صفحات الثقافة

الحب السوري


روجيه عوطة

لا يختصر الحب في زمن الثورة السورية بتقاطع مسارين إجتماعيين، الأول خاص، والثاني عام. ولا يحوي على اجتماع ظرفي فحسب، أي على تداخل بين الظرف الخصوصي والآخر العمومي، بحيث يحاول الحب أن يكون ثورياً، والثورة أن تكون حبُية، تلافياً لأي علاقة إلغائية بين الظرفين. فعلى خلاف عقد التوازن بين العام والخاص، خرجت الثورة السورية بعقد إجتماعي جديد، يرتب العلاقة بين الظرفين الكلي والجزئي، استناداً إلى الروابط المجتمعية التي تشكلت في سياقها. وبما أنها ليست وليدة إيديولوجية شمولية، لم تسحق الثورة أي عنصر مجتمعي خصوصي، بل خلقته واعتنت به كتغيير فردي، خصوصاً أنها نتجت عن عقد مقرون بين الخصوصيات، بنده الأول الحرية الشخصية، التي يدفع السوريون ثمنها موتاً وتشرداً.

ينطلق الحب السوري من إجتماع الخصوصيات في الفضاء المجتمعي الذي خلقه السوريون خلال ثورتهم على العصابة الأسدية. فلا يبقى حبهم مرذولاً بحجة الأولويات أو مقصياً بشعار طائفي أو قومي ما، أي أنه لا يطرد من الإجتماع الخصوصي بغية تمتين الكل وترسيخه لمواجهة الإرهاب البعثي. ومن العوامل التي أدت إلى ظهور الحب كسبيل إلى إضعاف القوة النظامية، أن الثورة السورية ليست آلة تصنيفية على طريقة الإيديولوجيات الشمولية التي تسحق الجزء حفاظاً على سلطتها الكلية، بل أنها مسار حبي طويل، تجتمع فيه الخصوصيات المتفقة والمتواطئة على حب الحرية المتمثل باسقاط البعث الأسدي.

فقد خاض السوريون ثورتهم من باب التعلق بذواتهم غير المبتذلة، التي لم تسحقها وتلوثها السلطة بهوياتها الكلية المعلنة، كالعلمانية والطبقية، أو المخفية، الطائفية والدينية. لا سيما أنها اعتادت على تقسيم الذات الواحدة إلى عدد من المرايا الإيديولوجية وفصل الواحدة عن الأخرى، حتى يضيع المرء ذاته، ويُكره على اللجوء الشمولي إلى الحزب ونظامه. أجبرت السلطة البعثية السوريين على التخلص من ذواتهم قبل أن تعتمدهم كمرايا لها، وألزمتهم بالازدراء الشخصي ليعيشوا في رعاية ذاتها الرمزية. وحتم هذا العقد البعثي عليهم أن يتخلوا عن السياق الذي تظهر الذات خلاله، أي عن الحب، واعتماد رابط مجتمعي عنيف، النظام هو الأقوى بين أطرافه، بعد أن حصر كل القوة في آلاته الإجتماعية. وما عاد الفرد قادراً على الإجتماع مع غيره بلا أن يكون موضوع السلطة الحبي، فهي وحدها التي تضمن اقترابه من الآخرين عبر قنوات عمومية، تراقبها وتصنعها على الدوام. فعلى الفرد أن يطمئن إلى حب النظام له كي يباشر غيريّته، التي اقتصرت على الحزب وقائده. أصبحت السلطة هي الذات والغير، وانتصر البعث على الحب، وإيديولوجيته على لغة التحاب. وفي النتيجة، التحمت الذوات بالنظام، وصار إطارها الخاص، وأي خوف من خسارتها يعني الذعر من فقدانه.

من ناحية أخرى، لا يقع الإجتماع العمومي، المتمثل بالثورة، خارج المجال الخاص لكل فرد. لأن العلاقة بين المجالين ليست تناقضية، أي محكومة بتنازل أو رضوخ، كما أنها ليست احتوائية، أي أن العام يحتوي الخاص بالعنف القانوني والمؤسساتي. وعلى عكس الطريقة البعثية التي تحصر النزوع الخاص بصورة السلطة، من خلال حب الرئيس، دخلت العلاقة بين العمومي والخصوصي في مرحلة الإجتماع التبديلي. إذ لا يجد الفرد عائقاً يمنعه من ممارسة خصوصيته تكريساً لعموميته، ففي الوقت عينه، يقع في الحب ويواجه النظام، أو يقاوم الميليشيا الأسدية وينزع حبياً. وبالطبع، يصبح الحب، بوصفه ميل خصوصي، رغبة عامة تتحدى السلطة البعثية وتواجه قذائقها ورصاصها، ويطرحها السوريون كنموذج للحياة اللا أسدية التي سيباشرونها لحظة سقوط العصابة المجرمة.

من خلال العلاقة التبديلية، يحصل الحب السوري على عموميته، وتحصل الثورة على خصوصيتها. أما المسافة الجامدة بين الحب والثورة، أو بين الرغبة وموضوعها. فتستحيل طريقاً يصل إلى هدف واحد. فالعلاقة العاطفية، التي لا يبغي النظام حصولها، لأنها تدل على جرأة المجتمع وجسارته المستمرة، تصبح، بالنسبة للسوريين، ميلاً ثورياً، لا يناقض المجال العمومي، بل يخلقه. والثورة، التي يرغب النظام في سحقها، تصير ميلاً خصوصياً، يأخذ من الحرية موضوعاً له، ويصنع حباً عارياً يضم المرء إلى غيره. تالياً، تتحول العلاقة العاطفية إلى رابط مضاد للعصابة الأسدية، ويتغير الوقوع في الحب إلى صعود في وجه قائدها المجرم، الذي هتفت له إحدى الأغنيات بـ”منحبك” وعرف مؤيديه بـ”المنحبكجية”.

في هذا المعنى، المضاد للحب البعثي، إنقلب أحد الأعراس في السويداء إلى تظاهرة تغني وتهتف تضامناً مع المدن السورية ضد بشار الأسد. وفي المعنى نفسه، إلتقت حنان، الممرضة الميدانية في حي سيف الدولة، بفارس، أحد المقاتلين في المقاومة الشعبية المسلحة في مدينة حلب، واحتفل بزواجهما في تظاهرة غنائية، حيث جلست حنان بلباسها الطبي، وإلى جانبها فارس بثيابه الميدانية، وحولهما الأصدقاء من المقاومين والطاقم الطبي في الحي الحلبي الذي يتعرض يومياً للقصف والتدمير. كما علق الناشط، الذي أعلن للحاضرين زفافهما، على الحدث الحبي متمنياً أن يكون بداية انتصار على الذل والإستبداد.

ونتيجة الأحداث الحبية الشبيهة بعلاقة حنان الممرضة وفارس المقاوم، لا يرتكز الحب على احتكار السلطة له، أو على مؤسسة إجتماعية، صنعتها آلة فصل العمومي عن الخصوصي بالضبط والعنف القانونيين، كمؤسسة الزواج التقليدية، حيث العام ذكوري والخاص متعلق بالمرأة فحسب، والعلاقة بينهما شمولية، محسومة لصالح الذكر القوي. وقد عمدت المناضلات السوريات إلى كسر هذه العلاقة من خلال الاندماج التام في الثورة، انطلاقاً من الخصوصيات الفردية الفاعلة في المجال العام، بعيداً من الهوية الجنسية التي يتلاعب بها العقد الإجتماعي البعثي من دون الإشارة إليها مباشرةً. بالتبديل بين الخاص والعام، يتفق السوريون خلال ثورتهم على إجتماع حبي، يرتب العلاقات بينهم ولا يعرض حرياتهم إلى خطر الاستيلاء عليها. فالإجتماع التبديلي يدافع عن ثورة الحب السوري، ولا يقصر في حب الثورة السورية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى