صفحات العالم

الحدث السوري واعلام المقاومة: انقلاب الصورة؟

 


د. ماهر الجعبري

كان مشهدا لافتا عندما وقفت تلك المرأة اللبنانية على فضائية ‘المنار’ إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، وهي تخاطب السيد حسن نصر الله وتطلب قطعة من عباءته التي تعرّق فيها خلال تلك الحرب الشرسة، لأن السيد نصر الله كان قد جسّد في تلك الحرب رمزية للناس التي ترفض الكيان المغتصب، وترفض كل من يقف وراءه من قوى الغرب ومن الأنظمة العربية، فعبّر السيد نصر الله عن مشاعر الأمة في إطلالته.

وكانت أغنية ‘متى تغضب؟’ التي بثتها فضائية المقاومة، تطرب آذان الغاضبين من أبناء الأمة والرافضين لمسيرة التخاذل والانبطاح العربي أمام التجبر الأمريكي وأمام تمرد ربيبته ‘إسرائيل’، وكانت المشاعر التي يحركها ذلك الإعلام تصبّ في خانة شحن الناس ضد العدوان وضد التخاذل.

واليوم، يلاحظ المتابع أن إعلام ‘المقاومة’ الذي لا يُغفل أخبار كافة الثورات، بل ويركّز على ما يحصل من اضطهاد في البحرين، يقف كأخرس أمام جرائم النظام السوري، أو شاهد زور على تلك الوحشية، فهل يتحول ‘خطاب المقاومة’ إلى سياج لحماية الأنظمة المتآمرة على الأمة؟

 

انقلبت الصورة الإعلامية للمقاومة، وتمخضت عن إعلام يسعى لتبييض وجه الإجرام الرسمي السوري، ونقل تبريراته الهشّة التي لا يمكن أن تُمرر أمام مشاهد الدماء الزكية التي تسيل على أرض الشام الطاهرة، ذات الفضائل العظيمة.

نقول انقلبت الصورة، حتى لا نقول ‘انكشفت’، لأن القناعة بإخلاص من يحمل السلاح ضد اسرائيل، من رجالات يحملون أرواحهم على أكفهم تبقى قائمة، مهما عمل ‘الموجّهون’ على تنفيذ برامج التضليل على أولئك الجنود الذين تربوا على عقيدة حرب العدو المغتصب.

ما كان الموقف ليستدعي التعليق عليه لولا سوءه، لأن من يوجّه السلاح ضد العدو يمارس أعمالا بطولية تشربت الأمة مدحَها وحبَ من يمارسها. لكن ما يبرز اليوم من مشاهد متناقضة تماما مع تلك الصورة ‘الثورية’ في إعلام ‘المقاومة’، يوجب توجيه صرخة تنبيه، لعلها توقظ من يجلس في غرف تحرير الأخبار في إعلام المقاومة، قبل أن يصحو متأخرًا بعد تهاوي نظام بشار إلى الأبد.

لا شك أنه موقف فاضح يكشف عن تهافت منطق التحالف مع ما تسمّى دول الممانعة، لأنها ليست سوى نسخة أخرى من دول الانبطاح العربي، وحالها كحال بائعة الهوى المتسترة! فلا فرق بين الدول العربية التي تتعرى على الفضائيات أمام عنجهية الكيان الغاصب وهي تخطب وده، وبين تلك التي تقول له أكرهك أمام الشاشات، بينما تبعث له العرّاب التركي ليخطب وده كلما سنحت الفرصة.

بل لقد كشفت الثورة السورية بشاعة وجه الدولة ‘الممانعة’: وهي تحرك دباباتها في الطريق المؤدي للجولان، ولكن من أجل حصار درعا وقتل أهلها، لا من أجل فتح جبهة الجولان التي ظلّت ساكنة سكون القبور طيلة عقود ‘الممانعة’ الطويلة، فأي بشاعة لمثل هذه الدولة التي انتسبت للممانعة زورا وبهتانا! وأي صمت أعظم مقتا من صمت من يدّعي المقاومة ولا يستفزه ذلك الهجوم الوحشي على أهله في سورية؟

وقد كشفت تصريحات العدو عن قلق من انهيار دولة ‘الممانعة’، فكيف تلتقي مصالح دولة الاحتلال مع مصالح من يقاوم ذلك الاحتلال على حماية النظام السوري؟ هي عقدة ليس لها اي حل إلا من خلال التستّر خلف الشعارات والتضليل الإعلامي الذي هو العنوان الأبرز في كافة التغطيات الإعلامية لثورات الأمة.

ولم يقف الحد عند تخاذل إعلام المقاومة عن نصرة ثورة الأمة في سورية، بل سبقته بعض فصائل المقاومة عندما اعتبرت ما يجري في الشام شأنا داخليا (مع أن فلسطين جزء من الشام!)، فوفرت الغطاء لمواقع الإعلام التي تسبّح بحمد تلك الفصائل وتتغنى بتاريخها النضالي، لكي تحذف كل خبر يصب في تجييش الناس ضد نظام بشار وزمرته، بل وكان قادة من المقاومة قد كالوا المديح لنظام بشار على أنه أمين على قضية فلسطين، فكيف يُؤتمن على القضية من لا يؤتمن على شعبه؟

ليس ثمة من يدّعي أن خلع الاحتلال من ‘كامل’ تراب فلسطين يمكن أن يتم بدون جيوش الأمة تجتاح كيان الاحتلال فلا تبقي منه ولا تذر؟ ولذلك فإن الذي لا يهمّه شأن تحرير تلك الجيوش من قبضة الحكام، لا يمكن أن يدّعي أنه يريد تحرير كامل فلسطين.

كيف لفضائية ‘المقاومة الإسلامية الفلسطينية’ أن لا تتابع باهتمام ما يجري في سورية وأن لا تقف مع الثورة السورية؟ وذلك هو الحدث الأهم الذي يصب في خدمة قضية فلسطين، بل هو الطريق الأقصر نحو تحرير فلسطين، كل فلسطين، عندما يسقط النظام الذي وقف حارسا طيلة تلك العقود لذلك الكيان الغاصب، وظلّ يحتفظ بحق الرد وهو يتلقى الضربات والإهانات.

وكيف للمنظرين للمقاومة والمنافحين عن بطولاتها ‘التاريخية’ أن لا تستفزّهم بطولات ‘الحاضر’ اليومية للثائرين ضد نظام البعث، وهم يصدعون بشعارهم العقدي ‘على الجنة رايحين … شهداء بالملايين’؟ أم أن أبواب الجنّة لا تفتح إلا لمن حمل سلاح المقاومة! وأن أعظم الجهاد هو ما كان سلاحه بتمويل من دول الممانعة؟

هي تناقضات تكشفها الأحداث اليومية لهذه الثورات التي صار صوت الناس فيها أقوى من أصوات الحكام وأبواقهم، وصار عطر الدماء النديّة فيها ينافس عطر الشهداء الذين سقطوا وهم يوجعون العدو المغتصب، من أجل أن يحركّوا الأمة. اليوم تحركت الأمة، فلماذا لا تتجاوب معها المقاومة؟

وفي هذا المقام، لا بد من وقفة حول مفهوم المقاومة، فإن كانت المقاومة كما يريدها المنظرون والأكاديميّون ورقةَ ضغط على طاولة المفاوضات، ومقدمةً للحراك الدبلوماسي لاستجداء دويلة على حدود 67، فلا حاجة للأمة بها، لأن الأمة ترفض المفاوضات وكل طريق يؤدي إليها، حتى ولو كان الطريق يدغدغ مشاعرها، ويطرب آذانها، أما إن كانت من الجهاد الذي يهدف إلى تحريك الأمة، وإرجاع القضية لحضن الأمة فنعمّا هي.

وإذا لم يقف إعلام المقاومة وقفة حق مع الثائرين في سورية، فعليه أن يتوقف – على أقل تقدير- عن ترديد منطق ‘المنّ’ على الأمة، بأنه حمل السلاح، ويجب أن يصمت أولئك المختبئون في أكفان الشهداء، والذين يدهنون وجوههم بدماء الشهداء ليحتكروا حق الحديث حول قضية فلسطين، وليمنعوا حق الحديث حول شؤون الأمة عن كل مسلم مخلص.

اعلامي من فلسطين

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى