صفحات الثقافة

الحب في زمن الإنترنت… علاقات حارة من بُعد/ دانيال جونس *

في فيلم سبايك جونز الجديد والأخّاذ، واسمه «هي»، يقع رجل في حب نظام صوتي كومبيوتري. ويبدو الصوت الشهواني هذا كأنه صوت امرأة من لحم ودم، ويضطر المشاهد إلى تذكير نفسه بأنها غير موجودة. واختار جونز أن يدرج قصة الفيلم في المستقبل لإقناع المشاهدين بأن في وسع الكومبيوتر محاكاة الأفكار البشرية والانفعالات والكلام محاكاة بارعة. وفي ما خلا إن المرأة هي شريحة إلكترونية صغيرة، ليست قصة الفيلم من بنات المستقبل: فآلاف من الناس هم اليوم في علاقات مماثلة، أي مع شريك افتراضي. وعلى خلاف بطل الفيلم، لا ينتظر هؤلاء آلة بل أشخاصاً فعليين يتواصلون معهم وهم على «ضفة» الإنترنت الأخرى. وعلاقات الحب هذه عامرة بالمشاعر لكن التواصل الجسماني فيها غائب. وهذا الضرب من العلاقات ينتشر انتشاراً كبيراً.

وبصفتي محرر عمود «الحب المعاصر» في صحيفة «نيويورك تايمز» طوال العقد الماضي، أسرّ إليَّ عشرات الآلاف من الغرباء بأخبار قصصهم في رسائل وجهوها إليّ، تُظهر رؤية بانورامية إلى المسائل التي تشغل الناس في علاقات الحب. فالتكنولوجيا تساهم في تغيير المشهد الغرامي الرومانسي. ولاحظت في السنوات الأخيرة بروز علاقات على الخط، وهي ظاهرة بدأت اسميها أخيراً بـ «قرين الروح في صندوق». والقرين هذا هو شخص قد لا يلتقيه العاشق (ة) ولا يبادله الكلام (الصوتي)، لكنه يشعر بأنه الأقرب إليه في العالم. والعلاقة قد تكون واسطتها الرسائل الهاتفية السريعة أو البريد الإلكتروني أو «سكايب» أو «فايستايم». وفي وسع الأزواج في هذا النوع من العلاقات تبادل صور بواسطة «سنابشات»، والإيحاء بتشويق وإثارة. وثمة زوجان (كوبل) يستسيغان تبادل النظرات بواسطة سكايب من غير كلام، ويلجآن إلى تبادل الرسائل القصيرة والواحد منهما يرى الآخر إذ يخفض نظره إلى لوحة المفاتيح ويضغط على زر الإرسال.

ولكن كيف تبدأ هذه العلاقات؟ في معظم الحالات تكون ثمرة لقاء غريبين في منابر وسائل التواصل الاجتماعي مثل «فايسبوك» أو مواقع المواعدة الإلكترونية أو إثر نقل تغريدة الشخص ووسمها بالمفضلة (فايفوريتنغ) وشيئاً فشيئاً قد تتحول التغريدات جسراً إلى غزل. في البداية، مثل هذه اللقاءات العابرة مسلٍّ ومرفِّه. ولا يقيم لها المرء حساباً، «فالشريك» يعيش على بعد ألفي ميل أو اكثر.

وضعف فرص هذه العلاقة في الانتقال إلى حيز الحياة الفعلية هو وراء التقارب السريع بين الأزواج. وفي فيلم «هي»، يستخف البطل، ثيودور توامبلي، باحتمال وقوعه في حب صوت إلكتروني، ولا يطول الأمر به قبل أن يجد نفسه متيّماً. ومثل توامبلي، يقول الذين يلتقون «قرينهم» على الخط أن الأمور لن تتطور مع الآخر البعيد ولن تؤول إلى شيء. فيطلقون لها، في غفلة منهم، العنان. ويتحول ما بدا انه دردشة ثانوية إلى اكثر علاقة استحواذية وملحة في حياتهم. فواحدنا في بحث مزمن عن سبل جديدة لمصادفة الحب من غير أن يشعر بالقلق والضعف. ولا أحد يرغب في أن يشعر بالضعف وعدم الأمان. وهذا أضنى ما في الحب: أن يقبل الواحد بأن يكون موضع حكم الآخر عليه وأن يرتضي احتمال ألاّ ينال إعجابه وأن يلفظه. وحين تتسنى له فرصة التستر – سواء من طريق توجيه رسائل صغيرة من الممكن تشذيبها ومحو غير المناسب أو من طريق البوح بما يشاء على «سكايب» من غير أمل بلقاء فعلي- يتحرر من قيد القلق ويحسِب أن مثل هذه العلاقة مريح و»أفضل» من أثقال علاقة فعلية.

تزخر آلاف الرسائل التي وصلتني اثر إطلاقي مسابقتين عن الحب المعاصر في 2008 و2011، بهذا النوع من نوازع حماية الذات. في المسابقة الأولى، غلب على موضوعات رسائل الطلاب الجامعيين التنازع الذي يعتريهم جراء علاقات عابرة، هي من غير روابط كما تسمى. فمثل هذه العلاقات «منطقي»، في وقت لا يملك الطالب الانشغال بما يقتضيه التقرب من الآخر والقلق على مشاعره والشوق. وكثر من الطلاب حسِبوا ان الفصل بين المتعة وشؤون الحب وشواغله ممكن ومفيد. لكن إرساء القطيعة بين الأفعال والمشاعر لم يكن يسيراً بمقدار ما حسبوا. وبعد 3 أعوام، تبين أن الجامعيين مالوا إلى ترك هذا النوع من العلاقات، ودارت كتاباتهم على علاقات الحب «الإلكترونية». وبدا أن المعضلة انقلبت رأساً على عقب، فتربع السعي إلى علاقات حارة من غير لقاء محل السعي في الفصل بين العلاقات الحميمة والمشاعر.

وفي أحدث أشكال الحب، يمضي الطلاب أمسياتهم وهم يتبادلون الكلام على «سكايب» أو الرسائل الإلكترونية مع شخص قابلوه على الشبكة ويقيم على بعد 5 ولايات. يدركهم النوم وأجهزة الكومبيوتر المحمولة في جوارهم فيصحون بعد ساعات ويضغطون على الأزرار لتنفخ الحياة في الشاشة فيسعهم إلقاء تحية الصباح على العاشق الإلكتروني المقيم في منطقة قصية، وتوقيت زمني مختلف. ويغلب على هذه العلاقات تبادل كل فكرة وكل خاطرة وكل «نتفة» شعور، لكن الطابع الأبرز في هذه العلاقات هو القدرة على اغلاق الكمبيوتر أو الهاتف النقال حين يشاء المرء، ليواصل حياته كما يشاء وهو غير مثقل بقيود الارتباط بآخر. وحين يقرر الأزواج في علاقة على الخط، اللقاء، ينتهي بهم الأمر إلى ما آلت إليه علاقة ثيودور بـ «هي» حين حاول التقرب من امرأة تقوم مقام الصوت، فيشعر بأن الأمور غير مناسبة. وإثر المراسلات الرقمية الحارة، لا يبدو التقاء الحبيبين الجسماني في محله، فالجسم في هذه الحال ينفصل عن المشاعر. وتتعثر الواحدة إذ تسعى في ربط الحبيب السيبرنيطيقي بالرجل الجالس في جوارها لذا قيّض لهما اللقاء. فيفقد المرء الشعور بالخفة والراحة الذي اعتراه حين صاغ نسخة عن حاله على الإنترنت، وجلا على صورة شخص غير متناقض.

* محرر عمود «مودرن لوف» في الصحيفة، صاحب» لوف إيلّومينايتد»، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 6/2/2014، إعداد منال نحاس

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى