صفحات العالم

الحرب السورية وخطرها على لبنان والمنطقة

 

سام منسّى *

يعترف مسؤول امني أميركي بأن أجهزة الاستخبارات الأميركية لم تحسم حتى الساعة، ما إذا كان نظام الرئيس السوري بشار الأسد على مشارف السقوط، أم أنه سيتمكّن من الصمود والبقاء طويلاً.

هذا التصريح قد لا يكون جديداً ، لكنّ أهمّيته تكمن في إظهار ما يمكن وصفه باستمرار نهج التردد و»عدم اليقين» الذي يطبع السياسة الأميركية في التعامل مع الأزمة السورية والملفات الملحقة بها.

وإذا كان «عدم اليقين» الأميركي هذا هو السمة الرئيسة في مقاربة الأحداث في سورية، فالسؤال البديهي الذي يفرض نفسه على اللبنانيين هو: ماذا عن الموقف الأميركي من الوضع في لبنان؟

رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية مارتن دمبسي، أعلن خلال الاجتماعات الأخيرة لحلف شمال الأطلسي في ألمانيا، أن الأزمة السورية تتطلب عقوداً طويلة لمعالجتها ووقف نزيفها، ما سيشعل نزاعات خطيرة في دول مجاورة وفي مقدمها لبنان والعراق. ويقول مسؤول أميركي آخر إن كلفة النزاع السوري ستكون انعكاساتها تاريخية، وإن معظم الأطراف العربية والخليجية والداخلية المنخرطة فيها، لا تخوض الحرب ضدّ نظام الأسد برؤية استراتيجية واضحة، على عكس إيران و»حزب الله» اللذين يعتبران انتصار النفوذ السنيّ يعني نهاية لنفوذهما. ويعتبر مسؤول ثالث، أنه، بغضّ النظر عن السيناريوات المطروحة لنهاية الأزمة السورية، فهي ستفجرّ حروباً طويلة ومديدة بين السنة والشيعة والأكراد والدروز والأقليات الصغيرة في المنطقة. فهل يبشر الأميركيون بنهاية الدول والأنظمة التي قامت في المنطقة لأكثر من نصف قرن، بمعزل عن هويتها الاستبدادية والمركزية، لمصلحة نظم فيديرالية تقوم على اللامركزية؟

إذا كان هذا التقدير هو السائد في واشنطن، فالسؤال المطروح هو: أين لبنان من كل هذا، وكيف يمكن أن يصمد في ظل هذه التقديرات السوداوية تجاه الأزمة السورية وانسحاباتها؟ وهل يتحمل تلك الكلفة التي يبدو حتى اللحظة أن لا شيء سيحول دون أن تكون ضخمة، في ظل قصور ردود الفعل الدولية والغربية والإحجام الأميركي المتمادي عن إجراء تغيير جدي في مسار الأحداث ؟ ماذا بقي من وزن للبنان على خريطة تشابك المصالح الدولية؟

غالب الظن أن «قضية» لبنان لم تعد بالأهمية التي كانت عليها سابقاً، أقلّه خلال السنوات السبع الماضية حين كانت بيروت لا تغيب عن خطاب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، واستشهاده الدائم «بثورة الأرز» عند حديثه عن نموذج التغيير الديموقراطي في المنطقة. في المقابل، هناك من يعتبر أن لبنان لايزال يمثل ضرورة قائمة بحدّ بذاتها، ومكاناً للتعدد الطائفي ولدور الطوائف المسيحية في الشرق الأوسط.

ولكن، ما هي ضمانة بقاء لبنان موحداً أمام الأخطار المحدقة بالأقليات المسيحية وغيرها في المنطقة، منذ حرب العراق وصولاً إلى ثورات «الربيع العربي»، وأمام خطر تفتت الدول العربية الذي تتنقل عدواه من ليبيا إلى مصر إلى سورية إلى العراق، وفي ظلّ الصراع الكبير بين السنة والشيعة في المنطقة بأكملها، وسط انهيار مفهوم الولاء للوطن والدولة لمصلحة تعزيز الولاء والانتماء إلى الجماعة؟

هناك من يعتبر أن لبنان بات يتمتع بنوع من المناعة ضد تجدّد الحرب الأهلية فيه، مع الاعتقاد المشكوك في صحّته بأنها كانت حرب الآخرين على أرضه. لكن، أمام احتمال انفلات الصراع بين المكونين الطائفيين الرئيسيين فيه، هل لا يزال هذا الاقتناع مجدياً؟

البعض يقول إن سياسة «تدوير» الزوايا التي باتت سمة من سمات العمل السياسي في لبنان، تؤشر إلى أن سياسييه ليسوا انتحاريين وباتوا أكثر عقلانية. لكن هل يحتمل لبنان هذا التورط غير المحدود في الأزمة السورية، على الأقل من الطرف اللبناني الأكثر حضوراً وتأثيراً وسلطة، أي «حزب الله»؟

هناك حال من عدم اليقين تخيم على طبيعة المظلة التي لا تزال تؤمّن الحماية للبنان، وعلى مدى حاجة الغرب إليه. غير أن ما يضمن عدم انهيار تلك المظلة هو الحاجة التي يجسّدها الحضور الغربي ممثلاً بالقوات الدولية، لتأمين الحدود مع إسرائيل. بهذا المعنى، إسرائيل هي التي تتمسك حتى الساعة بتلك المظلة، مادام مستقبل الصراع الدائر على حدودها الشمالية، سواء من ناحية سورية أم لبنان، لم تحسم وُجهته بعد.

قد يقول البعض إن فائدة اقتصادية وثقافية لاتزال تُرتجى للبنان، غير أن نحو أربعين عاماً من الحروب الساخنة والباردة التي لا يزال يعيشها، وانهيار دوره الاقتصادي لمصلحة مراكز متوسطية مُدُنية أكبر وأهمّ وأكثر استقراراً، كدبي والدوحة وغيرهما مثلاً، وضعته في خانة متخلفة جداً عن اللحاق بالطفرات الاقتصادية التي شهدتها المنطقة خلال موجات متتابعة، وأبقته خارجها على الدوام.

اليوم، وفي ظلّ التقديرات التي تتحدث عن إمكان سقوط النظام السوري، سواء كان هذا السقوط عاماً أم في شكل انتقال إلى مناطق «دويلته العلوية»، فإن مصير لبنان سيبقى معلقاً على تداعيات القرار الذي سيأخذه الطرف المهيمن فيه، أي حزب الله، الذي تبقى إيران محركه الأساس في خضم الصراع الإقليمي القائم. وعلى رغم اعتبار البعض أن استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وتكليف النائب تمام سلام تشكيل حكومة جديدة، يشكّلان بداية انهيار جزئي لمنظومة السيطرة التي كانت تمارسها سورية على لبنان، لا يمكن وضع ما حصل أخيراً إلا في خانة سياسة التهدئة التي تمارسها القيادة الإيرانية في هذه المرحلة، استعداداً لانتخاباتها المقبلة، ومحاولة منها لتجميع الأوراق قبيل وخلال الوصول إلى اتفاق مع الدول الكبرى في المفاوضات حول ملفها النووي ودورها السياسي والإقليمي.

أغلب الظن أن التعثر سيستمر السمة الأساس لهذه المفاوضات، إذ من ناحية، لم يصل مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي بعد إلى مرحلة تسديد الثمن ويعتقد أن التهويل الإسرائيلي لا يزال تحمّله ممكناً، حيث لا إجماع إسرائيلياً على توجيه ضربة لبلاده. ومن ناحية أخرى، لايزال الغرب يعتقد أن إيران تتمتع بعقلانية تحول دون تهوّرها وتتقن حتى الساعة اللعب على حافة الهاوية.

يبقى أن من يدفع كلفة هذه السياسة هم العرب بعامة ودول الخليج بخاصة، وكلما انعدمت الثقة عندهم وزادت مخاوفهم، وجد العرب صعوبة في إعادة التموضع، وبخاصة أن الإسلام السني الجهادي أو المقاتل لم يعد حصاناً رابحاً كما كان خلال الحرب الباردة. لست من المقتنعين حتى الساعة بأن الولايات المتحدة ستقدّم تنازلاً سياسياً لإيران وتصل إلى اتفاق معها على حساب دول الخليج، على رغم الحديث عن تراجع دور النفط الخليجي في سياسة الولايات المتحدة الخارجية.

فالتحركات السياسية والإقليمية والدولية، لا سيما الأميركية منها الجارية منذ مدة، توحي بأن عملية تطويق سياسية تحصل لموقع إيران في المنطقة، بدءاً بنشر بطاريات صواريخ الباتريوت على الحدود التركية – السورية، مروراً بالمصالحة التركية – الإسرائيلية، وتوقيع الاتفاق التركي مع أكراد عبد الله أوجلان والاتفاقات التركية مع أكراد العراق، وتثبيت الحل العربي الخليجي في اليمن، وصولاً إلى اللقاءات المرتقبة للعديد من الزعماء في المنطقة مع الرئيس الأميركي، والجولة الجديدة لوزير الخارجية الأميركية جون كيري في المنطقة لتفعيل ملف السلام الفلسطيني – الإسرائيلي.

في المقابل، لا شك في أن دور إيران في المنطقة إلى انكماش، حيث فقد الإيرانيون الكثير من صدقية دورهم كحامل راية المقاومة ضد إسرائيل، لاسيما بعد انغماسهم العلني و «حزب الله» في الحرب الدائرة في سورية وتحول ارض الشام إلى مستنقع قد لا يمكن لطهران وحزب الله الخروج منه. حتى أن دورهم في العراق ومحاولات تمددهم وتدخّلهم في دول الخليج وصولاً إلى أفريقيا، يتعرّض للاهتزاز والقضم.

وعلى رغم هذا المدّ والجزر، يبقى من الحكمة إغفال أنه قد يكون من الخطأ عدم رؤية مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل في إبقاء هذا «البعبع» الفارسي حياً، إذ من قال إن الغرب بعامة لا يستفيد من تخوّف العرب ودول أخرى في المنطقة من إيران؟

فهذا البعبع الفارسي فرض المصالحة التركية الإسرائيلية، والبعبع الإيراني هزّ العلاقات المصرية الخليجية، وهو يبقي على مسوغات إسرائيل بالتفوق العسكري في ظل انعدام أي تهديد عربي باتجاهها، ويبقي اللعب بورقة الصراع الشيعي – السني في المنطقة بيدها. والأهم أن وجود إيران والدور الذي تمثله يشكلان أرضية لإعادة تركيب خريطة جيوسياسية جديدة للمنطقة تغيب عنها دول مدنية تاريخية وتظهر مكانها دويلات طائفية وعرقية.

من هنا، وفي ظل التغييرات الميدانية الجارية في سورية، يصبح السؤال حول إذا ما كانت السياسة الأميركية المتبعة حيال سورية مقصودة بذاتها مشروعاً، نظراً إلى المكاسب التي يمكن تحقيقها، سواء تجاه سورية ومستقبلها نفسه أو تجاه إسرائيل وأمنها أو تجاه إيران ودورها أو تجاه دول الخليج حيث سقط النفط من عليائه ولم يعد الإسلام السني الجهادي أو المقاتل حصاناً رابحاً كما كان خلال الحرب الباردة.

إذا سقط النظام في سورية، ما هي قدرة إيران و«حزب الله» على استمرار الهيمنة، ليس فقط على لبنان بل على العراق أيضاً؟

لكن في المقابل، ما الضامن في أن لا تغرق المنطقة كلها في حرب الهويات الطائفية التي قد تحرق دولاً عدة فيها؟ أين لبنان من هذه الصورة؟ وهل الجهات التي ترغب في مساعدة لبنان، سوف تساعده على ما يتربص به من عوامل خارجية، أم أن العلة الأهم والأخطر ما يتربص به من أخطار داخلية تعقّد المساحات المتاحة للمساعدة.

* إعلامي لبناني

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى