إلى أن الأقلية الفلانية معنا، وقصد بمعنا الطائفة، أصابني في الصميم، فقلت له: والله هذه من الخيبات الكبرى تجعلني أبكي ويبكي معي الكثيرون. لقد عرتنا الحالة السورية، مثلما رمت بمئات الآلاف في العراء.

‘ روائية من سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى