صفحات الثقافة

الحدث وأخواته/ عباس بيضون

يخرج ككل مرة السؤال نفسه، ماذا يفعل الأدب والفن في المعركة، وككل مرة يتصدر أدب وفن مطابقان تحريضيان فوريان. بالطبع لن نلوم هذا الأدب وذلك الفن، انهما في المعركة وسبيلهما إليها ما يشبه السلاح. مثل هذا الأدب وذاك الفن يصلحان لأن يكونا راية أو لافتة أو هتافاً أو غرافيتي على الحيطان، لقد قصدا ذلك وتعمداه وأراداه لأنفسهما، طلباه وتحقق لهما. لقد وصلا إلى غايتهما ولنا أن نشكرهما على أنهما ضحيا وعلى أنهما تنازلا وعلى أنهما كانا على الموعد ولم يتأخرا عن اللحظة. لقد وضعا نفسيهما في خدمة أهداف جامعة.

سيكون سيئاً أن نقول انها كانت تضحية بالفن. سيكون سيئا أن يقال انه نموذج سيئ للأدب والفن ومثال ينبغي أن نبتعد عنه. ليست المسألة هي أن نختار بينهما وبين أدب وفن آخرين، ليست أن نتهمهما بتلويث الأدب والفن والحط من شأنهما والانحدار بهما إلى مرتبة دنيا. ليست مسألة اختيار أو استبدال. العقل الاستبدالي وحده الذي يفكر هكذا. يمكننا أن نقبل فناً وأدباً للمعركة ولا يعني هذا أننا نقبل بهما نموذجاً وحيداً وأن يكونا مثالنا الفني والأدبي.

مع ذلك لا يسعنا إلا القول اننا فعلاً في معركة، وان ما حدث ويحدث اليوم زلزال حقيقي لم نكن ماثلين له ولم نتوقعه، مثل هذا الغليان سيغير بدون شك روايتنا عن حياتنا وعن أنفسنا. نحن بالتأكيد نصب معايير وتحولات أخرى. هذه المادة الخصبة ستكون ماثلة بالتأكيد للأدباء والفنانين ولن يستحقوا عملهم إذا لم يغرفوا منها وإذا لم يغوصوا فيها. لقد غيرت الحرب الأدب اللبناني وكانت هزيمة الـ 67 فاصلة في مجرى الأدب والفن. لا يهمني هنا أن يكون ذلك مباشراً أو لا يكون، لكن أدب اليوم وفن اليوم وفكر اليوم لم تكن ذاتها لولاها. حدث ذلك في مسار سنين كثيرة كان البعد الزمني فيها يجعلنا أقرب وأصح رؤية. هذه الأحداث التي تنبش تراثاً راكداً وتنعف ركاماً مكدساً لا تمر بدون أن تدمغ فكرنا وفننا. لا يستعجل أحد ذلك ولا يستأخره فنحن لا نعرف ماذا تسرب إلينا وكيف فعل في نفوسنا وفي لغتنا وفي مصائرنا. وكيف كون كلماته وإيقاعاته وألوانه. لكن الأكيد أن فواصل كهذه لا تمر بدون أثر فلا يقيم أحد من نفسه وصيا على الزمن فإن الأدب والفن لا يصدعان لأمر ولا ينتظران إذناً.

قد يكون الجواب المتواتر، أن الأشياء تحتاج إلى مُهل موقوتة لتنضج وتختمر وأن المعاناة تتطلب وقتا ومسافة ومدى. هذا جواب يستمد من التجارب ومن الوقائع، يقولون ان زمن الأدب وزمن الفن غير الزمن العادي وان البعد قد يتيح مدى للتأمل يجعلنا ألصق وأقرب. الأمثلة على ذلك كثيرة بل يصح القول ان أغلب الوقائع تدعم هذا الرأي. لكن ما قولنا في أعمال أدبية أو فنية ولدت في شرارة الحدث وفي صهيره وكانت رغم ذلك وربما بسببه نضرة سائغة. ماذا نقول في أعمال صنعت بأمر وبطلب من ملوك وباباوات ومتمولين كبار وكانت تحفا في وقتها. بل نحن نعرف أن ثمة عصوراً للفن لم يكن الفنان فيها يعمل الا بتكليف ومقابل أجر، كان المتعهد يملي عليه ما يريد وما يرغب ويتركه ليحقق ذلك على مقدار موهبته وصنعته، ولم يكن بين الكلمتين آنذاك كثير فرق فالموهبة تكاد تكون اسماً آخر للصنعة. لنتذكر الآن ذلك الشعر الذي طالما تغنينا به ووجدنا فيه ما يلابس نفوسنا ومشاعرنا ولم يكن بعضه سوى أعمال ارتزق بها الشعراء ونالوا عليها صلات ومكافآت. ليست هذه خصيصة للشعر العربي وحده ففي الشعر الصيني القديم نقرأ مدائح ومطولات فيها وصف لمعارك ضارية وقصور وحقائق غناء.

نستخلص من ذلك أننا لا نستطيع أن نضع قواعد للإبداع أو أن نرهنه بزمن ومكان وأن نفترض مهلة ما بين الموضوع وتحققه في الأدب والفن، إذا كنا لا نستطيع أن نلزم الأديب والفنان بأن يستجيب فوراً للحدث وأن يكون سلاحاً في المعركة فإننا لا نستطيع بالمقابل أن نلزمه بمهلة ما وبمسافة وموعد قريب أو متأخر. ثمة أعمال ولدت من رحم الأحداث وجاءت وفيها الكثير من رعن الحدث ومن حرارته، لا أريد أن أتوسع في الأمثلة لكنني أكتفي بمثل واحد هو أحمد فؤاد نجم الذي مزج في قصائد فورية بين اللغة السائرة والفولكلور وحمى الحدث وصدح بذلك في اشعاره.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى