صفحات الرأي

الحراك الجماهيري وتأزّم الحسّ السياسيّ


 عزيز العظمة

ليس غريبا أن يؤدي الحراك الجماهيري العربي في الأشهر الأخيرة إلى تبلبل في المواقف السياسية، و إلى اضطراب بالغ في رصد المثقفين العرب للتحولات التي نراها معتملة في الدول العربية على اختلافاتها البيّنة. ولعلّ هذا التبلبل على أشدّه في سوريا التي دمّرت فيها الدولة البعثية، في تحوّلها من دولة إلى تآلف سلطوي مافيوسي الطابع، فاعلية الدولة، وفتكت بالسياسة و الثقافة و المجتمع، ثمّ أمعنت في العتوّ على نحو يفاقم من التخلخلات الاجتماعية والانحسار المعيش والتنابذ الطائفي والإفقار الثقافي وهي تواجه جملة حراكات ذات شجاعة منقطعة النظير قد تجذّرت الآن في أنحاء سورية.

أدّى ذلك إلى خلق وضع تتحوّل فيه التمايزات الطائفية إلى تجييش طائفي، وإلى ضرب من الطائفية السياسية ذات إمكانيات مدمّرة ، خصوصا مع استخدام السلطة لميليشيا طائفية (الشبيحة) و لوحدات عسكرية مطيّفة (و مقتصرة على الشوايا) على الرّغم من وعي معلن من قبل الخارجين على النظام العصيّ على الإصلاح بهذا الأمر، و الحرص المعلن على تفادي المنزلق العراقي هذا، ذلك المنزلق الذي يتفاقم كلّما أمعنت السلطة في سياستها الشمشونية التي لن تقبل إلاّ بخراب البلد ثمنا لإزالتها عن السلطة.

و من علامات هذا التبلبل رفض البعض ( وليس الجميع) لرؤية الانشطارات السياسية الأساسية البادية في الأفق بين القوى السياسية المتطلعة إلى المستقبل والملمّة بالتحوّلات المحلية و الكونية، و القوى الإسلامية التي ترتجي النكوص الاجتماعي والعقلي، بل والسياسي أيضا، رافعة أساسية للمستقبل الذي ترتجيه تلك القوى التي تحظى يتأييد ضمني من الولايات المتحدة و تركيا و قطر، و خصوصا الأولى التي ترى في تآلف إسلامي – عسكري سيناريو مثاليّا للتحول الذي يوسم بالديمقراطي. ونحن نرى أن المثقفين في هذا الاعتبار ليسوا أحسن حالا من السياسيين والمتطلعين للعب دور سياسي مباشر، بل هم يشاركونهم في غياب الآفاق الواضحة لما يراد في الحراك الجماهيري، تحت عنوان لمّ الشمل و تأجيل التباينات، على صورة تشي بفهم لما يحصل ليس متقدّما على الشعارات المتداولة، بل هو يتستّر على الكثير ممّا هو حاصل: هو مع رفضه لما رفع من شعارات طائفية ليس متقدّما على ما نرى من شعارات سلبية (إسقاط النظام، إعدام الرئيس)، و شعارات حركية صرفة (“لن نركع”) ، أو شعارات محتوية على آمال غيبيّة خالية من السياسة (” جمعة بشائر النّصر” ، “جمعة الصمود” ، ” جمعة الله معنا”).

باختصار، يؤدي هذا التبلبل إلى غضّ النظر عن أنّ الوضع السوري، المرشح إلى التفاقم على المدى المتوسط بعد دفع السلطة له إلى نقطة اللاعودة، لا يضمن أنّ ما سيأتي بعد قد لا يكون أفضل مما هو قائم و ان كان قد تقادم.

ليس الحراك، على أهميته و مشروعيته، بذاته خيرا “محضا”، وإن عبارة الديمقراطية غير كافية بحد ذاتها برنامجا سياسيا، إن كانت كافية لكثير من المثقفين وملائمة لكثير من السياسيين.

يراوح المثقفون العرب بين طنين المدح للحراك الجماهيري و بين الوجل من قصور خلقيّ معزوّ للجمهور، على صورة تشي بنرجسيّة تعطّل توسّل النظر الموضوعي والتحليلي الذي يبدو في تيه من الشعبوية و التعالي في آن. و إننا لو استثنينا القليل ممّا يقال ( و تنبغي الإشارة هنا إلى مساهمات ياسين الحاج صالح في رصد الوضع السوري)، نجد أنفسنا إزاء مثقفين كانوا راكنين لانعدام الدور قبل بداية الحراك العربي، منفعلين بكاريزما لحظة الحراك الذي لا قائد كاريزماتي له، على نحو مفتقد للبوصلة التحليلية، مختلط الوجدان و العقل و النظر والملاحظة والإرادة. و في الاختلاط هذا تسليم بعدم الفهم، و بعدم الرغبة في الفهم. تسليم ترتّب على رغبة في التماهي مع الحراك سمتها شبق الاندغام، و كأننا بصدد وجل من اتخاذ مسافة تحليلية هي ليست في تضادّ مع الالتزام بالفعل، و لا هي تنافي اعتبار أنّ الحراك بل و إنّ الثورة – إن تمّت – لا تحوّل من طبائع العمران في الأحوال بل إنّها تجد تفسيرا و “تعليلا” في هذه الطبائع وفي مما يتطلب لفهمه من أدوات تحليلية. أما الطبائع التي نشير إليها هنا، فما هي إلاّ النظام النيو ليبرالي الذي توطّد بعد 1989، مقلّصا لفاعلّية الدولة في المجالات الاجتماعية و الثقافية بل والسياسية، ومتطلّبا تشييد نظم تترتب على نتائج هذه االتحولات، من أنواع من اللامركزية الثقافية والجهوية والسياسية تطلق عليها إجمالا عبارة الديمقراطية محيلة بالضبط الاجتماعي من الدولة إلى الجماعات الأهلية، ومستعيضة، في أوضاع الغليان و التحوّل السريع، بطبائع معزوّة إلى المجتمع الأهلي عن وحشية الدولة.

يترتب عن ذلك أن الحراك القائم باسم الديمقراطية و المناوئ للاستئثار بالسلطة والفساد و قساوة القمع، لا يمكن اختزاله إلة مجرّد تطلّع بهيج و فرح إلى فضاء المساواتيّة والحرّية، على ما تشي به مفاهيم الديمقراطية كما جرى تداولها في مدارس إدارة الأعمال و كما عملت على بثّها المنظمات غير الحكومية والهيئات الدولية. ذلك أن عبارات “ارحل” و “كفى” غير كافية للإحاطة بما يجري. و إنّه ليس بكاف أن ينظر إليها على أنها برنامج عفوي لجمهور تعب من القنوط و القمع و الاستباحة، و لو أن التعب هذا بديّ، يتبدّى في الحراك الجماهيري وفي ما تقوله الأقلام معا.

وعلى ذلك، فإن القول بأن ” الثورات التي بدأت شبابية و صارت متنوعة الأعمار لم تكن ثمرة نظرية ثورية… (بل) إنها ثورات ذات أهداف لا تحتاج إلى إطار نظري صلب” ( و الكلام لأحمد برقاوي) هو، على صحّته الشديدة العموم، بالغ القصور في توصيفه لما نشهد، وهو لا يروم أكثر من الاحتفال بما يصفه المؤلف على أنّه ” فرح ميتافيزيقي” آيل إلى “المثقّف العضويّ”.

ينطبق الكلام نفسه على وصف الحراك على أنّه اكتشاف للذات من قبل الشعوب العربية، “كالعنقاء تنبعث من رمادها … دون أن يستدعي ذلك أي مفاوضات مسبقة أو حوارات سابقة أو تنظير” (والكلام لبرهان غليون).

و إذا صير إلى ترجمة هذا المديح للتلقائية إلى موقف سياسي، أمكن القول – و الكلام لياسين الحاج صالح حول سورية – بأنّ ” الانتفاضة كيان جديد و هوية جديدة… و هي إن لم تكن قادرة على الاكتفاء الذاتي سياسيا، فإنها في غير حاجة إلى من يمثلها أو ينطق باسمها من خارجها. الواقع أنّ صفتها كانتفاضة ديمقراطية تتعارض مع تمثيلها بهيئات أو هياكل لا تنتجها هي و لا تنضبط بإيقاعها، أولا تقدر على سحب الشرعية منها في أي وقت”.

أن يكون الحراك الجماهيري قبل السياسة وما وراءها: ذلك افتراض و شعور متضمّن في المواقف التي اقتبسنا شذرات ممّا تتضمّن. أمّا السلطة، و هي عماد نصاب السياسة، فهي مغبرّة في سراب أيل عن إدغام فكرة المساواة، مأخوذة على اعتبار أخلاقي بحت. في نصاب المعرفة و المعاينة و الفهم، و جعلها – أي الأخلاق – وصيّة على التفكّر على نحو يباين فهما أكثر إحكاما لشأن السياسة لدى الفرق السياسية الإسلامية، رغما من اشتراكها مع غيرها في بثّ خطاب شعبوي وأخلاقي في السياسة، ملائم للخطاب الفرح حول الديمقراطية الذي يسم مجال الخطاب السياسي العالمي.

يؤدي بنا هذا الكلام إلى شأن الشعبوية المنفعلة بالحراك على صورة قد تكون عبارتها الأكثر إفصاحا ما قالته رجاء بن سلامة عن الحراك المستخدم للثقافة الحديثة على الرغم من نقدها للتواصل العنكبوتي ونتائجه، ” لم يعرف السبب، ولم يبطل العجب”. ليس مستغربا في هذا السياق ما قاله سعيد ناشيد في هجاء التفهم، ومن أنّ العقل يعقل الإرادة و حدس الحياة وأن التفاهم أولوية على الفهم، وأنّ التخاطب أولوية على الخطاب، وأنّ ما من مهمة للمثقف والثقافة إلاّ استنفار حدس الجمهور دون كونه أمينا على “أسرار التفسير”.

في هذا المزاج الشعبوي نفي ضمني للطابع السياسي و الاجتماعي للحراك الجماهيري، و عزوف عن رصد التمايزات الاجتماعية التي لا قائمة للنتائج والوجهات السياسية والثقافية لهذا الحراك دونها. بل اختصارا للاعقل و لسياسة الغرائز في نهاية المطاف، لجمالية الجمهور الهادر و الغضب العاري، و ارتهانا “سياسيّا” و “فكريّا” بمزاج الشارع على اعتباره شارعا ” مع ما في هذا الاعتبار من تحقير ينقلب محاسن”.

لقد أعلن كثير من المثقفين العرب أنهم لا يرتجون قيادة إلاّ من هذا الشارع، و أنّهم لا يرتضون له، هم المندغمون به في شبق رومانسيّ، إلاّ ما ارتضى أن يفرزه.

لكن هل يعقل اتخاذ مواقف كهذه في أوضاع بالغة التعقيد و الخطورة، و خصوصا “في سورية الآخذة في منحدر عراقي نحو أبواب مشرعة للجحيم؟ و هل يعقل أن يقتصر التقدير على التصفيق، و على الاستقالة من مهمّة التفكّر على ما في هذه المهمّة من أثر مرجوّ على مسار تشكّل إرادات سياسية فاعلة؟

إننا نجد أنفسنا و كأننا بصدد قلب واستبدال للمواقع التي كانت للمثقّف أو لطموحات المثقّف، من القيادة في موقع الصدارة، إلى القيادة من الخلف.

ليس ضروريا الذهاب بعيدا في البحث عن مكمن هذا التواضع الاحتفالي الآيل عن العجز الذي يشي بالانفصال رغم رغبته في التماهي، و القائم إلى حد كبير على انفعالات كيديّة و على ذهنية الاقتصاص و الانتفاء إذ أننا سنجد ضالّتنا كامنة في الشعبوية التي تمكنت من الكثيرين منّا. فهي الحاجب المانع لمقدرة، أو لإرادة البعض منا في الاستدلال عن صورة ترى في الدول القمعية المفسدة، المثلبة السالبة الفاتكة شرّا “مطلقا”، على أنّ كل ما قام عليها و كلّ من عارضها حقّا ” خلاّصيّ مرسل”. والحال أن الخير المحض و الشر المحض في تصورهما هذا على وجه كبير من مجانبة النظر و التفكر و التّفحّص. لا شكّ في أن السلطة البعثية في سوريا و السلطة الجماهيرية في ليبيا قد تماديتا في الاستبداد و في القتل، و قد تجاوزهما الزمن. و لكن ذلك لا يستتبع الذهاب إلى أن كل من عارضهما واعد بمستقبل زاهر.

و لكن ما الشعبوية؟ إن كان لنا في هذا السياق التغاضي عن أن سلطة كالسلطة البعثية قد مسحت أو كادت فاعلية الثقافة و المثقف. و قد أدّت بالمجتمع السوري إلى نكوص تاريخي خطير، لماذا تمكّنت الشعبوية منّا؟

واقع الحال أن الشعبوية التي نتكلّم عنها شعبوية متدنّية على سلّم الشّعبويات بإيلائها فهم الشعب إلى فهم الجمهور. فالشعبوية تاريخيا هي صناعة للشعب تصوّرا و تجييشا، وإن صانع الشعبوية هو المثقّف الشعبوي الذي يباشر في قيادة شعب يتخيّله على صورة تضارع ما لديه من موجودات أيديولوجيّة : تلك شعبوية الإسلاميين الذين يصورون الشعب على أنّه كتلة ورعة، تروم التواصل مع ماضي تقادم و ولّى. أما شعبوية جلّ المثقفين العلمانيين – ضمنا أم صراحة – فهي تفتقد إلى تصوير للشعب المراد: هي تستكين إلى الهدير، و هي بالتالي مفتقدة إلى مشروع سياسي كالمشروع الإسلامي الواضح المعالم و الأساليب- إلاّ صرخة الديمقراطيّة دون تعيين، و كأن الديمقراطية طلسم “جالب” لخلاص فرح، هذا و إن استثنينا غمغمة ما حول “الدولة المدنية” التي في مراوغتها و استبعادها عبارة العلمانية، تشي بتبعثر في البدايات لن يؤدي إلاّ إلى تقهقر في النهايات بفعل وضوح بالغ لدى القوى الإسلامية المعاندة لها وللتاريخ معا. فهي، أي القوى الإسلامية، ترى في كلّ مسلم بالولادة إسلاميّ الهوى في السياسة و الثقافة و المجتمع و القانون و الدستور، و هي بذلك قائمة على أسلمة المجتمع و هندسته اجتماعيا”، مع استخدام بالغ للعنف ذلك أن صورتها عن المجتمع مغايرة لما أصبح المجتمع عليه، وهي على هذا التوصيف أكثر من ندّ للقوى العلمانية المؤدية بمقدراتها و مقدّرات مجتمعاتها إلى الإبهام و الإحجام عن التعيين.

لا قوام لشعب الشعبوية إلاّ إن تحوّل من جمهور إلى مكون تاريخيّ فاعل ككتلة اجتماعية متضافرة الفعل بموجب فكرة سياسية ناظمة. و إذا كانت للإسلاميين فكرة عمّا سيؤول إليه الجمهور في تحوّله إلى شعب، فإن لدى القوى الأخرى فكرة هي على قدر كبير من الرخاوة، ترتجي من الديمقراطية وفاقا و “عهدا جماعيا ” ما قبل سياسي: من هنا كثرة الكلام في سورية، وهي مثالنا الرئيس هنا، على الأهمية التاريخية والإستراتيجية لهذا البلد – عن “مكونات الشعب السوري”، الكلام الذي تشجع عليه القوى الإسلامية و القوى الطائفية و الاثنية، الكردية و الأشورية و غيرها. والحال أن مآل خطاب كهذا في تجنّبه السياسة، يجعل من المواطنة ولاء للجماعات الأهلية بالولادة، ممّا يعني نفيا “ضمنيا” لفكرة المواطنة التي لا تقوم في واقعها التاريخي إلاّ على انتزاع الفرد من الجماعة الأهلية و انخراطه في سياق المواطنة السياسية جامعا “قوميا” لا اعتبار للأصل و الدم فيه : المواطنة باعتبارها رافعة تاريخيّة، في حال نجد فيه أنّ الشعبوية الرخوة ، ما قبل السياسيّة، إنما تؤدي إلى تفكّك عقد المواطنة، ما يؤدّي إلى النكوص الاجتماعي و السياسي و إلى الإمعان في هذا النكوص أدت إليه السياسات البعثية في سورية في العقود المنصرمة على نحو بينّاه في كتابات سابقة. و في هذا سوء تقدير لفحوى النتائج المرجوّة من الحراك الجماهيري، و هو الحراك الذي يرتجى منه الترقي، و ليس النكوص في وجهة تتوافق مع ما يتوق إليه النظام النيو ليبرالي العالمي في تشكلات سياسية في الأطراف تنتقص من فاعلية الدولة، كاشفة المجتمع على التفكك على نحو تشجع عليه المقالات ما بعد الحديثة حول الأصالة و استعادة الهوية، و تبثه أجهزة الثقافة و الإعلام العالمية و المنظمات غير الحكومية في خطابها حول التلقائية و الأصالة و الهويات الميكروسكوبية و الاقتدار و التواصل، إلى آخر ذلك مما نسمعه مرارا و تكرارا.

إن غياب العقل الفاحص عن الخطاب السياسي السوري، و العربي على نحو عام، واستغراقه في مديح الحراك دون تعيين، و إحجامه عن الاستشراف و التحليل في سياق شعبوية رومانسية ما قبل سياسية جامحة، هو بمثابة الإذعان للقضاء و القدر – و ما الكلام حول الهويات القارّة إلاّ ترجمة حديثة للقضاء والقدر. واعتبار الجماعات البشرية على أنّها فصائل حيوانية لا تتبدّل طبائعها. صحيح أن هذا الإحجام، بل الوجل المشوب ضمنيا بالتّخوّف، آيل عن إذعان بعدم المقدرة على الفعل معطوفا ” على غضب صرف من الأوضاع السائدة، و هو غضب مبرر و لو كان مشوبا بقدر من ضعف السيطرة على المشاعر. إلاّ أنّ هذا كلّه لا ينبغي أن يؤدي إلى تعطيل مقدرة التبصّر و إلى تعطيل مراد لإرادة التبصّر و لذلك، فإن القول المردّد على الدوام بأن الموقف الفصل لا يقوم إلاّ على الانتصار لـ”الثورة” أو على الانتصار للنظام قول قاصر، لا يسمح بمسافة تحليلية من الأحداث الجارية- و هي مسافة لا تعطّل الفعل. و هو قول لا نتيجة له إلاّ شلل العقل و إرادة الفعل معا”.

أما النظر إلى الأمام المنطوي على قدر من الاستشراف – مع صعوبة استشراف المستقبل في أوضاع جيّاشة بالتحوّل، و بامتزاج الجديد مع طبقات من التخلّف المتجدّد – فعليه الالتفات ليس فقط إلى نصاب السياسة ، بل إلى تموضع السياسة و تحالفاتها في سياق ما آلت إليه تحولات المجتمع. و إذا اعتبرنا أن نصاب السياسة في سورية قد تعرض إلى تخريب بنيوي في العقود الأربعة الأخيرة مع تعرّض ثقافة السياسة إلى انمحاق، فإن الإجابة على هذا الوضع لا تستقيم إذا آلينا بالموقع الفصل إلى الشارع. ذلك أن الشارع، أو الجمهور ما قبل السياسي، لا تماسك له إلاّ تماسك الوضع الذي أدّى إلى انفجاره، هو تماسك موضعي وأنّي تحكمه سوسيولوجيا الجمهور و سيكولوجيته، مما يجعله منكشفا أمام التملّق و الديماغوجية الصرفة. إنّ تماسك الجمهور تماسك ظرفي و “طبيعي” آيل عن المنشإ. أما الشعب فهو شأن آخر، فهو رابط سياسي مستمر عماده ليس المنشأ بل البرنامج الطويل الأمد.

يختلط المثقف الرومانسي الأول بالثاني، و هو مستعد لاعتبار الشعب ما استقر عليه الجمهور من اعتبار لذاته، في أفق معدوم الآفاق إلا ما تشي به اللّحظة أو العزيزة الاجتماعية .

 ******

و في النهاية ينبغي القول أن الدعوة إلى تأجيل النظر في شأن السياسة بينما يستفحل الوضع الداخليّ السوري – على الرغم من حسن النوايا و القدر الكبير من الوعي والحس العام البديّ – لا يؤدي إلا إلى الانجراف في المنحدر العراقي الذي يخشاه السوريّون . وإن النظرة العدمية إلى الدولة، بمسمياتها المختلفة، تلك النظرة التي أدت إلى تدمير العراق و التي ما شهدنا لها نظائر فعلية في تونس أو في مصر ، ليس من شأنها إلاّ عطف تأجيل النظر في السياسة على تدهور الحال في الداخل و جعله منفتحا على رغبة دول كبرى في الاطمئنان إلى القوى الإسلامية و استثناء غيرها في تصور مستقبل سورية .

إنّ ما نقترحه في هذه الفقرات هو عدم اعتبار العمل المباشر و الحراك المحلي منفصلا عن التفكير في السياسة وعن اعتبار إمكانيات المستقبل. إنّ ما ندعو إليه هو الدخول في هذا المجال بوعي، و ليس ببلاهة وافتتان. ما ندعو إليه و ما دعونا إليه في افتتاح هذه الكلمات ، هو التفكر والسلوك السياسيّان بدلا من امتداح التلقائية و الغريزة و الغضب والقنوط : و لوج هذا المجال بوعي و برؤية ، في سبيل إعادة بناء الدولة التي ضمرت و أصبحت مجرد أداة تنفيذية لاستباحة البلاد، و في سبيل استعادة السوريّين لمقدرات بلادهم و لإراداتهم و لتملك حيواتهم و مصائرهم و حرياتهم .

ذلك أنه في النهاية ليست الديمقراطية ” فشة خلق” و ليست طلسما “سياسيا” و “تاريخيا”. هي ليست شيمة أخلاقية و لا هي ابتسامة ملائكية . إن الديمقراطية ترتيب اجتماعي و سياسي علماني، مناطه المواطنة منزوعة عن الاعتبار الديني و الطائفي و العشائري و الجهوي، ومجالها الجسم السياسي المرجوّ. و إن كان للحراك، إن تحول إلى ثورة، أن يكون ذا معنى أو قيمة تتجاوز ماهو ناتج عنه من أوضاع، فإنّه لن يكون له معنى و لن تكون له قيمة، بل ستكون الدماء والتضحيات هباء منثورا، إن لم يكن رافعة للتقدم و الرقي بدلا من كونه – كما ترتجي بعض القوى – سبيلا إلى النكوص بالجسم السياسي السوري نحو ترتيب للمحاصصة الطائفية و العشائرية، أو نحو تمكين الدين و أربابه و أضرابه من الجسم السياسي و من تشكيل هذا الجسم بموجب الأهواء الإسلامية . لا يمكن التفريط بهذه التمايزات، أو تأجيل النظر و الفصل في ما قد يترتب عليه سياسيا، تحت عنوان الديمقراطية و التحالف و المصالحة و المشاركة.

ليست الديمقراطية وليدة ملائكية، بل نتيجة جدلية الصراع و الوفاق، و مناط الاثنين السلطة. لا يمكن ولوج هذا الباب على نحو مسؤول و كفء لمن سلم نفسه للمقادير باسم التلقائية واحترام الشارع و تضحياته، غير راغب في أن يرى وأن يسمع وأن ينطق.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى