صفحات الناس

الحراقات” تلوّث الثورة/ عبير حيدر

لم يعد عمل الكثير من الجماعات المسلحة والكتائب الاسلامية، في مناطق الشمال والشمال الشرقي السوري، يقتصر على الوقوف بوجه النظام، وإنما انتشرت حالات كثيرة من النهب والسلب بقوة السلاح. هذه الأعمال غير المشروعة تتخطى اليوم موضوع “اللصوصية”، لتترك آثاراً كارثية على المحيط البيئي والصحي لسكان تلك المناطق، وخصوصاً بعد انتشار عمليات بسط السيطرة على آبار النفط وتكريره يدوياً.

في دير الزور، القابعة تحت سيطرة المعارضة والكتائب المسلحة التابعة لها، تحول ريف المدينة الغني بالنفط إلى قبلة المجاهدين وأهالي بعض العشائر، الذين فرضوا وجودهم بالقوة. وهذا ما جعل ملكية آبار المدينة تحت رحمة تلك المجموعات والكتائب المسلحة، حيث تتم عمليات استخراج وتكرير النفط يدوياً في تلك المناطق، في ظل عدم اكتراث بالعواقب الخطيرة للإشعاعات المتسربة عن استخدام “الحرّاقات”. والأخيرة  هي خزّانات معدينة كبيرة تُملأ بالنفط الخام ويتم إشعال النار تحتها، ومن ثم تتم عملية التكرير بواسطة الماء بتكاثف النفط المغلي مع بخار الماء، ويحوّل النفط المكرر إلى مشتقاتٍ عدّة.

الآثار الجانبية لعمليات تكرير النفط البدائية لم تتأخر في الظهور لتنعكس على صحة سكان المنطقة، اذ بدأت تبرز في الآونة الأخيرة العديد من الأمراض بين الأهالي في عدة مناطق من محافظة دير الزور. وكثر الحديث عن انتشار الالتهابات الجلدية والسرطان الجلدي، ورصد عدة حالات من التشوهات الخلقية وعدد من حالات الإجهاض. وتعود هذه العوارض، وفقاً لما ذكره أحد الأطباء الميدانيين، إلى الآثار الجانبية للغازات المنبعثة من حرق النفط، والتي تحتوي أول أوكسيد الكربون وثاني أوكسيد الكربون وثاني أوكسيد الكبريت فضلاً عن أوكسيد النتروجين وكبريتيد الهيدروجين القاتل والكثير من المركبات الهيدروكربونية القاتلة.

كما أن النفط يحتوي عادةً على نسبة معينة من المواد المشعة، يؤدي التعرض المباشر والمستمر لها إلى انتشار الأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية.

لكن تأثير هذه العمليات لم يعد يقتصر على الانسان، وإنما بدأ يصيب التوازن الحيوي للبيئة المحيطة بأكملها بالخلل، لم يسلم منها الحيوان والنبات ولا حتى الماء. فأثر الأشعة المتسربة يدوم عشرات السنين، حيث تمتصها التربة والصخور وتختزنها. كما أن الدخان المتصاعد من حراقات التكرير اليدوي يؤدي إلى تلوث كبير في البيئة ويؤدي إلى تشكل غيوم سوداء في سماء المنطقة وبالتالي تساقط الأمطار الحمضية، ما يمنع حتى تلقيح الأشجار.

المؤسف بأن هذه الظاهرة بدأت تنتشر في مدن وقرى أخرى، وخصوصاً أن الفقر والعوز الذي يعانى منه الأهالي في ظل الحصار الذي يفرضه النظام على تلك المدن، جعل أيضاً الناس يلجأون إلى تلك الأساليب لتأمين مصدر للرزق، وهذا ما بدأ يظهر في الحسكة وقراها أيضاً.

لكن السيطرة على ثروات السوريين من قبل بعض الكتائب المسلحة، لا تمنحهم الحق ارتكاب أبشع الجرائم بحق السوريين سيدوم تأثيرها السلبي على مدى سنوات عديدة، لن ينجو منها أحد.

فالإتجار بالنفط الخام والمكرر واحتكار بيعه بأسعار مرتفعة إلى دول الجوار وسكان المناطق المحيطة، جعل عشرات الحراقات تنتشر في القرية الواحدة. من يوقف “اللصوصية” باسم الثورة، فأمثال هؤلاء لا يعبرون عن حالة ثورية ولا عن تطلعات السوريين الذين ضحوا بأنفسهم لقاء حرية بلدهم وصون ثرواته المهدورة لعقود طويلة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى